كان السوق شبه فارغ يوم الجمعة، وقد ساد الصمت طيلة الفترة التي انشغلا فيها بنشر سلعتيهما وبسطها، جلس أحمد أولا غير بعيد عن السلعة، ثم التحق به إدريس، فأخذ كتابا في الوقت الذي كان أحمد يدخن سيجارته على مهل وينفث الدخان من فمه، فوق، كان كأنه يريد إيصاله إلى أبعد مكان، أو ربما يجرب قوة زفيره.
ما إن فتح الكتاب حتى انغمس فيه كليا، لا يخرج من عالمه إلا إن وقف على سلعته زبون ما.
في حدود الساعة الحادية عشر، كان قد باع حذاء واحدا فقط في ذلك الصباح كله، فالتفت إليه احمد وقال بصوت أجش:
ــ لا تعتمد علي فيما حدثتني فيه أمس.
نظر إليه إدريس من أعلى الكتاب، ثم عاد إلى ما كان فيه من قراءة، وهو يقول كأنه لم يسمعه:
ــ الدنيا كلها تجارب مؤلمة، والناس كلهم جروح. آه، لو نعري غطاء النفوس فنكشف عن حجم المعاناة! لما تحدثنا عن آلامنا إلا بقدر ما
هي و... كلماتي ـ قصة : حدريوي مصطفى (العبدي)
جلست أمامي صامتة، هامدة كنهر سيبيري في يوم شتوي، وعلى ضفاف عينيها المتمترستين خلف نظارة معتمة تتلاطم مويجات حزن هائج، وفي يديها نرفزة بينة تحاول جاهدة أن تبددها بلفّ قداحة ذهبية بين أصابعها ..أصابع جميلة زادتها عناية المانيكور بهاء.
أحسست بها تتشظى، تنسحق تحت ثقل أحزانها ...فنسيت أحزاني. و مددت يدا، وأمسكت بيدها ، وبالأخرى ربّتت عليها؛ كانت باردة كالثلج....
همست لها :
ـ ما بك يا سيدتي؟ ما هذا الوجوم؟.
بكل هدوء، خلعت نظارتها ، وأزاحت بدلال خصلة شعر منسدلة على عينيها. وسهمت في عيني، كأنها تبحث عن مركب أمان في لجها، أو تحاول أن تقرأ ما رابضا في ظلال بريقهما...
عــبــث. ـ قصة : محمد لغريـسي
أجـــزم أن بيــتي تحول الى قبيلة مغوليــة لا تخضع لرايــتي.لذا ساتسكع رفقة لفافة التبغ التي تعزف معي على نفس الكمنجة..لعلي..
لعلي أحيا من جديد.
.....
أضواء الشارع متورمة،الصراصيرتثرثر،نشازها المتكرر يعاكسني،تؤذيني إيقاعاتها الوقحة،أحـس حقا أنها تنتف ريشي.
رائحة النيكوتـين عطش..عطش :تقترب مني،تتسلق الأرصفـة،تهرول نحورغـبتي كقردة.
بين كـرسي أعـرج وظل.
وضعـت رأسي ..
ناديت النادل:
- اسمع..
نظف وجه الطاولة لسهرتي وسيجارتي..
أسرع..
في الحارة ـ قصة : رشيد تجان
تناسلت البيوت العشوائية على هامش المدينة كالنار في الهشيم أو كالفِطر حين انحبس المطر لسنوات، ومسَّت المجاعة كل الأرجاء، هاجرت أفواج البدو من القرى إلى الحواضر، وضاقت المدن، على بساطتها، بسكانها وضيوفها المهاجرين. بُنيتْ على الهامش، هذه المنازل، في حارات لا يميز بعضها عن بعض سوى أسماء أزقة وأرقام بيوت، تنعدم فيها المرافق الصحية، يقضي الناس حاجاتهم الطبيعية في الخلاء أو في علب الزيت أو تصبير الخضروات، قبل تطور البلاستيك، ويُقذفُ ما بها من قذارة قرب السور المحيط بالحارة الذي تحول مع مرور الوقت إلى مزبلة كبيرة تنفث روائح كريهة، وخاصة، أثناء الليل. على الطرف الآخر من الحي توجد ساقية ماء وحيدة، يجتمع القوم حولها طيلة النهار وجزء من الليل لجلب الماء إلى المنازل. عندما يسقط المطر تتغير الأشياء، وتصبح الدنيا غير الدنيا، تتبلل الأرض وتتحول التربة إلى وَحْل يعيق حركة المرور، ويسيء لنظافة الملابس.
و هز إليك بجذع الحنين ـ قصة : د.حسين مرعى
عاد مبكرا ً من مدرسته ذلك اليوم، شعر بوعكة غريبة لم تصادفه أعراضها يوما ما، لم يجد أحدا ً في المنزل، نادى كعادته على أمه كما اعتاد أن يناديها " يا أمه" أو "يا حاجة" وهو يتكأ على سور السلم المتهالك وصوته يكاد يخرج منه بصعوبة، حاول أن يتماسك بكل ما أوتي من قوة إلى أن خار على الأرض كما تخور الجبال صعقاً من غضب إلهي أو كما تبرك الإبل بركاً في مراقدها بعد رحلة شاقة في الصحراء حين تخوى بطونها وتذوب شحومها. نظر بعينيه إلى أعلى فبدت شقوق السقف الخشبي المتهالك والبراطيم تكاد تهوي على رأسه، كان البيت من الطوب اللبن الذي يطلقون عليه "الأخضر أو النيئ" ربما للون الطين الذي يتشكل منها وفيها بعض الاخضرار أو لأنه لم يزل نيئا ً ولم يسو في القمائن التي يٌحرق فيها. كانت أغلب المنازل في البلدة تبنى من هذا الطوب، وبلا أعمدة، فيحمل كل جدار الآخر فتستند على بعضها البعض وتتداخل فيما بينها حتى إذا ما وهن حائط تداعى له الآخر بالمؤازرة والتحمل كأنها في رباط إلى يوم الدين، ويشتد البناء هكذا ليصل إلى في مرات كثيرة إلى ثلاثة طوابق.
فنيس قد رجعت.... ـ قصة : حدريوي مصطفى ( العبدي)
اِرتدى قميصه الحريري الأبيض، عقد أزراره المرمرية ، ومن فوق نظارتيه رنا إلى دزينة ربطات العنق، سحب الأرجوانية دون تردد؛ لفها فوق ياقته وتابع يده الدربة تعالجها عبر المرآة ، أعاد الياقة لوضعها الصحيح وطفق يزحزح ـ يمينا وشمالا ـ العقدة لتستقر وسط نحره لتعطيَ القميص ذاك الرونق البديع الذي طالما افتتن به... فجأة ، توقفت الحركة ، وسهم شاردا في أفق المرآة حينا ، ثم طأطأ رأسه؛ لقد تذكرها ... تذكر (سلماه ) ما انمحى شيء يخصها من ذاكرته: عطرها رائحة عرقها ،طيفها المياس، وشوشاتها ، كلها لازالت حاضرة في حياته لم تنسه إياها السنون، ولا يأسه من اللقاء بها من جديد، بل حتى زواجه لم يفلح في ردم ما تركت وراءها من فراغ عاطفي !.
كانت أول امرأة عرفها في حياته ، اكتشف معها ماهية الحب، وذاق في مملكتها لوعة الصبابة وحرقة الوجد. !
التيه ـ رواية : محمد شودان ( الجزء الثاني )
ذلك المساء، أخذ دشا باردا، فأحس على إثره بانتعاش رائق أنساه تعب السوق، انتقى ملابسه بعناية، وبعد ارتدائها، رش العطر على قميصه وخلف أذنيه، ثم خرج قاصدا المقهى.
جلس على الكرسي حيث تناول فطوره الأول بسلا، وعلى الكرسي الذي بجواره وجد جريدة مبعثرة الأوراق، وقد مسخت صفحاتها وصارت كورق الخريف الذابلة من كثرة الأيادي التي عبثت بها طوال النهار، أخذها إليه ونظم ورقها بروية ثم شرع بمطالعتها، منتظرا قدوم النادلة.
لو قُدِّرَ آنذاك لأحد أن يجلس قريبا منه، لسمع خفقان قلبه، لم يكن في الأصل يقرأ الجريدة، بل كان محتميا بها ريثما يهدأ روعه.
ترصد حركتها بين الطاولات؛ كانت مشغولة ومفتونة، ولاسيما فاتنة، وكانت المقهى غاصة بالرواد، خاصة في القاعة الداخلية، حيث احتشد الشباب استعدادا لمشاهدة مباراة من البطولة الإسبانية.
بعد مدة، ربما قصيرة، وصلت عنده، فتوقفت عند حدود الطاولة أمامه، مسحتها بخرقتها الصفراء، ثم استقامت، تنتظر طلبه.
ــ قهوة عادية رجاء.
سيزيف يعتلي ..الصخرة استرواحا ! ـ قصة : حدريوي مصطفى (العبدي)
أحس بتعب شديد يسحقه ـ ما شعر بمثله يوما ـ يكسر عزمه ، يثنيه عن مواصلة المسير، وزاده عطش شديد همّاً ثانيا بات يستحلب له جُدُر حلقومه لمجابهته ، وهو يجر رجليه المنهوكتين سيرا على الرصيف؛ عرقه المتكرر وقميصه البليل كانا يلطفان شيئا من الحرارة المغمور في حضنها خصوصا حين يركب الأثير نسيمٌ باردٌ منفلت من صدر القيظ ؛ بينما شمس غشت الشاوية بأجوائها الجافة ظلت سادية معه ، تنحر استمتاعه بالانتعاش لحظات قصيرة بعد ملامسة إحساسه به.
ودّ أن يأخذ قسطا من الراحة يسترد خلالها قواه ويبدد وهنه غير، أنه ما أن رنا صوب المغرب حتى عدل ، فالشمس المنحدرة نحو الأفق لم يبق لها إلا خطوات وتغيب ، وبيته... على بعد ساعتين ونصف أو أكثر بقليل هناك ...هناك على أطراف المدينة ، قد فكر وقدر، ثم فكر وقدر أنه إن طاوع رغبته واستكان ـ حتما ـ سيحل المغرب وهو على طريق العودة ؛ هم ثانية بشرب جرعة صغيرة من ماء تمناها باردة زلالا، لكن الزمان الرمضاني حال ومناه ؛ فاكتفى بالتوقف ريثما يستبدل ورقا مقوى متآكلا مدسوسا فِراشا داخل حذائه الرقيع بآخر متّقِيـاً به مسمارا نافرا ، قد أدمى بطن قدمه ، ولما فرغ اعتدل منتصبا وطفق يدوِّر الرّجلَ الثانيّة ذات الشمال وذات اليمين ، و وجهه أخذ أسارير منكسرة تنم عن ألم ومعاناة وكثير من عدم الرضى والسخط .