خرج من حجرة نومه - جلبابه الأبيض واسع زاهي، عاري الرأس من عقاله- إلى الصالة الواسعة، جرجر قدميه العاريتين حتى وصل إلى باب الثلاجة، فتحه وشرب من مائها المثلج، أغراه طبق الحلوى العاري أمامه، فملآ منه فمه، وأمسك في يده ما استطاع إمساكه، ثم أغلق الباب واتجه إلى الحجرة من جديد، شد نظره على شاشة التلفاز – التي تحتل جدارا كاملا من الصالة-  أن الطفل الذي يقذف الحجارة على العسكري المدرع كان خفيف الوزن يطير كأنه ريشة، وأن القنابل الدخانية التي تسقط من حوله تضيف إلى الصورة هالة اسطورية، فيظن الرائي أن زيوس يعود من غفوته ويسترد مكانه كإله للبشر من جديد طاردا باقي الآلهة إلى الجحيم أو إلى الصقيع حيث موطنهم الأصلى، سحب نظره من فوق الشاشة وضوئها واتجه إلى الحجرة، الباب الموارب كشف له عريها الذي يناديه، أفرغ يده في فمه وواصل المضغ والبلع، ثم أسرع يجرجر قدميه تجاه الباب وأغلقه خلفه.

تلك الأعراس في بلدتي، لم يكن لها في العالمين مثيل... مراسيم جلب الماء من البئر، يتجند لها شخصان او ثلاثة، يملؤون البراميل المصفوفة حيال باب المنزل المفتوح على الدوام. يدخله العوام والهوام، دونما خشية أو تهيب، فما كان بالبيت حاسوب ولا هاتف أو حتى راديو "ترانزيستور" يُخشى عليه من السرقة... بنت الجيران كانت تعرف مكان الملح والخميرة والدقيق... العرس فرصة لتكسير فراغ الفراغ، حيث تدب حركة رجال لم تجمعهم قبل ذلك غير حلقات لعب الورق، أو جلسات مج دخان السبسي... يتعاونون على بناء خيمة العرس المليئة بالغبار، وبصا ق العصافير المزقزقة هناك فوق كرمة التين بمسجد القرية، إلى جوار مرفع الموتى...
يقوم شبان شداد من البلدة بنصب الخيمة الكبيرة على مسافة يسيرة من المنزل، فتعطي للأهالي إحساسا غريبا، تزيده شحنات، رائحةُ بخار الكسكس الفائر... فيتحسس الجميع بطونهم، ويغلقون أفواههم خشية انبعاث الريق. وإذ تميل شمس الظهيرة باتجاه الغروب، تتهيأ نسوة الدوار للقدوم ، وكلهن شوق لصوت طامو البراحة، قائدة فرقة الغناء النسوي البدوي، التي توزع المدح يمينا وشمالا، والأخريات يرددن خلفها اللازمات المتكررة. تجني من وراء غنائها مداخيل تظفر منها بالقسط الأوفر، فتكون الفائزة بين كل الحاضرات: تغني وتطرب، تأكل وتشرب، تؤدي واجب " الغرامة" لصاحبة العرس، وتبقي بعض الدراهم في حزامها...

كان غضا، و كانت سنواتها الخمسون تزحف بها نحو النهاية، فقد أعمته ثروتها عن تجاعيد وجهها     و عن يديها المعروقتين، جذبته إليها سيارتها الفارهة و أسورة الذهب التي يضج بها معصماها، و قلائد العقيق المتناثرة فوق جيدها. أما ما جذبها إليه فقوته و سمرته الكالحة. كان جريئا و كانت تبحث عن تلك الجرأة و تتمناها، كان جامحا و عنيدا، و كانت تفتش عمّن يحكم شد لجامها و يسوسها و يركبها، كانت تبحث عمن يميتها ببطء ثم يحييها، و كان هو ذاك الجواد الذي ظلت ترسم صورته في ذهنها، و حين عثرت عليه لم تفرّط فيه. لم تجد قبله سوى الذين أشارت إليهم بسبابتها فمدوا إليها رقابهم فداست عليها ضاحكة ساخرة مستهزئة. لكنها عندما وجدته أدركت معنى أن تكون مسحوقة. شد طرف حبلها بيده         و ترك لها العنان تركض كما تشاء فاسحا لها البرية تنعم فيها باطلاق قوائمها غير مكترثة بالصخور المدببة الناتئة، و كلما عن له أن يدنيها منه جذب الحبل، فأدار عنقها إليه، فتأتيه  متمسحة على أعتابه صاغرة ذليلة سلسة الركوب...

قرَعْتُ الباب بهدوءِ الحَذِر، انتظرْتُ لثواني مَضَتْ بطيئةً كدَّهْرٍ، صوتٌ دَعَانِي للدخولِ، اعتقَدْتُ سبقَ سماعه، كان المدير جالساً على كرسيِّه الفَخْمِ ، يشاهد التلفاز ويعبث بجهاز التَّحكم، رافعاً قدميه فوق مكتبه، فعَادَتْ ذاكرتي خمْسَةَ عشرَ عاماً إلى الوراء.
جاء الطبيب المُقِيمُ الجديد، أنيس، خِرِّيجُ إحدى الجامعات الروسيَّة، أذناه كبيرتان بشكلٍ مُلفِتٍ، شفتاه غليظتان قليلاً،  بوجهه  بعض الشحوب مع طيبةٍ ظاهرةٍ.
مرَّتْ أسابيع قليلة على وصوله إلى المشفى الجامعيِّ، بدَتْ الحقيقةُ مؤلِمةً، فالطبيب الجديد رغم شهادته المُعترَفِ بها، ومُعَدَّلهِ المؤَهِلِ لاختيار اختصاصٍ كالأمراض الباطنة، إلَّا إنَّ معارفه الطبيَّة تعادل مستوى جدِّيَّ الفلاح بذات الموضوع.
أثار أنيس للأسف سُخريَّة الجميع، أساتذةً و زملاء، مع ذلك كان متماسكاً بشكل واضح، أبدى الجديَّة في العمل، وما تخلى يوماً عن مظهره الأنيقِ.
الحقائقُ القاسيَّةُ بدأتْ بالظهورِ، فوالده التَّاجر مُفْرِطُ الغِنَى أبى على ابنه إلَّا أنْ يدرس الطبَّ في روسيا رغم أنَّ شهادته الثانويَّة أدبيَّة.

 1.
      رذاذ رُضابي يلف بيوتا داكنة ، مشرئبة بأفاريزَ مغلفة بالقماش ، تثقلها الحجارة . في المكان ضريحٌ ومقبرةٌ و مُغُرٌ بحرية مهجورة. صيَّادون ، كلما اشتد هدير الامواج ، ينبعثون من هنا وهناك ، وحتى من سديم الضباب الكثيف . يحملون متاع صيدهم  وقفافهم ، ويغيرون الامكنة ، صاعدين صخورا ضخمة ؛ تعلو هاماتها المياه الزرقاء .
     بنت ، بشعرها الكستنائي المنسدل على طرف الظهر ، تعبث بالرمل المبلل على الشاطئ ؛ ترسم دوائرَ تضيق بإصبعها الحليبي الجميل . وتحاصر سلطعونا و قَفَّازا رمليّا ، تضع لهما حواجزَ من الرمل المبلل ، و تصيح :
ـ   لا مَنَاصَ لكما ...
ـ  لا مَنَاصَ لكما ، الآن ...
لما فرغت من مغازلة كائنيها ؛ تذوب الرمال ، وتعود الغنيمة حرة طليقة . تتبعها ؛ فتحيطها بقدمها الغضِّ في دورات غُنْجِية ، كراقصة البالي على الكعب الذهبي .

عدتُ إلى النهر، جلست عند ضفته وفتحت الكتاب لأقرأ ما تيسّر منه.
رميته جانبا -الكتاب- بعد بضع دقائق من مباشرتي له.. لم أعلم ما دفعني إلى ذلك؟ ربما لأني كنت مالّا..! على صفحة الماء طفت صورتكِ التي ارتسمت ذات صيف قائظ في ذاكرتي..
لا أدري هل كنتِ تبتسمين حين كنت أتأمَّل وجهكِ!؟ أم كنتِ زامّةً شفتيكِ فحرك الماءَ نسيمٌ رسم تلك الابتسامة التي تراءت لي!؟
عندما أتذكر تلك اللحظة ألعن السماءَ التي لم تجد وقتا أنسب لها، وأسوء لي، من تلك اللحظة التي كنت فيها أهُمُّ باحتضان صورتك..! أو ربما إن السماء كانت تعلم أنكِ ستحتضينني إلى الأبد..! فأشفقت علي..؟
أدخلت يدي في جيبي سروالي الأسود الأماميين، قذفت بقدمي اليمني زهرة، كانت هي الوحيدةُ هناك.. بعد بضع خطوات، بدا وكأني أسمع نحيبا.. التفت خلفي، فكان النحيب نحيبَ الزهرة الصفراء.. انتابني شعور بالذنب.. من عينيَّ تسربت عبرات رغما عني.. أدركت خلالها أنيَ هش كورق الشجر اليابسِ.. تقدمتُ نحوها وحملتها بلطف شديد..

" إنك تتحسس طريق الذين عبروا قبلك. يالك من أحمق أيها الشقي، كم يلزمك من حيوات لمعرفة الطريق؟"      
   كاتب سها البال عن ذكر اسمه.
حين توقع مارشينا أنه منذور لشيء عظيم، رفع بصره إلى السماء ليتلمس وجهة الغروب، فهذا النذر يرتبط في ذهنه أو قواه النفسية بالأشعة الوردية على الساحل الباسكي ببياريتز. كانت الأشعة قد مرت على معصمه، منزلقة على ساعته المتوقفة عند الساعة السابعة. كان بإمكان هذا النذر أن يكون سباقا، ويلقي بثقله عنوة وسط النهار. لكنها مسألة مبنية على مشاورات حسية، تسعفها عوامل خارجية كذلك؛ كيوم خال من الغيوم، وشمس لذيذة الملمس تخترق العصب الحركي، وجلال الصمت المنغمر بين ثنايا الموج حين يصدح، ويرجرج كسوة مده إلى شريط الرمل، أو نباح كلب السيد باستيان المتواصل، المؤشر على ميعاد خروجه بغية إلقاء حاجاته الطبيعية، وجريه ودورانه على نفسه، متوهما أنه يشاكس كلبا آخر بحركة من طقمه بتهديد لطيف. وحتى يقف عند القصد الذي لا يخذله، فقد أحس أنه لا يملك القدرة على تحمل جسده، إن لم تقل: إن ثمة خلطا في فهم الإحساس بين النذر والصدف الغامضة والحلم الصاحي، بعبارة أدق؛ إنها مرحلة تخطي القنوط والرتابة وديمومة الشعور إلى ذلك الحشد المنسجم مع الحواس كنوبة موسيقى أو مخدر يدب دبيبه إلى مراكز السعادة و موطن الأسرار عقب انتعاشة يرشح  معها عرق بارد، تتدحرج حبيباته على ظهره حد المفرق.

- كان ذلك قبل عشرين عاما، عندما كانت تأتي لباب الموتى، يتأهب الناس لصلاة الجنازة.
استعاد أنفاسه و زفر متأوها، فتحرك ضوء الشمعدان و تحركت معه ظلال الحاضرين. بلل الطبيب منديل القطن في طست الماء، ثم وضعه على جبهة الوزير، تمتم بصوت مترهل، لا تجهد نفسك يا سيدي، حاول أن تنام قليلا. كالأصم، تجاهل صوت الطبيب و تطلع في خادمه الواقف عند رأسه مبتسما،
- هل تتذكرها، لقد كانت كثيرة الوقوف بأبواب الجامع الكبير، جلبابها الأخضر و لثامها الأبيض، لا تغيرهما و لا يتسخان. لطالما وجدتها تحدق في بيتي العامر بمكناسة، وأنفت أن أكلم مجذوبة و أنا  الوجيه ابن عثمان. صمت للحظة كمن يريد أن يوفر ما تبقى له من الكلمات. بإشارة من سبابته،  طلب من طبيبه أن يزيح الغطاء عن صدره. بدت الدمامل على ضوء الشموع متقرحة و بشعة، و بدا الألم مشوبا بالحيرة على ملامح الخادم الحزين، و هو يرى رفيقه ينازع سكرات الموت. كيف تصيب العدوى وزير السلطان و تترك خادمه، صاحبه الذي لا يفارقه. تبدد السكون البارد الكئيب، على بحة سعال قبيح، أفلته المكناسي، كأنه يخرج من بين الأشواك، أما حكايته، فلا تصدر إلا عن شجن، في سلاسة و عذوبة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة