ذاكرة مدينته عقيمة كأرحام بعض النساء، حين عاد إليها يوما يبحث عن خلاص من ذاكرته الموبوءة، احتضنته أسوارها، فوأد خلفها أفراحه و كتب وصيته على شاهدة قبرها. مد إليها يده مصالحا فاعترضته فوهات البنادق المتمترسة خلف بقايا صور كانت و لا تزال تسكن ركنا من روحه، وجوه الصبايا المطلة من خلف النوافذ، و أصوات الصبية اللاعبين بين الأزقة و في الباحات و صوت المؤذن الصادح...كل ذلك تهاوى و وُئِدَ تحت ركام صومعة و تناثر مع دموع اليتامى و الأرامل. و صَمَتَ الجميع، فلا صوت يعلو فوق صوت الأزيز.

في  اللحظة التي تتلو ضغطة زر الكهرباء و انطفاء النور ، في تلك اللحيظة القصيرة جدا و الحاسمة ، خيل إليه أنه رأى شخصا يحدق فيه ببرود مخيف من بين طيات الظلام المنسكب. أعاد إشعال المصباح بسرعة  و أرخى السمع مترقبا أي حركة تدل على وجود ذلك الشبح المتخيل ، لكن لاشيء .
أعاد إطفاء النور و بدأ يحس بتلك القشعريرة الغريبة تسري في جسده ، سرت كالتيار الكهربائي انطلاقا من  رأسه نازلة عبر شرايين جسده متدفقة مع الدم لتصل إلى مفاصله، انتصب شعره و شدة هواجسه تزداد شيئا فشيئا . سبح خياله في الظلام الدامس متخيلا العفاريت و الجثث  و الجنيات المتعطشة للدم و الأعضاء البشرية تحوم حوله ، أحس بعيون ما ترمقه في الظلام و أحس  كأن أياد مجهولة تحاول لمسه و الامساك به ، زاد تحفزه و ارتفعت حدة سمعه حتى صارت أدق حركة تبلغه و كأنها تبت عبر مكبر صوتي .
 

حمامة بيضاء تتنقل من غصن إلى أخر، تعزف أحلى الألحان وأشجاها، ترقص أجمل الرقصات وأروعها، ترسم لوحات الحب على إيقاعات نسمات الرياح الهادئة، تسبح في الفضاء بدون هموم تثقلها...
توقف عن الكتابة فجأة وأخد يعبث بقلمه، تارة يمرره من يد إلى أخرى بخفة ويدحرجه على الطاولة تارة أخرى، ثم تأمل أخر ما كتب :" بدون هموم تثقلها ". رفع رأسه وتتبع حركاتها حتى سكنت واستقرت على جدار يقابل غرفته، استمع من جديد إلى هديلها كأنه يسمعه أول مرة، تصورها تعزف سمفونية الحب لحبيبها حينا وتشتكي حزنها ورتابتها أحيانا، ربما تفكر في الغد المجهول أو في الماضي القريب...

إنها موديله ، وعشيقته ، وربة بيته . تعيش معه في المرسم الخاص به في شارع زنامينكا : صفراء الشعر ، ليست طويلة القامة ، ولكنها حسنة القوام. ولا تزال في ميعة الصبا ، جميلة حانية . هو الآن يرسمها في الصباح في لوحة " المستحمة " وكأنها واقفة على منصة صغيرة ، عند جدول في الغابة ، مترددة في النزول الى الماء ، حيث الضفادع التي تحدق بعيونها الجاحظة. أنها عاربة تماماً بجسمها الناضج ، نضوج أجساد الفتيات من عامة الشعب ، وهي تغطي الشعر الذهبي في الأسفل بيدها . بعد ساعة عمل انحرف الفنان عن حامل اللوحة واغمض عينيه قليلا واخذ يتمعن في اللوحة من هذه الجهة او تلك ، ويقول ساهماً :
حسناً ، لنأخذ فترة إستراحة . سخّني ابريق القهوة الثاني .

عبثا حاولت ان أنسج قماش قصيدة، أكسو به جسد أحزاني، فكانت صنارة القلم تنكسر أمام قسوة صوف الألم وتعجز آلة الحياكة الأدبية عن الترصيف في جلدي.
يختنق صوتي ويتلاشى في غرفة لا هواء فيها، فأقع اسيرة الصمت، واكتفي عن مخاطبة هذه الدنيا.
وبعد فترة أتذكر صوتي فأستيقظ مذعورة واصرخ بكل ما أوتيت من قوة، لا للتنفيس عن الغضب الكامن في داخلي، بل لأتأكد فقط إن كان صوتي لا يزال موجودا.
وبعد التأكد أعود لصمتي..
تدخل أزرار الآهات لتملأ فراغ عروة الصمت، وتقفل قميص معاكسات القدر، وتشد ربطة عنق الانتظار....

كنت في الخامسة عشرة عندما سمعت أن للنساء أسماء عدة، وذاك بسبب أعمارهن، وأن الأسماء ليست واحدة، حينها لم أفهم ما سمعت كل ما أذكره أنني خفت كثيراً وتساءلت قائلة: هل سيتغير إسمي حسب كل مرحلة من عمري؟ وكيف سأتقبل هذه المفارقة و أنا من أحبت إسمها حتى قبل تشكله في الألسن.
وبعد برهة من الزمن سمعت جارتنا تنادي ابنتها:
 - يا أنت، فقلت هل بدأ سُلم السنون.
ومع ازدياد سنوات عمري بدأت أفهم قصة الأسماء
 اسم الطفولة: طفلتي.
اسم المراهقة: حبيبتي.
اسم الشباب: أ، ب، ت، م، ع، ر ...كل الحروف.
واسم لمرحلة الأربعين، اسم العنوسة: عانس، لست أدري بعد من اخترع هذا الاسم، لنذهب جميعا إلى خانة الألغاز لفك شفرات هذا اللغز.

“لا خطيئة أكبر من الشهوة  ولا تعاسة أكبر من التذمر ولا ملمة أكبر من حب الاقتناء لذلك كانت السعادة الكبرى في القناعة”
لاوتسو
أرى حريتي كوردة لا تذبل وشذاها ينفحني بأطيب أريج وسأتخذ من وجودي  أصيصا لها.
إ.م الكتابة  تحرر

عندي ينبوع جميل اكتشفته مرة وأنا أهيم على وجهي في الحقول صنته عن كل عين وحفظته من كل مقالة، ماؤه حلو سائغ ولونه من لون الروح في شفافيتها  حين نزل مني منزلة الروح من الجسم والمعنى من اللفظ  غازلته ،ناغيته وشوشت له ترجيته باسم الأبجدية  ورميت  له جميع شباك المعجم  وصنانير البلاغة ولكنه كان أبيا  للصيد عصيا على الوقوع فريسة  لولا أن بادلني محبة بمحبة .
رشفت منه مرة رشفة واحدة ثم انتهرني ينبوعي قال حسبك لا تقتل نفسك اكتف بالقرب والنظر  فتحت ظلال جمالي سكينة لك وفي حمى ودادي نشوتك خبئني عن العيون وصني عن الأفواه  مت في حبا تنل حريتك ولا تمت في لذة فترسخ عبوديتك  بحبي  تتحرر من الموت ذاته ومن آصار الجسم وقيود المادة  .
قلت كيف وفي الحب عبودية؟ أنسيت قول القائل:

وأنا تائه في دروب الحياة، بين طيبها... وخبيثها، بين ما تعطي... وما تأخذ ،وقفت فجأة... تحسست روحا تقتفي آثاري... تنفذ إلى أعماقي عمدا، أردت الالتفات ولكن تسمرت كل جوارحي، لم تعد تطاوعني، جفلت مكاني.... واجما.... مفزوعا، أنصت لخطوات تقترب مني، وقعها غريب.... كأن صاحبها لا يمشي مشينا.... ولا يخطو خطواتنا.... ولا يطأ أرضنا، خطواته تحكي قصة الوجود.... والفناء
سمعته ينادي من قريب... لكن همسه كان بعيدا جداً..... وعميقا جداً، استدرت إليه فالتقت عيناي بعينيه الغارقتين، تلمعان من شدة صفائهما... وباردتين حد الجمود، ابتسامته لا معنى لها... تأملتها جيدا فإذا هي بألف معنى.... ومعنى، تحكي الماضي.... والحاضر.... وما هو آت.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة