أنا الذي تجاوزتُ كل الخطوط المرسومة لي، تجاوزتُ كل خطوط الانطلاق، كنتُ أركض دونما سبب وجيه، أحسبني أطوي المسافات، وأنا ما دريتُ أن الحزن مسافات..  تحاملتُ على نفسي، وأعلنتُ العصيان، لم أكن أملك غير قلبي؛ تذبحه غصص مؤلمة، وانكسارات ملتهبة وتنازلات موجعة.

تتملكني -الآن- رغبة متوحشة لأنْ أعبر كل الصحاري والوهاد والبحار... لأنْ أغرق للأبد... لأنْ أصمت أمام حضرة الفراغ، لأنْ أرمق الحياة بنظرة كره وسخرية، لأنْ أعريَّ كل هذه الآمال الزائفة من ثيابها... لأنْ أشطب كلَّ اللافتات وأحرق كل بقايا النبوءات المتسكعة...

وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضيا سابقا فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.

"إنه قلبي.. البلد الأكثر حسرة"
جيوزيبي أونغاريتي
أنت الذي كنت هناك وربما لا تزال. أنت، نعم أنت. أنت الذي انزلقت مع الفجر وبعض الطيور المهاجرة بعيدا. مررت من هناك، وها أنت الآن تمر من هنا نحو الأفق الذي لا نكاد نراه نحن اللاشيئيون، الأقزام اللذين لا يصلحون سوى لترتيب الذاكرة وكثير من الحزن ووعد بدوي بالبقاء. أي وعد هذا الذي ترمي به بدوية تحمل قمرا قديما يضيء حينا وينام أحيانا كثيرة؟ البدوية التي تحب القمر وتمقته حين يرتاح، و ترمي بخيمتها المزوقة تحت صدريتها الجديدة، كما ترمي الجدات القطع النقدية ؛ بلا مبالاة ومعرفة قديمة بأنها ستنفذ اليوم أو غدا. الوعد الذي ينسى كما قيظ الظهيرة حين تمطر للدرجة التي يضع فيها أهالي القرية كلب حراسة جنب النهر. هوالوعد نفسه الذي يسبق دموعا قليلة مقابل مصلحة التأشير على الجوازات بمطار بعيد وبارد ربما. يحدث كثيرا أن يشبه قيلولتها السريعة في سيارتها السوداء، حين تتنكر لأحاديث البعيدين، وحين يصير نهدين متوسطي الحجم كبطيخ صيف قريتها. وحين تسود الشقة السفلى بدون سابق إنذار.

وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضٍ سابق فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.

مقدمة:
تعود فاطمة بعد أربعة سنوات حيث تقاطر عرقها حبات، حبات، وتعالى غناؤها وماجت أناتها صدىً، وهي تذرع المسارب والرفقة تجني حلو الثمرات، فرولة كالدم قانية، وحلوة كالشهد مذاقا، تداري الضنك وراء بسماتها الشاحبة، وتقوّم صبرها الواهن بحمدلاتها المتواصلة؛ وتقف على حدود عرزال متهالك، تتأمل الأرض الجرداء المنبسطة أمامها، ثم تغمغم:
ـ من كان يساوره أن هذه الضيعة تصير خالية على عروشها، وكأن لا ماء جرى فوقها، ولا يد قطفت ثمارها، ولا كان لها مجد وخبر.؟!
في اللحظة ذاتها تقف (مرسديس) بيضاء، يترجل راكبها ، ويقف قرب فاطمة، ثم يبادرها يالسؤال:
ـ أما زلت تحنين لتلك الأيام الخوالي، يا فاطمة، ليتها تعود ونبدأ من جديد، وأكون... أفضل مما كنت عليه...آه... مني آه..!
تلوذ بالصمت، وكأنها ما سمعت، بل وكأن الحاضر لا وجود له...!

الساحةُ جرداءَ محفرة، والتَّضاريسُ منبسطة والهضاب والتِّلالُ تغيرت بشكلٍ مفاجئٍ فأصبحت حادة ومدببة، وأكوامٌ من الأتربةِ تمترسَتْ في كلِّ مكانٍ، كروابي فوقها طفيليات وأشواك وبقايا قُمامة ظهرَت على حينِ غرَّةٍ كحاجزٍ رماديٍّ خَلْفَ الأبنيةِ المشَكِّلَةِ لأحزمةٍ حمراءَ تبدُو متراميةَ الأطرافِ هُناكَ...
وسطَ السَّاحةِ قُبالةَ السُّوقِ جلَس "لْعَرْبي" القُرفُصاءَ واضعاً حصيرةً بلاستيكية وعليها بضعةُ ملاعقَ وفُرشاة أسنانٍ وساعة يدوية بالية، قناديل، وعملات ورقية قديمة، ونقود وميداليات وأطباق فضية، وقفلا بدون مفاتيح، وأنابيب مكسرة، وقطع نقدية قديمة، وبعضُ العقيقِ، وصور ألبومات، وطنجرة سوداء، وتماثيل برونزية وفضية، وأخرى متوسطة الحجْمِ مذَهَّبَةَ اللَّونِ، وأقراص مدمجة باهتة، ولوحات، ودمية صلعاء شاحبة بلا أعين، وبعض المجلات وصور إعلانات فقدت ألوانها من أثَرِ الغُبارِ وحرارةِ الشَّمسِ....

هناك أنا آخر بداخله، أنا هذا يشده حتى كأنَّهُ لا يستطيعُ التنفس، يجرُّهُ إليه، يسحبه إلى الداخلِ، إلى أعماقه بقوة وبلا هوادة، صرخ بكل قواه، فردَّ عليه الصَّدى القابعُ وراءه...
تغوص أناه، تسحب أظافرها التي كانت قد غرَسَتْها حول رقبتهِ حتى كادت تزهق روحه...صارت تنظر إليه شزرى من داخلِ عينيهِ الجاحظتين، ولم يكنْ ليرَى وهو داخل في أعماقه...!! وبكثيرٍ من الريبةِ والهذَيان يتساءلُ: لم هذا البناء الشامخ بدون باب أو فتحة؟ وكيف وجدت هنا؟ كأنَّه عالمٌ بلا منفذ، احتجز فيه وأحاطه من كل جانب، استرجع ما شهدته جدرانُ زِنزانَتِه من خربشات وخطوط ظل يرسمها دهراً طويلا، يُفْرِغُ فيها ضَمارَهُ الداخلي، وينفثُ فيها آهاتِه المحمومة، أما نوره الباهرُ الذي يمحو ويبدِّدُ الظَّلامَ فكان من الأعلى....

يلاطفها ويهمس لها بكلمات، تهرب منه ويركض نحوها، يناديه أحدهم؛ فيمتنع. يصعدان منحدرات الحديقة سويا ثم يتزحلقان سويا، يتبادلان الكرة والنظرات، يزعجهما أحد الشباب بدعوى مشاركتهم اللعب؛ فينصرفان عنه ويتركان له الكرة وأشياء أخرى.
من بعيد أتأمل حركاتهما وأراقب تصرفاتهما وأتساءل كيف لهما أن ينجذبا إلى بعضهما في أول لقاء، في محطة الاستراحة هذه، في مدينة أعلم أنها أول مرة تمر حولها؟
لعلها الأوهام يا سيدي ليس إلا؟ ابنتك ما زالت صغيرة، وما تلك الحرارة المنبثقة من جسديهما سوى هلوسة رشحت من ماضيك البعيد، هما يلعبان فقط لم تنفرد به وهو لم يفعل.. فقط هي الذكرى لم تنفك تتجسد أمامك في كل لحظة سعادة لتحولها إلى بؤس وشقاء...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة