Anfasse19112وقفت سعدية خلف الجدار و عيناها تدوران في محجريهما، و هي تحاول يائسة أن ترى ما يجري داخل الغرفة من خلال كوة الباب، لكن نظرها يصطدم بالعتمة في الداخل فيرتد حسيرا، فمنذ أن وصلت وزوجها مرفوقين بابنتهما، أمرهما المساعد أن ينتظرا في الخارج و أن لا ينقطعا عن التسبيح و ذكر الله. أما زوجها فقد تلا ما كان يحفظ من آيات ثم اسند ظهره للجدار و سحب مسبحته من جيب سرواله الفضفاض و راح يمرر حباتها بين أصابعه و شفتاه تنفرجان و تنطبقان في حركة متواصلة لا انقطاع فيها، و كلما تحسس الشاهد المسبحة، رفع سبابته اليمنى و تلا الشهادتين  بصوت أقرب إلى الجهر    و رفع بصره إلى السماء و دعا في سره.

Anfasse19111ما كنت ُ أتصوّر أنّ تلك اليد الراقصة مع جنون القيظ المُترَعَة بحكمة الشمس...هي التي ستفتح لي باب مملكة الرجال لأول مرّة في حياتي ...! تلك اليد السمراء الممتلئة التي تلوّح لي تحت أشعة الشمس العنيدة كل صباح ....تلك اليد التي ما إن أراها من بعيد حتى أنفلت بسرعة راكضا متوجّها إلى بيتنا ..كانت تلك رحلة طفولتي الغافية في غمام الذكريات ..
في ذلك الصيف كانت أمي ترسلني كل صباح لأحمل فطور أخي الأكبر الذي كان ينهض مبكرا كل صباح ليلتحق بالعمل  في إحدى حضائر البناء عند مدخل قريتنا... كان فطورا بسيطا هو عبارة عن رغيف خبز به بيضة وبعض الخضار المقلي تلفّه أمي في ورقة جريدة ، و كانت توصي أخي أن لا يعود إلى عمله بعد تسلّم فطوره إلا بعد أن  يطمئنّ عليّ فيُشيّعني بنظراته على طول الطريق الرئيسي الذي تكثر به الشاحنات الثقيلة و أظلّ أتّبع الظل مُجانبًا بنايات المنازل  المتواضعة اتقاءً للشمس الحارقة نازلاً منحدرا و حين أصل إلى مفترق الطريق أعلى التلة ، عند ذلك ألتفت فيكون أخي قد شيّعني بناظريه لعشر دقائق ثم يلوّح لي بيده في الناحية المقابلة من التلّة فأردُّ عليه التحيّة ثم أركض في الطريق الجانبي إلى بيتنا .

Anfasse09113لم تكن هي نفسها عندما فتحت الباب وخرجت، لم تكن تحمل معها مجلتها النسوية وهاتفها الوردي الرائق، حتى عطرها الفرنسي الجميل لا يفوح في الفضاء كعادته، عيناها حمراوان وشفتاها ذابلتان من غير زينة، وجهها شاحب تغطيه سحنة الأموات...
مرت من أمامي في مكان التقائنا المألوف كأنني غير موجود، لم تنظر قط نحوي كأنها لم تراني، ابتاعت باقة ورد كبيرة، فازدادت حيرتي؛ الورود في قاموسي رمز الفرح والسرور وحالها ليس كذلك...
 همست لها وهي عائدة بكلمات جميلة، فالتفتت نحوي في ذهول. حدقت بي شاردة الذهن للحظات حسبتها الدهر حتى كادت نظراتها تخترق فؤادي، تسللت قطرات العرق الباردة فوق جبيني، وأحسست بأن الجميع يراقبني، وبأعداء التضامن الطبقي يشمتون بي ويتبجحون بصحة نظرياتهم حول حتمية الصراع الطبقي. ثم ركبت سيارتها وذهبت من غير لوم ولا عتاب.

Anfasse09111أعود إلى عالم الكتابة بعد أن لم يبق لي أحد في هذا العالم تقريبا . أمي أيضا غاضبة .
البارحة كان صرير باب غرفتها و أنا أدفعه حزينا و غامضا .
أصدقائي أيضا ليسوا هنا . بعضهم نائم . بعضهم في العمل . بعضهم منشغل في الحب و الضحكات الشبقية الزوجية الليلية و بعضهم أخذ ولده إلى حلاق القلق و الثرثرة .
أعود إلى الكتابة مثلما يعود محارب إلى قريته من جبهة مشتعلة . أعود ملوثا بشوق مشاغلة اللغة و التعثر فيها مثل جندي ترك ركبة في أتون الموت و عاد لينفض غبار المعارك عن الركبة الأخرى .
أول أمس سألني رجل غريب في البار :
- من أنت بالله ؟؟

anfasse01113- أيها السادة، أهل الحل والعقد ، الأرض تموت ، يخنقها احترارها.
لنرْأفْ بها  ونرحمْها،  قبل أن تلفظ أنفاسها .
إنها... ونحن جسد واحد؛ بقاؤنا في سلامتها، واندثارنا في خرابها...
كان حزينا وهو يخاطب الجمع، وكان  في كلامه حزم وفظاظة ، استشعر أنهما لن يفيداه في الإقناع، فبات يلطف من حدة خطابه ، جاعلا جملَه رقيقة ، هادئة وكأنها  قطع من قصيدة شعر رومانسية...  واسترسل:
- لنفكر في وجودنا ومآلاته... إنّا مقبلون على رسم نهاية مأساوية لنا على الأرض، لنغيرـ قبل الوصول إلى نقطة لا عودة ـ من نمط حياتنا ، ولنضع حدا  لاعتمادنا على الطاقة الأحفورية، ولنسعَ قدما نحو الشمس، الأصل.
لا حظ  مرة أخرى أن القاعة لم تتململ، صامتة كأرائكها الوثيرة، باردة كبلاطها الرخامي ،غير أنه لم ين ولم ييأس، بل تابع شروحاته مشركا يديه وعامة جسده وعارضة البيانات ، وحتى فنتازيته وخياله الواسع: 

Anfasse24106وأنت تنخل الذكريات بحثا عما ينسج في الخيال سردية عابرة، تنط الأمكنة واحدا تلو الآخر لتغريك باتخاذها ثوبا مستعارا لما سيخطه القلم من بوح أو وشاية ! تلح على الشخوص و الأحداث ليمهروا حضورها الداكن. ليس المكان فضاء فحسب، وإنما هي روح موزعة في الطرقات، تستحث رغبتك المشتعلة للكتابة ! 
يكرر س.ع ممشاه المتعثر كل يوم بين المزبلة و الحوانيت المرصوصة. هطول مطر غزير ليلة أمس حول الزقاق الذي يسلكه إلى بِركة من الوحل القذر. تبا لهذه الحصة الصباحية التي تقض مضجعه في ليالي الشتاء الباردة. مرأى الصغار وهم يرتجفون كالفراخ المبلولة يجدد حنقه على من يفرض، هناك في العاصمة، قالبا واحدا للتعليم في جغرافيا متباينة ومناخ متقلب !

Anfasse24103السماء تمطر سيولا جارفة تجر معها كل شيء من بقايا أوراق الشجر وقصاصات الورق وأكياس البلاستيك السوداء.. بين الرمشة والأخرى يصعق الرعد بقوة ويرسل البرق وميضا منذرا بقدوم شتاء بارد..
عاد إلى مكانه.. دنا من المسجل يدير شريطا لسيدة الطرب العربي (يا حبيبي كل شيء بقضاء)
 أخذ سيجارة وانطلق ينسج خيوطا وحلقات وهمية من دخان تتلاشى بسرعة في الهواء! يطلق العنان لخياله هائما في متاهات الوجود باحثا عن مرفأ يرسو عنده.
يتساءل: ماذا بقي من رماد الروح ؟! ماذا بقي من دفء الشمس وعطر الأقاحي؟

Anfasse24101تسطع الشمس بقوة في نهاية اسبوع ملتهبة فجأة ،يلسع لهيبها الجلد  حرقا، وتجف الاعشاب والأوراق تتساقط أرضا، كذلك هي تنتابها حرارة ذابلة لجسمها الملفوع تحت سقف البيت الخانق، وحدها من بين اعضاء عائلتها  تشكو اللظى المتناسل داخلها، كما أنها في الجمر ينهش خلاياها، تتجرد من ملابسها الا من قطعتين قطنيتين قصيرتين داخلتين، تقاوم بالتلويح بيديها  على وجهها تصفعها بنسائم رياح خفيفة من يديها الرقيقتين...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة