(الحلم الحقيقي هو أن تفتح عينيك في العتمة، وتتحول الهواجس إلى كائنات، تدهس رؤوس الأفكار).
(هـ. ن)
العاشرة صباحا، يبدو أن السيد مارشينا بلاتيس لم يبارح فراشه كما جرت العادة؛  (العادة هنا، كلمة مبهمة بالنسبة للسيد مارشينا بلاتيس)، سيتفطن بعد سنين  إلى أن ينسج اسما مركبا من تصور ذهني ملائم، بالرغم من عفوية العلاقة المنسجمة بين المخ والحركة، فخلص إلى  ما يسميه : "لحظة البراءة المذنبة"؛  اللحظة التي تضمنها الآفاق الممتدة عبر النافذة الزرقاء. النافذة التي صممها العم  مانيش؛ ماهن البلدة؛ لا تفوته أي حرفة، بدءا من تسييس أحصنة البوتيوك، إلى صناعة الأبواب والنوافذ من غابة "إيراطي"، مرورا بصنع لوحات "التشالابرطا"، والنقر عليها، من أجل تفعيل الخبر اليقين إلى الآخرالمرابط في الجبال المقابلة، بدعوى الحرص الشديد من العدو.

تملكني حنين إلى هناك، إلى جانب تلك الأشجار الباسقة، والأدواح السامقة، وخرير المياه الجارية، وزقزقة العصافير حين تختلط بطنين النحل ورفارف الفراشات، فتصدر همسات تهدهد وجهي وتقذفني إلى أفياء الأمل المفقود.
وثبت وثبتي الأولى على أرضها منذ سنوات، اجتاح فؤادي سيل جارف من المشاعر المتضاربة، انتقلت بجوارحي إلى ذلك المقام وخالجني إحساس غريب، ارتحل جسدي إلى منحدر النهر. فتجسدت أمامي بدلالها، وغنجها، وابتسامتها الحالمة.. هي نفسها كما تركتني هازئة، ورمتني بنظرة أخيرة ساخرة.
حاولت قدح زناد الماضي، فغمرني موج التذكر، هممت بالتقدم، فتسمرت قدماي، تراجعت في حركة لا إرادية، فانتابني شعور بالوحدة والغربة، هتف صوت خافت بداخلي:

"يُمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلّم اللّغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلّم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكلّ معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة ولا يعتدّ بها لدى القضاء أو غيره."
من قانون الملك فيليب 2 ضدّ الموريسكيين.


في حيّ البائسين  في غرناطة قرب ربوة المدينة، كانوا يحملون هويّتين.

 كان الموريسكي في المظهر مسيحيّاً اسمه فرناندو، وفي السرّ مسلماً يدعى محمد. وشم اسمه السرّي على بطن ذراعه الأيمن ثم ذرّ عليه دخان الشحم كي لا ينسى هويّته الأولى. وكان قد استعدّ لهذا اليوم كما يستعدّ كلّ محارب. لبس بذلته الخضراء سوّى عمامته ووشّح عنقه بما تبقّى من القلادة الحمراء، وجمع كتبه وأدّى صلاة الخوف. أخفى الوشم بخرقة بالية، تحسّس مفتاحه في جيبه، وردّد القسم أنّه سيبقى وفيّاً لدينه ولغته، وسار وجهة حارة البائسين.

قبيْل الفجر بقليل، غالبا ما  يتناهي إلى سمعي على استحياء صرير الباب الرئيس للعمارة  الصدئ وهو يُفتح، ثم  لهاث يتسارع وقعه صعودا، يقاطعه مرات تأفف شبه مكتوم؛ لعل الجسد المجهد المترنّح على السلالم يفرغ فيه قلة حيّله وزلة أقدامه السكرى؛ ولما يصير مَراحُ الطابق الرابع ركْحا للأحداث تُهاجمي عبر فجوات الباب والإطار كوكتيلُ روائح، أميز منها عطرا نسويّا نافذا وعبير خمر طريح أنفاس ظمأى لنوم هادئ وطويل..
هكذا تعلن  "مدام آسية " عن أوْبتها  سالمة كل يوم.
إنها جارتي مذ ما شاء الله من الشهور، ورغم ذلك حبل الوصال بيننا معدوم حتى.. التحايا ميتة، لا أعرف عنها شيئا إلا  ما يلوّك هنا وهناك.

( نداءُ الرّيح الأوّل )
النساء بهاءٌ من الحياة القاتل ، إكسيرُ الدُّنيا المعتَّق بالزّهر والمطر والرّياح !!
المرأة ككلّ كائن سحريّ ....لا تنحتُه سوى الذكريات ...لا ترسمه إلا التفاصيلْ ....
تلك التفاصيل الصغيرة التي تنفذ إليك كبداية الموت أو بقايا الحريقْ !  
تلك التفاصيل العذبة : رقصةُ الأهداب....ارتعاشُ الأصابع ...حركة امتعاضٍ على الشفتيْن ...التفاتةٌ عجْلى على الرصيف ....يدٌ أتلفها الصقيع فمضت تبحث عن قبلةٍ في ثنايا المعاطفْ .....خاتمٌ شامخٌ يحيط إصبعا من كبرياء .....أناملٌ من عاج تُسوِّي خصلة شعْرٍ تُهرول في خِفّة لتعانق نسائم الصباح ......نظرةٌ مبتلَّة كالشتاء ، مُعلَّقةٌ بشبّاك قِطارٍ  ،  سيَرْحل ويحْملُ صخَب أحزانه بعيدا   ، بعيدا .....كعبٌ صينيٌّ شامخٌ  يحْتسي جراح طريقٍ أنهكه انتظارُ العاشقينْ ...!!!!!!!!

ـ 1 ـ
  تأخُذنا الرَّجفة من حيث لا ندري ، فترتعد فرائصُنا عندما نسمع اسم " مولانيي " ؛ القائد و الجنرال الفرنسي ، الذي تمَّ تعيينه مباشرة بعد الحماية الفرنسيَّة على المغرب . كانت شرارة الحرب العالميَّة الأولى السببَ المباشرَ في تعيين هذا الجنرال قائدا جهويّا على قبائل زمور. تعلـّم دروسَ الاستبسال من جبالها الوعرة و من قبائلها المتفرقة و المشتتة على طول الخط الناظم و الرفيع الذي يربط مدينة خنيفرة بمدينة الخميسات إلى حدود قبائل آيت يدين  ومصَّغرة و آيت عبو . منطقة تدور رحاها على يد القوات الفرنسيَّة .

 

البدايات كأنها أزمنة منسابة لا تترك على متنها متسعا من وقت ثالث لنتسلل عبره، وحدها النهايات تعلن بدايات جديدة هنا وهناك ، والكلمات المنبعثة من جوف الحياة باتت معدودة، وبعض الكلام أزلي لا محدود في الزمن، وبعضه الآخر غوغاء تغمر العالم من حولنا،    حيث لا فائدة م  نه ولا أثر يذكر غير بعض مداد ضائع ، لا يكتب جديدا ، ولا يذكر حياة.
في الماضي دلالة على كيفية قطع الألف ميل مشيا على الاقدام،وباقي المشاكل العالقة لا جدوى من محاولة حلها ، ولن يحاول ذلك أحد أو يجازف
إلا عبر كلمات يدوي صداها عاليا ،و قد يقول سياقها:

لا أحد يعرف سرّ شجرة الحنّاء إلا ّ أمّي ...تلك الشجرة الواقفة في بيتنا بخيلاء الفاتنات و صمت الملائكة!
لا أحد في قريتنا له شجرة حنّاء مثل أمّي ..كل الناس كان لديهم الكثير منها و لكن ليس في مثل حجم شجرتها ..لأنهم كانوا يُشذبونها لتنتج ورقًا أكثر فتدرّ عليهم أرباحًا لابأس بها حين يبيعونها في سوق القرية الأسبوعي... لكن المال كان آخر ما تفكر فيه أمّي إذ كان لديها واحدة فقط تتعهّدها بعناية فائقة فتسقيها الماء و تمسح جذعها الصغير و تنظّف أغصانها و تنزع الحشائش من حولها و لكن لا تقصّ أغصانها أبدا و تجد متعة كبيرة حين تقف ويداها ملطّختان بالطين تتأمّلها وهي تكبر و تزداد طولا ... سرّ أمي الغائر كان غافيا في تلك الشجرة.... ترويه أوراقها للرياح مع كل حفيف!... فإذا كانت سعيدة تجلس على سجّاد صغير تحت  تلك الشجرة  و أمامها  أواني الشاي الأحمر و إبريقها الأزرق نائم على جمر الكانون في دعة و اطمئنان ، أمّا إذا كانت حزينة فإنك تراها تقعد على كرسي خشبي قديم  و قد غطّتْ وجهها براحتيْها لتكتم نشيجها ثم و ما تلبث حين تراني أن تقوم من مكانها باحثة عن بسمة كاذبة ...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة