" عُد بي إلى حيث كُنت قبل أن ألتقيك ، ثم ارحل"
محمود درويش
يحدث كثيرا أن يسترق السمع لأصوات الطيور صباحا، حين يصادف أن يؤجل موته المؤقت، وحين يستفزه شيء كان ويحدث بقدرة ذاكرته أن يعود، أن يكون، أن يصير، أن يسافر في الزمن: أن يكتسي لحمه ودمه بعد أن فني وانتهى. يحدث أن يصرخ بأعلى صوته مثل الطيور التي تلاعب بشغب هواء هذا الصباح. يحدث أن تتحول الفكرة الثقيلة إلى جيش نمل مسلح، ليعيث فسادا في طمأنينة عالمه الأزرق المتواتر والهادئ. يحدث أن يكون شاهدا على دماره بنفسه. يرمي بصره في اتجاه الجبل المتوج بالريح: سماء هذا الصباح ضيقة ومراوغة على غير العادة.
صخب الصخور – قصة: الحسين لحفاوي
"إن حب الأولاد ليس نابعا من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية".
غابريال غارسيا ماركيز.
المسافة بين الحلم والواقع قد لا تتخطى حدود المسافة الفاصلة بين الإغفاءة واليقظة. والوقوف على حافة الذكريات لا يعدو إلا أن يكون وقوفا على شفا هاوية سحيقة لا ترى العين نهايتها.
نزعت أنهار حذاءها بخفة ووضعته تحت المظلة فبدا بكعبه العالي كأنه حارس أمين يحرس بقية أثوابها التي كومتها بعناية فائقة، وقررت أن تسير بمحاذاة البحر حافية القدمين، فهي تحب أن تترك لجسدها بين الحين والآخر أن يتحرر، فتخلصه من سطوة الملابس الضيقة وهيمنتها عليه، وتترك له مساحة من الحرية لا يحدها حد، تتحدى خجلها، ويغيب العالم من حولها، ترى الجميع يحدقون إليها، يخترقون بقية الثوب الذي يستر اليسير من مفاتنها، لكنها لم تكن تحفل بهم. توهم نفسها أن جميع العيون فاقدة القدرة على الإبصار. فجأة يتحول الناس إلى مجموعة من العميان يسيرون حولها على غير هدى. أعينهم مفتوحة لكن لا ترى شيئا. يتناهى إلى سمعها همسهم وأصواتهم ونداءات أجسامهم المترهلة، لكنها لم تكن تصغي سوى لصوت شعرها المبعثر على كتفيها وعنقها، وقد غطت خصلة منه جزءا من نهدها الأيسر النافر الصارخ أنوثة وغواية. لم تلتفت إلى الأيادي التي لوحت لها، ولم تحفل بمن رغب مشاركتها المشي. هي تحب السير وحيدة على الشاطئ، لا تريد من أحد مرافقتها، تخشى منذ فارقها زوجها الاقتراب من الآخرين. تكره هؤلاء الآخرين حد المقت.
صرير الباب... - نص: عمر بن عيسى
أنا الذي تجاوزتُ كل الخطوط المرسومة لي، تجاوزتُ كل خطوط الانطلاق، كنتُ أركض دونما سبب وجيه، أحسبني أطوي المسافات، وأنا ما دريتُ أن الحزن مسافات.. تحاملتُ على نفسي، وأعلنتُ العصيان، لم أكن أملك غير قلبي؛ تذبحه غصص مؤلمة، وانكسارات ملتهبة وتنازلات موجعة.
تتملكني -الآن- رغبة متوحشة لأنْ أعبر كل الصحاري والوهاد والبحار... لأنْ أغرق للأبد... لأنْ أصمت أمام حضرة الفراغ، لأنْ أرمق الحياة بنظرة كره وسخرية، لأنْ أعريَّ كل هذه الآمال الزائفة من ثيابها... لأنْ أشطب كلَّ اللافتات وأحرق كل بقايا النبوءات المتسكعة...
ضربة قاضية - قصة: ضياء الدين عثمان
وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضيا سابقا فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.
الراوي الذي لا يحب النهر – قصة : يونس طير
"إنه قلبي.. البلد الأكثر حسرة"
جيوزيبي أونغاريتي
أنت الذي كنت هناك وربما لا تزال. أنت، نعم أنت. أنت الذي انزلقت مع الفجر وبعض الطيور المهاجرة بعيدا. مررت من هناك، وها أنت الآن تمر من هنا نحو الأفق الذي لا نكاد نراه نحن اللاشيئيون، الأقزام اللذين لا يصلحون سوى لترتيب الذاكرة وكثير من الحزن ووعد بدوي بالبقاء. أي وعد هذا الذي ترمي به بدوية تحمل قمرا قديما يضيء حينا وينام أحيانا كثيرة؟ البدوية التي تحب القمر وتمقته حين يرتاح، و ترمي بخيمتها المزوقة تحت صدريتها الجديدة، كما ترمي الجدات القطع النقدية ؛ بلا مبالاة ومعرفة قديمة بأنها ستنفذ اليوم أو غدا. الوعد الذي ينسى كما قيظ الظهيرة حين تمطر للدرجة التي يضع فيها أهالي القرية كلب حراسة جنب النهر. هوالوعد نفسه الذي يسبق دموعا قليلة مقابل مصلحة التأشير على الجوازات بمطار بعيد وبارد ربما. يحدث كثيرا أن يشبه قيلولتها السريعة في سيارتها السوداء، حين تتنكر لأحاديث البعيدين، وحين يصير نهدين متوسطي الحجم كبطيخ صيف قريتها. وحين تسود الشقة السفلى بدون سابق إنذار.
ضربة قاضية - ضياء الدين عثمان
وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضٍ سابق فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.
طيور المجذوب – قصة: حدريوي مصطفى
مقدمة:
تعود فاطمة بعد أربعة سنوات حيث تقاطر عرقها حبات، حبات، وتعالى غناؤها وماجت أناتها صدىً، وهي تذرع المسارب والرفقة تجني حلو الثمرات، فرولة كالدم قانية، وحلوة كالشهد مذاقا، تداري الضنك وراء بسماتها الشاحبة، وتقوّم صبرها الواهن بحمدلاتها المتواصلة؛ وتقف على حدود عرزال متهالك، تتأمل الأرض الجرداء المنبسطة أمامها، ثم تغمغم:
ـ من كان يساوره أن هذه الضيعة تصير خالية على عروشها، وكأن لا ماء جرى فوقها، ولا يد قطفت ثمارها، ولا كان لها مجد وخبر.؟!
في اللحظة ذاتها تقف (مرسديس) بيضاء، يترجل راكبها ، ويقف قرب فاطمة، ثم يبادرها يالسؤال:
ـ أما زلت تحنين لتلك الأيام الخوالي، يا فاطمة، ليتها تعود ونبدأ من جديد، وأكون... أفضل مما كنت عليه...آه... مني آه..!
تلوذ بالصمت، وكأنها ما سمعت، بل وكأن الحاضر لا وجود له...!
طيف ابتسامة...! – قصة: محمد ايت علو
الساحةُ جرداءَ محفرة، والتَّضاريسُ منبسطة والهضاب والتِّلالُ تغيرت بشكلٍ مفاجئٍ فأصبحت حادة ومدببة، وأكوامٌ من الأتربةِ تمترسَتْ في كلِّ مكانٍ، كروابي فوقها طفيليات وأشواك وبقايا قُمامة ظهرَت على حينِ غرَّةٍ كحاجزٍ رماديٍّ خَلْفَ الأبنيةِ المشَكِّلَةِ لأحزمةٍ حمراءَ تبدُو متراميةَ الأطرافِ هُناكَ...
وسطَ السَّاحةِ قُبالةَ السُّوقِ جلَس "لْعَرْبي" القُرفُصاءَ واضعاً حصيرةً بلاستيكية وعليها بضعةُ ملاعقَ وفُرشاة أسنانٍ وساعة يدوية بالية، قناديل، وعملات ورقية قديمة، ونقود وميداليات وأطباق فضية، وقفلا بدون مفاتيح، وأنابيب مكسرة، وقطع نقدية قديمة، وبعضُ العقيقِ، وصور ألبومات، وطنجرة سوداء، وتماثيل برونزية وفضية، وأخرى متوسطة الحجْمِ مذَهَّبَةَ اللَّونِ، وأقراص مدمجة باهتة، ولوحات، ودمية صلعاء شاحبة بلا أعين، وبعض المجلات وصور إعلانات فقدت ألوانها من أثَرِ الغُبارِ وحرارةِ الشَّمسِ....