الرسالة الثانية
------
    حملت بين يدي ظرفا آخر، كان أثخن من سابقه.. تهيأ لي أنه يحتوي شيئا إلى جانب الرسالة.. خاب ظني، فالرسالة كانت عبارة عن بضع أوراق صغيرة الحجم.. لقد كانت رسالة أطول من سابقتها..
    قررت أن أحمل الصندوق بما احتواه، واتجهت إلى ضفة النهر.. جلست على حافته، ووضعت بجانبي الزهرة التي كنت أراها وكأنها تستعيد عافيتها.. ! ربما لأنها أحست بكيمياء ما مع الرسائل..
حملت الأوراق/الرسالة وشرعت أقرأ..
* * * * * * *
"إلى ربة الشين"..
أنا الآن على الجبهة، بعد لا جديد يلوح، يبدو أن الحرب ليست إلا خدعة، أو ربما إن القادة اتفقا على نصب فخ للمقاتلين لإبعادهم عن أحبائهم.. أستغل هذه الفرصة لأكتب لك، أو بالأحرى لأن أحكي لكِ حكاية التحاقي بالجيش "الوطني" وكيف وصلنا إلى الجبهة..

مُحاذاة باب القصر المَلكي . وقفت الفتاة البيضاء  قبالة سَاحَة الشَّرق، حيث لا عيبا يشوب صَفاء صوتها . فتاة ترتدي الأبيض .الحذاء أبيض كلون القصر . كانت هي الأخرى تنظر نحو الشَّرق حيث افريقيا تحترق و الشرق الأوسط بما فيه حضَارة العَرب القديمة تحترق . الجهلُ و الحِقد تشبَّت بأظافر دامية  بكراسي  السُّلطة . رؤساء أنتهوا دماء . انتهوا في طريق الهَرَب . انتهوا وراء-خارج القُضبان . الفتاة كانت تُخرِجُ ألحانا حزينة  كحُزنٍ قديم مدفون في صدر رجل عربي يتألم من حاله وحال ما آل إليه هذا العالَم الذي يلوي عنقه الأشرار نحو العُنف و القِو... !.
اليوم هو يومٌ مِن أيام غُشت . سماءُ أوربا كانت حارَّة شيئا ما في هذا اليوم .هنا أتى هذا العربي ليقضي أياما مُفعمة بالحياة ، هاربا من صَهد افريقيا و من حرارة مشاكل الإخوة الأعداء .في اسبانيا ، في مدينة من مُدنها الجميلة . مدينة تسكُن القلوب . أبواب القصر كبيرة بدون حواجز إلاَّ من شريطٍ بلاستيكي يشبهُ الأشرطة التي تضَعُها الشُّرطة العلمِية المغربية  أثناء التحقيق في جريمة قتل .سيارات شرطة اسبانيا .نوافذ القصر الملكي بعضها مُنفَتِحٌ على الخارِج . تنظرُ إلى قصور الشرق. تعانق الشمس كل صباح .أشعة كلها طاقة و حرية و جودة حياة .بين النوافذ تماثيل .تظهر و كأن التماثيل هي من تحرسُ القصر .

غرفة مظلمة وضيقة باردة كقطعة ثلج، تأوي جسده المنهك، برغم الدفئ الذي يتناثر كرذاذ بالخارج بقليل من خيوط واهية لأشعة شمس الشتاء الكئيبة. بكثير من جهد، أيقظ نفسه الغارقة في شبه رقود الأموات، كان شديد الإرهاق من قلة ساعات نومه التي يستنزف منها وقتا طويلا في التفكير في كل شيء وفي اللاشيء.
أخذ نفسا عميقا، ابتلع برئتيه ما تبقى من هواء الغرفة الرطب، كأنه يمتص دخان آخر سجائره بشراهة، للتخلص من رعشات توتر تلازمه كأنفاسه المتقطعة. حذق بالمكان الذي يدفن فيه جسده، مسح بعينيه الذابلتين كل زاوياه. لا يجد كالعادة أي عناء في تفقد محتوياته البسيطة: سريره الهش، كرسيه القديم، ودولاب خشبي صغير متهالك، يخفي بداخله ملابسه، ومرآة كبيرة ملتصقة بالباب. ولايمكن أبدا أن يغفل النظر للاطمئنان على عنكبوت يتقاسم معه جزءا صغيرا من سقف الغرفة.

إلى أطفال الجبل، حيث من شيم الكرامة تقديم الدفء قبل الأكل
على الأرض بسط الثلج هيبته، وبين الأجواء باثٌ أنفاسه الرطبة؛ خرجت.. فتلقفتها أذرعُه الباردة، عصرتْ له أضلعَها  وكزَّت على أسنانها لتحدَّ من ارتعاشها وتصدَّ بعض وخزاته. خطت خطوات  ثم التفتت وراءها فتبدّت تحت عينيها الخضراوين أثارُ أقدامها الصغيرة على الصفحة البيضاء الطرية، استفزها الشكل فتوقفت لتقارن بين الرسم والمرسوم غير أنها سرعان..  ما انشغلت بمدّ جوربيها الممزقين على كعبيها المتشققين النازفين اتقاء عضات البرد الغاشم؛ وهي تقف سقطت بعض أضاميم نعناع بري وزعتر خضراء ندية، لملمتها على عجل وحثت الخطى تتطلع إلى  الطريق الرئيس المرصوف برتل من السيارات القادمة من وراء الجبال.
 الرتل متوقف.. لعل كاسحة أمامه تزيل ما تساقط من الثلج طوال الليل. استغلت بعض الأسر اللحظة و انتشرت على طرفيْ الطريق لتلقي عنها بعض العياء وتمسح عن كواحلها بعض انتفاخ؛ الجميع – دون استثناء – منتش فرح يتملى المشهد العائم في البياض ، ويستعظم جغرافيته إلا هي كانت جوارحها كسلى لا تحركها إلا نبضات قلق و رجات حزن ثقيل.

-أبوكم نائم .. لا تزعجوه..
كانت هذه الجملة الصارمة حدا فاصلا يعيد كل نزقنا و فوضانا و زعيقنا -و نحن الصغار- إلى النظام و الصمت "اللمط" .
في الغرفة المجاورة كان يتمدد في هدوء خلال فترة الظهيرة بعد وجبة الأكل و كنا نحن نحشر في الغرفة الأخرى و نؤمر بالتزام الصمت و التقليل من الحركة طواعية أو تحت التهديد و الوعيد .
لم يكن الوالد ديكتاتورا ، لم يكن ينهرنا بالمرة و لم نره يوما ينظر الينا شزرا ... إلا في ما قل و ندر .
قسمات وجهه المتعبة دائما و المتألمة -أو هكذا كان يخيل إلي و أنا صغير-هي كل ما زال عالقا في ذهني بوضوح بعد كل هذه السنين.لكن في تلك الظهيرة الحزينة التي لن أنساها ما حييت ، كان الجميع يتحركون في المنزل .. و لم يكن هذا من عادة ساكنيه في هذه الفترة من اليوم .
كانت حركة لا تفتر تعم أرجاء البيت و كان بعض الغرباء عني يحتلون البيت متوزعين هنا و هناك .
أما هو فقد كان ممددا في الغرفة المجاورة التي أسدلت على بابها ستارة مفبركة .

أطلقت السماء سراح رذاذ ، اغتبط الشارع الذي امتصت حركته ساعة معها يسفر ضوء النهار .
على مرمى قلب سارع إلى الحياة أبصرته باتجاهها يتنزل المنـحـدر في تـُؤدة .
طفل يمتهن النط على دراجة الكنغـر*. بينما تصعد في جلال خطا مستقـيما نقاطه تـنـتهي عنده .
حـدست أن توازنـه لن يعمر. راهنت على سقوطه الوشـيك. ضبطت إيقاع سيرها. على مرمى قلب سارع إلى الحياة أبصرته باتجاهها يتنزل المنحدر في تـُؤدة .
حدست أن توازنه لن يعمر. راهنت على سقوطه الوشـيك. ضبطت إيقاع سيرها. لا محالة السير عزز في تقليص المسافة .
ناطا يتـمايـل يسـتعـيد تــوازنـا رشـيقــا ...
تبـيــّنــتـْه وسيما كما راق لها أن تراه . فرخ في صدرها حلم .. استبقت توقـا تخط لهذا الوسيم بطاقة

"الرسالة الأولى.."
   *  * *
جلست على الكرسي الهزاز.. أحدق في نسخة لوحة "الصرخة" المعلقة إلى جانب صورة تؤرخ لزمن الحرب، (كلاشينكوف وخوذة زيتية)..
 تساءلت مع نفسي: لماذا اختار هذه اللوحة تحديدا –الصرخة-؟ لوهلة رأيتني أنا الذي أصرخ.. وهل حقا هي لوحة تمثل الصرخة!؟ أم تمثل الصدمة؟ لا يمكنني الجزم، لأن اللوحة تظل بكماء مهما جسدت الحال..
ثم أعدت نظري إلى الصندوق الذي بين يدي، الصندوق الذي استخرجته من ذاك الجحر المبوَّب..! صندوق حديدي، يشبه تلك الصناديق التي طالما رأيتها في الأفلام الأمريكية.. قمت بفتحه بحذر، رغم أن الصندوق لم تكن عليه أي علامات للصدأ، أو يكتسيه الغبار.. أيقنت أن صديقي الشيخ، كان يُعنى كثيرا به، فهو على ما يبدو كلُّ ذاكرته..!
كانت محتوياته عبارة عن أظرفة لرسائل من زمن ماض، ماضٍ سحيق.. بالإضافة إلى مذكرة صغيرة، مكتوب عليها: (1988).. قلبت النظر في الأظرفة/الرسائل وفي المذكرة.. تساءلت: بأيها أبدأ!؟ بالرسائل أم بالمذكرة؟ سمعتُ صوتا داخليا يحاول أن يثنيني عن ذلك.. فكنت أقاومه.. ثم سمعته يقول:

لا تكترث لزيادة تاء غير مألوفة ..
ودعك مما يثيره الاسم من حنين إلى الشدو المنساب عبر الأثير العربي، متوسلا طير الوروار أو مناجيا زهرة المدائن. فيروزة هنا عنوان الشقاء في بلدتي، حيث كل شيء يباع ويشترى حتى الضمائر  !
قد تجد فيروزة في كل بيت. أما أو أختا أو جدة ملقاة في أي ركن كالدمية البالية. لذا لن أحكي شيئا مما تعرفه، أو تعودت طبلة أذنك على اهتزازاته كل صباح في مقهى الناصية.
 لك وعد مني، أنا الراصد لبعض ألوان الشقاء، أن تكمل القصة وتنصرف. لأنك دُست مثلي على صور الحرمان دون اكتراث. ما العيب في ذلك إن كان العالم خطة فاشلة لاقتناص السعادة؟ 
هرولت العاملات إلى حيث سقطت فيروزة مضرجة بدمها القاني. شمس الظهيرة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة لتزيد المشهد تذمرا وسخطا، بينما صوت مالك الضيعة يقرع الآذان بشتائمه الغليظة متوعدا فيروزة بالمزيد .ولد الخيرية، صاحت إحداهن، لو كنت ابن أصل لما رفعت عصاك على ولية. تفو يلعن أب.." ركلت الأخرى علب الكرتون المرصوصة غيظا فتناثرت حبات الخوخ يمنة ويسرة على العشب المبلل .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة