إنها خائنة. كان يصرخ بصوت انكسارِ رجولتِه لا بصوتِ الحقِّ كما كان يتوهم.
لفها برداءٍ مزركشٍ، دارت من حولها حفنةٌ من الفضوليين الشرفاء َ، صوت التجريم فاق حجمَ الجرم، تصمت هي، يتبعثر في صدرها الكلامُ، الحروف لا تتجانسُ في حلقها. تتكالب دقاتُ الساعاتِ خلف بعضها تنهش وجهَ الأيام ثم يصرخ الزمن: "محكمة".
بدأت الجلسة. التهمة: خيانة بالجرم المشهود. !

حنين ... حنين ... حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أين المفر؟ فعدوي ... وجودي، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، فعثرت عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر، وخز يجعلك تحس بالألم في البداية ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.

تشتعل نار الحقد داخله ، تضطرم الكلمات ، تتشكل جملا  تدفعها رغبة عارمة  في الانتشاء بالسباب إلى الخروج و إلى تقديم عرض لسواد نفسه على الجميع .
كان -كما تعود عليه الكل -يبدو صامتا في ركنه المزمن في مدخل "زنقة العيون" لا يتغيب عنه إلا لماما يستقبل القادمين بنظرات ممتهنة و عدائية بدون سبب واضح و يودع الخارجين بازدراء صامت حينا و ضاج أحيانا أخرى .
يلعن بين الفينة و الأخرى الدرب و الحكومة و الفرق الكروية و رداءة التبغ الأسود و اسرائيل و الجو الممطر و تعفن الطماطم و الجرائد و كل شيء يخطر بفكره في تلك اللحظات التي يصير فيها خارج نفسه ، يستفزه  المتطفلون ببعض الكلمات  فتتفجر حمم الألفاظ النابية من مخزونه الذي لا ينضب شتائم و حركات عصبية  .
 لم يكن يؤدي أحدا بيديه رغم جثته الضخمة و ملامحه المائلة إلى العدائية ، لم يؤد أحدا و لا حتى مرة واحدة  و لا يذكر أحد أنه مد يده على أي كان ،  لكن لسانه كان يسحل الجميع و الجميع بلا استثناءات تذكر .

  من مقعدي الذي جلست عليه خارج المقهى، رحت أرشف بعضًا من الشاي الساخن الذي تصاعدت أبخرته وفاحت منها رائحة النعناع الأخضر المنعش، كان الجو وقتها تشوبه غيوم متقطعة والطقس ما بين برد لاسع ودفئ الشمس حين تتخلل أشعتها فتدمع من أثرها العين. علي خلفية من اللون الأزرق، رحت أتطلع إلى سحابتين كانتا تسيران خلف بعضهما البعض كأنهما في طابور صباح مدرسي، كانت إحداها تأخذ شكل بيضاوي فيما يشبه الخلجان المرسومة بالخرائط المدرسية باهتة اللون وكانت تعلو الأخرى بشئ يسير. بينما كانت السحابة السفلي كثيفة رمادية اللون بشكلها الدائري وقد برزت منها زوائد كأسنان المشط المكسور وكادت أن تسقط علي الأرض كبطن مترهل لرجل قصير القامة. دقِّقتُ النظر حين هبت فجأة نسائم باردة فأوشكت السحابتان أن تصطدما ببعضهما البعض حتى كادتا أن تلتصقا.

وقف النادل مستقيما ومشرقا كالبدر
..ماذا تطلبين سيدتي ؟
هذا السؤال جعلني اسرح عميقا وليس طويلا...لان الوقت لا يسمح بذلك طبعا
الجواب الذي أحسسته وأحببته كثيرا...هو أن أعود بضع سنوات للخلف...أو بالتحديد عشر سنوات...أريد أن أعود في العشرين من العمر...هذا السن لطالما أحببته وأحسسته كثيرا
اشتقت إلى جمالي ونضارتي إلى فرحي البسيط وأحلامي الرقيقة العفوية ...إلى مشاكلي الصغيرة الخبيثة
اشتقت إلى مقاس خصري النحيل ..النحيل جدا

تعانقنا وتبادلنا الأمكنة بين منصة اللقاء الشعري وكراسيه... ستون من الحاضرات والحاضرين بين شاعر وشاعرة، ونفر قليل لم يقو على الوقوف بالمنصة تهيبا أو خجلا، وربما كان منهم من يتأبط ما يشبه القصيدة. متعة تبادل الأدوار بين إنصات وإلقاء، بين إبداع وانتقاد، بين محاسبة ومعاتبة، كانت تضفي على اللقاء مسحة تشويق لدى البعض أو إحساسا بالفتور لدى البعض الآخر...
     الزجال البويهيمي الذي أرخى سدول لحيته الدكناء المخللة ببياض السنين، كان دقيق المعاينة في كل بداية، قبل أن يشحن بطارية دماغة بكهرباء خمرة، على هامش اللقاء. كان يعد الحاضرين عدا، ويهمس في أذني بأسرار الحضور، بين متيمين بجمال الحرف، ومولعين بالسمر الليلي، وعاشقين للنزهة والسفر، وأصحاب المواعيد التي لا تبقي ولا تذر...ولا يفوته في كل مرة أن يردد عبارته المألوفة: " حتى الثقافة لم تسلم من المحسوبية والزبونية"...

كنا في عصر " ذوبان الثلوج " حيث فتحت نوافذ في الستار الحديدي لتهب منها رياح التغيير والتجديد في المجتمع السوفيتي . التغيير والتجديد كنت تحس بهما في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو تحديدا ، أكثر من أي مكان آخر في الإمبراطورية السوفيتية ، حيث تجد فيها آخر إصدارات الكتب والمجلات الأجنبية ب(140) لغة أجنبية ، وأرشيف ضخم للأدب العالمي والمعرفة الإنسانية .
كنت أزور هذه المكتبة كلما سمح لي الوقت بذلك . وكنت أنتهز يوم التأهيل العسكري للطلاب السوفيت - وهو يوم واحد في الأسبوع كان يخصص بأكمله للمحاضرات النظرية والتدريبات الحربية لزملائنا السوفيت ، ولم يكن يشمل الطالبات السوفيتيات والطلبة الأجانب ، وكنا نعتبره يوم عطلة لنا - لزيارة المكتبة ، واقضي فيها ما لا يقل عن ثلاث أو أربع ساعات في كل مرة ، طوال فترة إقامتي في عاصمة الثلج والأدب والفن والحب.

شب حريق في الحقل المقابل لحينا ذات يوم من ايام الصيف القائظ .كان حقل الشعير عاريا إلا من بقايا تبن يابس ينتظر أن تلتهمه غنم صاحب الحقل و حبات شعير متناثرة كنا نلتقطها من الارض لنطعم بها حمام البيت و صغاره. وكان حقل الشعير ملاذنا من قسوة الحياة التي لم تمنحنا سبل العيش و وسائل اللهو، فكنا نستغل فضاء الحقل لنرتع و نلعب و لنصنع لعبنا بخشاش الأرض و قصب وادي كيس القريب من حينا.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة