أصاب الفيروسُ شجرةَ مراكش وارفة الظلال، غنية الثمار، فمحا ليلَها، وشل نهارها... ثم تسرب إلى جذورها الممتدة نحو عوالم السياحة والاقتصاد، ومنعَ إكسير الحياة الذي ظلت تَنفُثُه بركات ستّي فاضمة وأوريكة وأوكيمدن...
عبرتُ شارع الفاسي الذي بدا كعملاق يتفوه في كسل صباح السبت، وودعتُ صديقي السيمو المقاول الشاب... نغماتُه حزينة، وكلماتُه تَصُكَّ مسمعي: أخطبوط الأزمة يطبق على قطاع العقار... ثم توجهت إلى سيارة الأجرة الكبيرة بمحطة "السعادة"، في اتجاه الساحة التي يَفْتِلُ الحَكَواتي خيوط أنينها بإتقان.
قفز السائق من مكانه وفتح الباب بقفاز من حرير الترحيب، ولما تحركتُ استعدادا لطلب الوقوف، خيَّرني في أي مكان أريد، قانوني وغير قانوني... وبالفعل كان ما كان، عكس طاكسي العودة والذي كان صاحبه عنيفا متوترا، عشرات المرات قبضتُ على قلبي خوفا من أن يصطدم بالآخرين. وبمجرد أن تهم بقطع الشارع، يمهل الطاكسي الصغير سيره في انتظار إشارتك للوقوف، ثم ينصرف في هدوء... لم تعد له نظرة شزْراء ولا أنياب حمراء، ولم يعد يصعّر خده للناس، وكأنه لأول مرة يعرف أن لا فرق بين مواطن مغربي وسائح أجنبي إلا بالتقوى.

مجرد ثوانٍ قليلة غيرت كل شيء في حياته، بعثرت كل أوراقه التي قضى عمره تعبا في ترتيبها. كان ممددا على أريكته، ثم فجأة اهتز كل ما اعتبره طوال عمره ساكنا ثابتا، خانه كل ما أمده بالطمأنينة والأمان، اهتزت الأرض والبيت والجدران.
ما هي إلا ثوانٍ حتى وجد نفسه في قبرٍ ضيقٍ تحت ركامٍ ضخمٍ من صخور بيته الذي طالما آواه، رُكام يمنعه من الحركة ويكتم أنفاسه، ظلام حالك دامس وصمت مُطبق، لا حركة ولا سكون، لاشيء. إنها لحظة طالما سمع آخرين عاشوها، ومع ذلك لم يتوقعها يوما، كان هناك دائما صوت بداخله يخبره أنه استثناء، أنه مختلف أنه "لا يموت"، حتى عندما تخيل بيته يتصدع ويكاد يهوي، اعتقد بسذاجة أن الجري نحو السلالم أمر في المتناول وسينقده وينجيه.

في أول يوم من أيام الربيع، صوبت نظري نحو أوراق شجيرات أينعت وزهور بدأت تتفتح وتذكرت سريعا كيف كانت تُفاجئها أشعة الشمس فتصفر وتتحلّل وتنثرها الريّح على طول الطريق. ها إنّي أتلقف مشهد الطّبيعة الاحتفالي لمواجهة هذا الفراغ الذي كان يحدثه التحلّل، فالموت. وأذهب واثقا إلى الامتلاء المتجدد في دورته، استنهض الحياة التي تكمن في كلّ شيء، فاكتنزه واخزنه حتّى نرى الوجود جميلا، ذلك أن من امتلأ باخضرار الطبيعة، لن يضعف تحت لهيب الحرّ ولن يحترق عندما تهجم عليه دودة تقرض حلمه.
حاولت أن أفرغ الفراغ من الفراغ، فيكون لذلك أصوات وأصوات. عندها كانت لي صولات وصولات، مهما صدّتني قوة المجهول أقفز وأغامر لأتجلى أو أنجلي مرددا: الخلاص الخلاص في فلك التأملاّت، فما بعدها يكون التيه أسهل طريق أتخذه سبيلا لنفسي اللوّامة التي تردد مرات ومرات: "لغيري أن يستسلم عن ضعف وجهل، أمّا أنا وإن نهشني الألم والموت فلن أستسلم مادام فوق قدرتي قدرة، وفوق معرفتي معرفة، "

أليست فكرة الانفصال فكرة سيئة، وقد تكون من الغباوة بمكان، لكن الانسان كائن غبي في هذه المسائل، ولأني إنسان فلم أسلم من أفكار الانفصال هذه، وقد حاولت بجهد أن انفصل ولكني اكتشفت عمق الحماقة التي احاولها.
الموت نفسه لا يمكن ان يكون نوعا من الانفصال، عندما نعرف هذا نجد انه من الحماقة التحدث عن الانفصال. إننا دوما متصلين، متواصلين رغم اختلاف اشكال تواصلنا واتصالنا.
أفكر جيدا في المسألة فأجد أني انسان يحب وحدته، يحب ان يكون منفردا وافكر كيف انهي كل اتصالاتي مع الناس من حولي، ولكن ما إن اكون وسط الاخرين حتى انسى كل شيء. يستحيل على الانسان ان يكون منفصلا، انه يحمل معه كل الأشياء، يحمل معه ذاكرته ووجدانه. ونحن الضعفاء وحدنا نسعى الى هذا، اننا في الحقيقة لا نستطيع تحمل عبء كل ما نحمله من حساسية مفرطة، ولكن أليس من الحماقة بمكان محاولة الانسان الانسلاخ من ذاته من ذاكرته، من شعوره.

رفعت رأسي ورأيتهم يتراقصون بأجساد مرتعشة، كانوا صفاً من المجذوبين يتسربون تباعاً في جوف حياتي الفارغة، استغرقني المشهد فأطرقت مصغياً لحفيفٍ تبعثه إرتعاشاتهم في داخلي،إستشعرت برغبة مرتبكة تحثني على النهوض،حاولت ولم أقوَ،أرخيت جسدي المأسور بالدهشة لقامة امرأة استقامت بغتة في فضائي المشوش،رأيتها تحدثهم بما كان وما سيكون وسمعتها تطلق نبوءة إستقرت في رأسي كالصفير:
سوف يلد الدجاج !
لم أعرَ النبوءة أدنى اهتمام واعتبرتها هذراً عابراً،أخذت أتفرس في هيئتها صامتاً،شاهدتها تطلسم لهم بجسدها البض،تنحني فينحنون وتعتدل فيعتدلون،ترفع كفها عاليةً فينحلّ المتحشدون الى الفراغ، يعتريهم الغياب ويغدون في تلاشيهم فضاءً أجرد، مخلفين وراءهم مصيري المجهول غائماً في عرائها الفسيح،أتابع بنظرات زائغة تفاصيل جسدها الممتلئ من الأسفل،أراها تحدق من الأعلى في جسدي النحيف فينتابني الفزع من نظراتها الهابطة،أغيب بمشهدٍ لم يألفه جسدي من قبل،جسدي المخفوق بالرغبة يرتعش،فمي المزموم على المحظور يزبد وعلى صدري ينسال دائي الرائب أزرقاً كالموت،تسري قشعريرة لذيذة في جسدي المطروح ويباغتني فجأة صوتها السحري آمراً:
إنهض!؟

الذكريات عالم شفاف رقيق أشبه بطيف الأحلام، لا هو بالعالم المادي الحقيقي الواقعي، ولا هو بالعالم المزيف المتوهم. أحيانا أنغمس فيه لأسترجع شيئا من لحظاتٍ بعيدة من حياتي كانت قد ضاعت مني. أُلملمها لأتعرف على نفسي التي لم أعد أعرف. فمنها سهول وحدائق مزهرة، ومنها جبال وعرة باردة، ومنها كهوف مظلمة مخيفة، لكن من بين كل أراضي الذكريات المسترجعة هناك ذكرى مختلفة. تعود لأيام الطفولة وما قبل الوعي. حيث كانت الحقيقة بسيطة. أعيشها لذاتها دون محاولة فهم أو صياغة أو تبرير أو تنميق. إنها ذكرى متكررة. كلما استمعت لأغنية لمشاهب "رْسَامِي" أجدها تنبعث من جديد من اللامكان وكأنها مبثوثة في كل ثنايا هذا العالم، تزورني في كل مرة حاملة بين يديها إحساس فريد يتدفق في قلبي بغصة لذيذة غريبة عصية على الفهم. لا أعرف ما هو سر هذه الذكرى، خصوصا أنني كلما استرجعتها وقلبتها لم أجد فيها شيئا يستحق الذكر، مجرد ذكرى عادية.

بويا: كلما حلّ فبراير..
تملّكني الذهول وتخيّلتُ نفسي أنني أنتَ

كان الضباب كثيفا وهو يزحف بلا مبالاة على أعتاب فجر منتصف فبراير، ولعله من ذهوله أحب أن يجرب السهو ويتخيل كثافته مخلوقا يسير فوق الأرض، ومن حين لآخر يرفعُ رأسه نحو السماء فيراكَ ويراني.
ارفعْ رأسك عاليا.. فالغيث يُمطر من السماء. كن شامخا فنحن أيضا مثل النبات والشجر نرتوي لننمو ونعلو وجذورنا راسخة في الأرض.
ها أنا أشتاق إليك بشدة، فتمتلئ عيناي بدمع ساخن. ألتفتُ مُداريا جريان رقرقتها، كما فعلتْ كل الطيور يوم افتقدتْ هباتكَ لها.وحدي.. وأخفي دمعي، أخشى أن تراني فتنهر ضعفي. أخبيءُ شوقي لكما، فأنحني وأرسم بيدي، فوق التراب، فرسا أسود اللون بغُرّته البيضاء كأنها نوارة لوز في نهاية فبراير، ثم أصيح فيه وقد استعدتُ ضحكتي على هذا اللعب:أيْ انهض، فينهض شامخا وهو ينفض عنه غبار الخيال، ثم يلتفتُ نحوي ، فأرتمي فوقه ليأخذني إليك هناك في أي مكان، حيث كل الأمكنة هنا طاهرة.
ليتني أقدمُ لك ماءَ المطر ونجوم الفجر وصمت النهر في منعرجاته وحبات القرنفل الناضجة والريحان، ومجامر من طين تطلع منها بخور بطعم لون عيون أمي.

على ذلك الجدار، في تلك الزاوية، داخل الإطار، هناك امرأة قروية في لباسها الزهري، تحمل طبق خبز شهي فوق رأسها، يمتزج لونه القمحي بضفيرة شعرها البني، تكاد إحدى قدميها تطفو فوق الأشياء حولها، ينساب الماء على أطرافها بلطف ملتحما ببشرتها البيضاء الميالة إلى الاحمرار، جاعلا من الأفق فسحة فضية تبهر الناظرين، تنبعث من جسدها الممشوق عذوبة خضبها النهر بقدسيته لترفرف في عالم ملائكي رفيع وتطير في الأفق مع عذرية الفضاء والإنسان والأرض.
تقدم نحوي وربت على كتفي. لم التفت.
رسمها جمادا فحركت تفاصيلها بأحاسيسي المرهفة وذكرياتي الخالدة؛ فصارت خارج الإطار، تتبعتها بشغف وهي تتنقل بين أروقة المعرض، وحيدة بين اللوحات، تتلألأ وسط ظلمة المكان وتطبع العيون بسحر سرمدي يخطف القلوب.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة