تدور في رأسه أفكار عن عذاب القبر و حياة البرزخ. يسمع أصواتا غير واضحة تأتي من غيابات المجهول، كأنها قادمة من أعماق بئر مطمورة، لعلها أصوات منكر و نكير أو شياطين القبور. يحاول جاهدا رفع جفونه الملتصقة بالحدقات المنتفخة و المتورمة، ألم فظيع في الركبة، خدر شديد من الكتف إلى رؤوس الأصابع، ظلام و رائحة أتربة خانقة. آخر عهده بالدنيا، هدير يصم الآذان، أرض تهتز و بيوت تتهاوى. كان لا يزال في مسجد القصبة السلطانية يصلي الوتر عندما سمع صراخ الناس و عويلهم، لا يعرف كيف أمكنه الوصول إلى بيته في أهوال يوم القيامة تلك. سقف المنزل تداعى و صوت الوالدة التي اعتادت أن تترنم بعد صلاة العشاء بأورادها الصوفية، لم يعد هنالك. أركان الدار تخر تحت هول الزلزلة العظيمة. دوي و أدخنة، ثم ساد الصمت و انطفأ الكون.

ملحوظة : "كل تشابه أو تطابق مع شخصيات هذه القصة ليس من محض الصدفة، ولا من نسج الخيال."
    لم أستطع نسيان ذلك اليوم بتاتا ولن أنساه، وهو الذي كان له كبير أثر في حياتي.. أبلغ الآن من العمر أربعين سنة ونيفا، لكني أحمل عاهة نفسية كبيرة لا يستطيع الطب المتقدم أن يحلها، وهي أني امرأة بدون طفولة، أو بالأحرى لم أتمكن من الانخراط فيها على غرار العديد من الأصدقاء الذين يتحدثون عنها بإحساس مزدوج،  يمزج بين الحسرة على فقدانها، والافتخار بأيام مغامراتها وحماقاتها..
    في ذلك اليوم الذي لن أستطيع التخلص من كابوسه، كنت ألعب أمام باب البيت، حيث خرجت والدتي فجأة ثم نادت علي بطريقة غير معهودة، خلت في الأمر شيئا غير معهود، لكني ما إن وددت استفسارها حتى أخبرتني بأن أحد الضيوف سيزورنا خلال هذا المساء، وأنه علي أخذ حمام ساخن وارتداء أفخر ما أملك من الملابس، بدا لي الأمر غريبا بعض الشيء ، إذ ما علاقتي بهؤلاء الضيوف؟ ومتى كانت والدتي تهتم بمظهري حين زيارة أحدهم؟

لقد مرعام وسبقته أعوام وتزاحمت الأيام.
ومرة أخرى ها أنت تعودين.
 تلوحين بأن تفجري كل ذنب التصق بك.
عُدت تحاولين جري إلى مآسي مدائن الموت والدمار التي هجرتها منذ زمن.
في ذاكرة الليل يفاجئني حلمك الضائع مني قسرا منذ ألف سنة.
هذا عمر آخر يناديني إليك.
 يا امرأة حسبتها ذات عهد زورق نجاتي
 الذي ركبته فرارا من أحزاني.
هذا سرك عاد يسري عبر نسيم الليل ويغني...

anfasse30094  ها قد بدأ الليل يسدل سجوفه ويرخي أستاره شيئا فشيئا، .وبدأت السماء تمطر مطرا ساجما سرعان ما انقلب إلى مطر غزير يسقط زخات زخات، والسحب واجمة مكفهرة عابسة الوجه، تنتقل في الفضاء عجلى كحمامة تطاردها الصقور، وأنت ما زلت تطل من النافذة على الشارع سابحا في همومك ومآسيك، تعتصر قلبَك أحزانُك، يهد اليأسُ وجدانَك ويمزق الأسى كيانَك، سارحا في سوانح أفكارك، منقادا لأوهامك، تخضب وجهك بدمع يغرورق من عينين كأنهما سيل جارف أو صنبور ماء ترك مفتوحا، ليلك بهيم وكل أوقاتك عصيبة، لا يعرف النوم إلى أجفانك سبيلا، تظل الليل كله أو بعضه تتأمل أرجاء المدينة الصاخبة وأضواءها القاتمة، وتسرح بخيالك في جوانح أفكارك. كنت دائما ما تطيل التفكير كأنك على أهبة أن تخرج للعالم بنظرية حول الكون، لكنك هذه المرة سئمت من طول تجوالك في تلك الغياهب التي لن تقذف بك إلا في عالم الشك والحيرة.

anfasse30092"موحشة هذه المدينة بدونك".
هذا ما كتبته له في آخر رسائلها الإلكترونية، حين رن هاتفه الجوال كان يلج باب غرفة النزل الذي سيقيم فيه، تعثر في قراءة الرقم، كان رقما جديدا غير مسجل لا في ذاكرته و لا في ذاكرة جواله، حاول الاتصال بهذا الرقم مرة و مرتين و ثلاثا، لكنه في كان في كل مرة يتلقى الإجابة نفسها، صوت أنثوي يخاطبه، بنفس الجفاء و بنفس العذوبة     و بنفس الحياد " الرقم المطلوب غير مبرمج بالشبكة".
ظلت كلمات تلك الرسالة تتردد في ذهنه، لم يقدر على محوها من جواله و لا من ذاكرته، و استمرت محاولات الاِتصال بصاحبها لكن سعيه كان يخيب في كل مرة.

anfasse30091كان أول اللقاء حاسما..
ولم يكن القطار الذي استقليته محض صدفة..
حتى أنني عندما أصبت بالغثيان...
كانت خطة..
خطة القدر..
أن تتشابك أقدارنا
 .. أن استفرغ قرب باب منزلك!!
لم تكن ابدأ صدفة

anfasse22091يخرج من البيت بعد الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن يقضي كل حاجاته ومتطلباته البسيطة. لابسا سروال الجينز الأزرق وقميصه الصيفي المزركش بألوان متناسقة الأشكال كأنه لوحة تشكيلية، بظهر مقوس شيئا ما، متراخ بعض الشيء بفعل السنين التي يحمل عليه، ومدى الأشغال التي قام بها في المؤسسات التي اشتغل بها كمدرس لمادة التاريخ ثم كحارس عام ومدير لإحدى الثانويات. رأسه شبه فارغ من الشعر بفعل الصلع الذي هاجمه، وما تبقى منه فهو أبيض فوق الأذنين والقفا. يضع نظارة طبية سميكة الزجاج. يجلس في المقهى القريب من بيته ويجالس بعض زملائه أيام العمل، إن كانوا، يتبادل معهم الحديث حول ما تعج به الساحة الوطنية والدولية من أحداث وأخبار، يقرأ الجرائد ويطلع على جديد الأخبار.

anfasse10093رجت من الحانة، محافظا على جزءٍ من توازني، ركنت إلى جذع نخلة ونمت.
    استيقظت على وقع مداعبة خيوط شمس الصباح لوجهي.. أخذت طريقي إلى البيت؛ رأيت صديقي على الجهة المقابلة للرصيف، لوحتُ له، فلم يرد علي.
    استغربت! لكني تلمست له عذرا، فربّما لم ينتبه! لأنه كان منشغلا بصاحبه.. لكني كنت متأكدا من أنه رآني.. لم يَهمَّني الأمر كثيرا.
    مررت بمحل العم "منتصر" الذي يبيع فيه المرايا. بعد تجاوزي له ببضع خطوات، توقفت..! تراجعت خطوات حتى استقريت أمام المرآة التي في الواجهة.. صعقني ما رأيت! كيف يعقل ألا تنعكس صورتي عليها..!! نظرت حولي، ساورني شك في أنني لم أعد مرئيا..
    ركضت إلى المكان الذي صحوت فيه.. إنه جَمع من الناس ملتف هناك حول أمر ما!

مفضلات الشهر من القصص القصيرة