(1)
قبع باعروب فوق التلة يتابع ذبابة مسخوطة تسعى للإغارة على عينه اليمنى التي لم يعد يرى بها شيئا.نش عليها مرارا لكنها ملحاحة.تذكر زوجته المريضة التي أنهكته بزيارة الأضرحة وأولياء الله الصالحين.الذبابة النزقة قطعت شريط تفكيره،نش عليها ثانية بعصبية زائدة.تراءت له ابنته الصغيرة في بيت صديقه زوجها تغالب الضنك في بيت كثر أفراده وقلت موارده.تذكر نصيحة صهره :-ابحث لك عن صبية تعيد لك شبابك الضائع...

لكم أحببنا ذلك العجوز الذي ظهر فجأة في حينا، أفقنا ذات صباح خريفي نديّ فوجدناه بيننا، رأيناه جميعا كما شمس سطعت فوق رؤوسنا، و اختفى فجاة ذات رحيل دون أن يخبر أحدا، و بين ظهوره و أفوله، حكايات يرويها أطفال الحي الذين جمعتهم به علاقة حميمة امتدت جسورها رغم تحذيرات الأمهات بعدم الاقتراب منه، لما يعتقد فيه بعضهن من نحس و شر يخفيهما بين جنبيه و في نظراته، فقد أدعت إحداهن أنها رأته ذات مساء يخرج قاروة خمر، و يعب منها في جوفه، و عيناه تحملقان في محجريهما كأنهما تراقبان الزقاق خوفا من أن يلحظه أحد السكان، بل و أقسمت أنها لم تصدق ذلك في البداية، و لم تشك في أنه عم العيد، لكنه حين دنا من البيت عرفته بملامحه التي لا تخطئها، و ساندها زوجها حين ذكر أنه لمحه يفعل ذلك متجاهلا نظرات الفضوليين و هو يقف داخل الخرابة التي يلجأ إليها أحيانا. أما جارتهما، فقد أكدت أن عم العيد ليس بالرجل العادي، فقد رأته في إحدى الصباحات يجلس القرفصاء أمام الموقد الملتهبة جمراته يتدفأ، و كلما عنّ له أن يلتقط جمرة و يلتهمها، فعل ذلك دون تردد و دون التياع، غير آبه بما يحدث للسانه أو للهاته و غير مكترث باندهاش العابرين. لكن لا أحد صدّق ذلك أو اهتم به  و ظل عم العيد ذلك الطود الشامخ العنيد.

ألف السيد أيور دائما أن يعيش في الهامش، لذلك كان صعبا عليه أن يتأقلم ويتكيف بعد أن تم تعيينه في المدينة، لم يعتد على تلك الحركة الشديدة، ورؤية ذاك الكم الهائل من الناس. كان يتجنب أي احتكاك مع الآخرين، الكل كان ينعته بالانطوائي، فرغم أنه حصل على إجازته الأساسية في مادة العربية بنفس المدينة، إلا أن إقامته بها طيلة ثلاث سنوات لا تكاد تتجاوز عدد حصصه اليومية، كان مغرما بالأدب، يعشق قراءة الروايات خصوصا تلك القديمة كأعمال طه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي ونجيب محفوظ وغيرهم، كما أنه كان مهووسا جدا بالشعر فكان يقرأ للمتنبي وغيره من الشعراء، كان يغترف أسلوبا وتجارب من أولئك الكتاب وشخصياتهم.

ذات خريف، والشمس تفتح بوابة المغيب لجحافل الليل  فوق بساط الغاب المديد، حط لقلاق على دوحة يروم بياتا؛ هرما، مهدودا كان  إذ ما أن وقع واسْتَأْمن المكان  حتى لوى عنقه ونام؛ في اللحظة ذاتها تعالت لقلقة فوقه، واهتزت أغصان حوله، فتنبه من غفوته ولمح بجواره فرخا  من جنسه عليه قد وقع. ود أن يصرخ في وجه الزائر ويكيل له اللوم والتقريع بيد أن  الدهر الذي عركه أثناه،  واستحسن  أكثر ردة فعله حين الصغير بصوت وقور ولباقة استعذر إليه وقال:
ـ عفوا سيدي إن أنا استبحت خلوتك، وكسرت بواكر غفوتك.. وسأكون أكثر سعيدا لو سمحت لي أن أشاركك المبيت..

"عندما كنت طفلا، كنت أرى العالم بألوان مختلفة، فأبحث عن ظلها في ذاكرتي. لكن، سرعان ما يتغير اللون الذي ينسج روحه من ظل دمي". (هـ.ن)
لم يكن وايل تيري القادم من لندن، منسجما في أغلب الأحيان مع الخارج إلا بفعل العادات فحسب، في أغلبها عادات بيولوجية تتم عبر الفعل المسلط على المادة؛ كأن تأكل حتى لا تفطس من الجوع، أو تشرب درءا لهذا الإحساس المبهم المسمى: العطش. فهو يعيش حياته في الداخل بالألوان. عندما نتأمل كلمة  "الألوان"، نقول؛ إنها سيرورة التفكير في الأحداث من جهة ألوانها لا من جهة أشكالها. إنها تبدو ملتبسة في الخارج عندما يرغب في أن ينقلها عبر اللغة مثلا، لهذا تسعفه الهمهمة فقط، حتى يسلك اللون المنبعث في حيز الحدث الرئيس، أو يأخذ وجهة داخل بنية اللون الأول، وهنا يمكن أن نشير إلى طبيعة الانسجام أو التفاوت التي تفرضها منبهات الحدث التي تحدد هذه التقاطعات.

عكس ما هو متوقع، دخل من باب شقته، ليجد الصمت مركونا إلى جانب الحائط، نظيفا تماما – مثل كل البيت-  كأنه قد خرج من علبته الآن فقط، كسره بأن رمى صوته فى الشقة باسمها، استعاد الصمت رونقه وأينع ، انتابه يأس وحيرة، وسقطت كل خيالات اليوم من رأسه..  الشموع الموقدة، التورتة المحتلة منتصف الطاولة، هى فى قميص نومها الجديد الذى اشتراه لها ومازال لم يغادر حقيبته بعد.. وضع البطيخة التى يحملها على الطاولة الفارغة واتجه إلى حجرة نومها.. طرق الباب وانتظر.. عندما لم يتلقَ ردا،  فتح الباب بهدوء ونظر.. كانت الحجرة مرتبة كما يراها كل يوم لم يتغير بها شئ.. اغلقها ودار على باقى حجرات البيت.. لم يجدها.. عند حجرة نومه المفتوحة الباب دخل وتوقف بحثه.. تخلص من بنطاله وقميصه وارتدى ملابس البيت، ورقد على سريره ونام.

في البداية، أسارع إلى تنبيه القارئ الكريم اني سوف أخصص هذه الحلقة لموت معلم متدرب بالانتحار شنقا. لقد وقعت هذه الواقعة في خريف 1988 الذي تزامن مع التحاقي، لأول مرة، بالمدرسة القروية التي تم تعييني بها من قبل نيابة ورزازات بعد قضاء سنة من التكوين في مركز غاندي بالدار البيضاء.

لن أشغل نفسي بالتفكير في تقديم مزيد من التفاصيل وأنا بصدد التمهيد لهذا الحكي المرتكز على الذاكرة. سوف تاتي التفاصيل تباعا وتلقائيا إذا ما أرخيت العنان لذاكرتي البعيدة المدى مع حرص شديد على الانتقاء والتشذيب وفق منهجية كتابة المذكرات التي سبق لي أن خضت فيها تجربة ناجحة ولو على شاكلة مقال عرف طريقه إلى النشر بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" خلال شهر دجنبر من سنة 1994.

ـ 1 ـ   
  منذ متى ، وأنا كنتُ أنظر إليك ،  أيُّها السردابُ المدلهّم ؟
عندما تسعفني العبارة ، كشاعر مجنون ، سأكتبُ لك أيها الغريبُ عن وطن ضاع بين كتب صفراءَ باليةٍ ، تاريخه منسي ومنذور للأساطير و الخرافة. سأرسم لك سمْـتا يتيه في برارٍ ساهمة. لا تحاول أن تتنصلَ من حكايتك، التي كنتَ ترويها لصبية  تخاف رذاذ المطر .
كنتُ أنظر إلى هذا السرداب، بعين وجلة  ومائية، وكلي أمل أن يمر طيفك العزيز ليس فقط على الجدار ، وإنما فوق هذا التراب الندي ، كي يترك بصمته . من علٍ ، وقد قل نٍظيره ، كانت قطط فوق الأفاريز تموء مواءا يملأ المكان هرْجا و مرْجا . فكلما أحست القطة بنشوة عابرة ، تخمش اللازورد بأظافرها ، و تثور بدوران متمسح بين الأرض  وزرقة السماء ؛ كي تنام قريرة العين، وهي ممددة بطنها على القرميد الأرجواني .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة