ليس حكيما  ذلك الكائن. لو سلّمنا بجنونه، قلنا "حكيم المجانين ولو لم نسلّم قد نقول هو "مجنون الحكماء"..المسألة شائكة نسبيّا . يمرّ مخبول البلدة- أنا أتناقض  حينا أقول حكيما  وحينا أقول  مخبولا.  وهل كانت المسألة محسومة؟ ومن يستطيع حسمها دون أن يضحي مخبولا؟.لا يرى أحدا..كلّ الذين يراهم هم من بديهيات الرؤية أو ربما من حاصل الرؤيا.. يمرّ بين يديْه سوطان.. نعم سوطان لا صوتان. المسألة عنده تتعلق بالسوط لا بالصوت.. محمول دلالة كل منهم مختلف عن محمول دلالة الثاني .

انتصب أمام خزانته، وهو ينظر إليها بحنين، يناجي تلك النزعة الأدبية التي أخمدها بشتى الدراسات العلمية.
اليوم، توقد نبراس الأدب في فؤاده، وانتفض على العلم بعد أن لمس كتبه، حيث استرجع عشرات الشخصيات التي نسجها، وحدد كل معالم دنياها.
تلك الكتب كانت هي كل شيء بالنسبة له. كانت خليلته ونصيرته وخديمته.
تلك الخزانة المليئة بالكتب والدفاتر، تعرف جوهره أكثر من أي كان. إنها التي أشعلت نيران التأليف في فؤاده، وصقلت مهارته على نسج الكلمات وحياكة الحروف ليُنتِج شخصيات إبداعية ترتدي جبة الحياة بين سطور رواياته. ذاك هو الإحساس الأجمل الذي اشتاقت نفسه لتجربته مجدداً.

كل مولود يولد في قريتنا تتأكد مع قدومه تفاصيل اللعنة التي سكبها علينا أحد الشيوخ الذين مروا يوما عبر بيوتنا، لم يكن مرور ذلك الشيخ عاديا و لا كان اِستثنائيا، كان مرورا بهيجا، مربكا، مخيفا، مفرحا، داوى أثناء مروره المرضى و أطعم الجوعى و أطفأ ظمأ الأجساد المتعطشة لنفحاته بتعاويذه، لكن المريب المحير أن لا أحد شفي و لا أحد شبع و لا خمدت ألسنة اللهب المتصاعدة من الأجساد المحترقة، لامست راحة يمناه كل الأجسام بلا استثناء، تحسس التفاصيل المخبأة تحت الأثواب و اختلى بالأطفال يريد تعميدهم، و رافق بعض النساء إلى أماكن كان يختارها و في مواعيد كان يضبطها حسب مزاجه أو استجابة لأوامر جنياته اللواتي لم نكن نراهن و لا نحس بوجودهن و لا نسمع هسيسهن، لكنه كان يحادثهن و يأمرهن و يطعنه.

تتقدّم الزائرة بخطوات ثابتة، لكن بطيئة، نحوَ اللوحة المعلقة قبالتها. تقف متسمّرة في مكانها للحظة، ثم ترجعُ القهقرى خطوتين. تنظرُ بذهول إلى اللوحة، ثم تقترب منها بحذر، ووجهها يسبق كامل جسدها حتى كاد أنفها الصغير أن يلامس زجاج البِرواز: يا إلـــهي، ما هذا؟ بسرعة تلتفتُ يُمنة ويُسرة من حولها محاولة أن تُخفي دهشتها: ما هذا إذن؟ تتساءل مع نفسها. أهي لوحة خطية؟ لوحة تشكيلية؟ ما هذه الطلاسم الممشوقة الجميلة؟
قبل أيام قليلة قرأت الزائرة الجميلة بالصدفة إعلانا عن معرض سيقام في باريس تحت شعار (إيقاعات خطية 2)، فحضرت يومه الخميس لزيارته متوقعة أن تشاهد ما ألفته عيناها من حروف عربية متناسقة ومتشابكة تعبر عن أشياء مقدسة، رسخت في ذاكرتها من جراء زياراتها المتكررة لمدن تاريخية عتيقة وعريقة، مثل فاس وغرناطة والقاهرة وإسطنبول.. بيد أنها لم تكن تنتظر أن ترى في هذا اليوم الخريفي الجميل، وبالذات هنا بقاعة” أُورُوبيا“بباريس، ما سوف يغير كليا انطباعاتها التي راكمتها عن الفن العربي بشكل عام، وفنون الخط بشكل خاص..

واهم ذاك الذي يبني جدارا فاصلا بين الرواية والدراية ظنا منه أن إحداهما مستقلة عن الأخرى. لكن الحقيقة غير ذلك بحجة أن كتابة الرواية أو أي مادة سردية تتطلب من بين أشياء أخرى إتقان اللفة المستعملة كوسيلة للتواصل مع القارئ عن طريق الحكي الذي لا يستقيم أبدا بدون تفكير. لهذا السبب، ربما، اعتبرت ماجدة حمود الروائي مفكرا في مقدمة دراستها المعنونة ب"إشكالية الأنا والأخر: نماذج روائية عربية".

من بين الأشياء الأخرى التي تستدعيها الكتابة السردية التحلي بقدر من الشجاعة كاف لإقدار الكاتب على الخروج من دائرة التردد كلما أراد مقاربة الوقائع التي أجل البوح بها اعتبارا لكذا و كذا..والواقع أن الشجاعة وحدها غير كافية لتبديد التوترات الناجمة عن الترددات.. فلأجل تحقيق النجاح في هذا المضمار، لا بد من تضافر استعدادات نفسية متباينة لا يتسع المجال لتفصيل الحديث عن طبيعتها وماهيتها.

إنّ الرّوحَ عنيدةٌ عنِتةٌ.. وهو ما يجعلُ مسألة تجاوبِ الأرواحِ وتمازجِها نادرةً.. أمّا الجسدُ فهجينٌ، مِطواعٌ، هَشٌّ،لا هويّة له.. إنّه رِخْوٌ سائلٌ. لا أصالة في الجسدِ.. إنّه مُنْبتٌّ اندماجيٌّ سرعان ما ينحلُّ ويضمحِلُّ..
       روحي أكثر تمرّدا وتماسكًا أيّها الجسدُ ! .. كمْ أنّك انحداريٌّ سفوليٌّ فيما الرّوحُ ترفرِفُ في فِجاجِكَ مسكونةً بِعاصفةِ الخَفْقِ و الطيران ! إنّ دبيب الرّوحِ، شوْقٌ إلى سِنْخِها المتعالي.. يالغباوةِ الأجسادِ!..
      في فجر التّاسع و العشرين،  كنّا نجسّ الجسد اطمئنانا على الحياة أوّلا و لنروم السّفر إلى اللّحظة الأبعد ثانيا.. إنّ  في  جسّ الجسد اقتفاءً لأثر  ميكانزمات الرّوح..

كنت تاجرا ناجحا، بنيت مجدا من لا شيء، خرجت من العدم دون أي دعم، دون مساندة، دون توجيه حتّى، لكنّي بسرعة عرفت الطريق، طريق الكدّ و الجدّ و العمل المتواصل، فرغم أن حظي من التعليم لم يكن كبيرا لكن إصراري على أن أصبح كبيرا في هاته الحياة دفعني للتشبث بأحلامي التي لم تكن كأحلام أقراني بل تعدتها، تجاوزتها، فأحلامي كانت أكبر، أعترف أني تعبت كثيرا لأصل لما وصلت إليه إذ لم تكن رحلتي سهلة لكن مع ذلك واصلت المسير، فالمهم عندي ليس طول الطريق بل الوصول إلى آخره و إن بعد عناء و تعب.
لقد تمكنت من إمتلاك عدد من العقارات في أفخم المناطق و أغلاها، البنوك كانت تتسابق للفوز بتوقيع منّي يحوّل رصيدا من أرصدتي لحساباتها، كما كنت أغيّر سياراتي بإستمرار فأنا مولع بكل جميل، و الأهم من كلّ هذا، أني تزوجت بالمرأة التي أحببت، صحيح أن الله لم يرزقني الأبناء لكن أجدني سعيدا.

على عتبات الوحدة وفقدان المعنى، تقف ليندا متسائلة: هل كان يجب، أن أحصل على كل ما أود دون جهد جهيد؟ وهل كان ذلك ليشعرني بالسعادة؟ ثم، هل من الضروري أن أكون سعيدة كل الوقت؟
تفتح علبة سجائرها وتأخذ واحدة، ثم ترفع الولاعة وكأنها ترفع حجر سيزيف. تسحب نفسا عميقا من سيجارتها ثم تنفـثه بعيــدا، كما لو أنها تنسل أخيرا من دائرة المعذبين فوق الأرض. تجعل خيالها يسبح مع هذا الدخان المتلاشي في الأفق. فتنتصب داخل ذاكرتها شاشة كبيـــرة تحجب عنها الواقعي، تمر الصور أمامها كما لو كانت تقلّب ألبوم صور؛ ليندا ذات السبع سنوات بضفيرة وفم ملطخ بالشوكولاته، ليندا وهي تستلم هدية تفوقها الدراسي، ليندا المراهقة وهي ملقاة في حضن عشيقها، ثم ليندا ذات الهالتين السوداويتين حول عينيها. وتمضي في طريقها الشوبنهاوري: ماذا بعد؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة