anfasse26031الرهان على البغل
 سحبَ الكرسيَّ نصف المهشم وامتطاه..حاول أن يتمطى فضاقت به المساحة المكتظة بأرجل أشباه الرجال..كل ما فيه ذاهل،كل ما حوله ذاهل.. سحب الكرسي المتيبس وأراح عليه عجيزته العظيمة،تتقاذفه خزعبلات من شتيت أفكار لم يؤمن بها يوما كما تقول له شريكة ما تبقى من تعاسته..هو مطمئن للكرسي كاطمئنان ما حوله.. ولا يدري أين يقف العقل الكسيح، بل متى يقف..
ألغت الشاشة الكبيرة المكتنزة بالصور الزاهية كل سؤال..جرَّ الكرسي إلى زاوية تمكنه من المتابعة الجيدة ..تألم الكرسي من عنف السحب .. امتعض رئيس كل الحاضرين وخادمهم من إهانة الكرسي.. لعن الساحبَ بصوت مسموع.. بلع الساحبُ الإهانة مثل كل المحشورين في المقهى.. ودَّ لو أنه في بيته مستلق وجهاز التحكم في يده يقلب به العالم كما يشاء..يقاطع مثلا خطاب الرئيس،أو يحذف الصوت ويستمتع بحركات الشفاه التي لا تقول شيئا.. مثل أفلام السينما الصامتة.. ليس للأمنيات مكان في تجارة الفرجة..
 

anfasse17031 أيُّ لغزٍ هذا الذي يَدفعني الآن، وبعد مرورِ ردحٍ طويلٍ من الزّمن، على انطفاءِ جدّي "السّي عبد السّلام الطّيب" وسطَ الشّموع البيضاءِ، للبحث في حكاياتهِ المدموغةِ؟ أتكونُ هذه العودةُ ضرباً من رغبة الذّاتِ للبحث عن كينونتها التي ضاعت منها وسطَ زَحْمةِ الحياةِ المعاصرة؟ هل كانَ جدّي يعلمُ أنّ كلّ أعراس ومراثي الجبلِ تنامُ في أصغر خلاياه؟ يبدو أنّ حياتهُ كانت مسرحيّة تتذابحُ في تفاصيلها الأسطورة بالدّين تذابحاً مُخيفاً؟ جدّي الذي كان يحفظُ القرآن، كانَ يؤمن، أيضاً، بضربٍ من المصادرةِ التقريريّة، أنّ العينَ المتدفّقة بين فَخِذَيْ جبل "بوعادل"، سَبَبُها قوةٌ ميتافيزيقيّة خارقةٌ عصيّة على الفهم: أيّ فقيهٍ هذا الّذي استطاعتِ الخُرافة بفتنتها الصاعقةِ أن تَنْسِفَ، في غفلةٍ منه، كلّ ما بناهُ يقينُ الدّين؟
    لقد كانَ جدّي "السّي عبد السّلام" رجلا ًكثير التِّرحال والسّفر، بحكم مهنةٍ كانتْ تستدعِي منه السّفر الدّائم لإحضار الصّوف، الذي يشكّل مادّته الأوليّة لصناعة جلابيب "الحبّة" المعرُوفة بجودتها وقُدرتها على مقاومة قَرِّ جبال الرّيف القاسيّة. كان يقطع المسافةَ الفاصلة بين قبيلته "ولاد أزام" ومدينة تاونات على أَقْدَامِهِ، هُناك سيستقلّ الحافلة صوب مدينة وزّان. وغالباً ما كان يصحبُ معه في رحلةِ سفره صديقه ومُساعده في العمل "سيّ محمد دْيامنة".

anfasse11031كيف لي ان أسرد كل تلك الحكايات التي أصبحت تلاحقني، وتستدرجني إلى متاهات لا تعني شيئا سوى إنها كومة من الأحلام التي تطاردني طوال الوقت.
كم تراودني أحلام يقضتي، وكأنها حيوانات خرافية، قادمة بكل همجيتها من أعماق عقلي الخائف، المتوتر، المرصود بعشرات الايماءات الغائرة في أعماق عقلي المتأرجح بين الخوف، والحيرة، كم مرة تملكتني وطافت بي بعيدا حتى تصبح أفكاري معشوشبة بطحالب تلك الأحلام التي أصبحت تسد منافذ كل ما هو منطقي، ومعقول، لم أعد أسأل، فمن له القدرة على التحليق معي في هذا العالم الافتراضي الساحر الذي يجرني إليه طوال الوقت، ليرفعني بعيدا عن جدران الغرفة الضيقة التي تضمني  تحت سقفها الواطئ، إلى دنيا هي أوسع من أن يلمها قلبي الصغير . 
فعندما  يرسلني لأقطع كل تلك الأميال للوصول إلى المقهى كي اشتري له مشروبه الذي يحوله منذ الرشفة الأولى إلى رجل رقراق كماء النهر، كان صاحب المقهى يدرك جيدا أن أبي يبتز طفولتي، ويعيث فسادا في حياتي، كنت أتطلع إليها كي تمنعه من إجباري على قطع كل تلك المسافات، بكل الوسائل التي لم تتعلمها جيدا، تحاول أمي أن تردعه، تمارسها بكل ما فيها من رغبة في أن تكون امرأة مرضية، لكنها تقع صريعة ضعفها فلا تتمكن من منعه، أمي المتعبة حد الإعياء، كانت تنظر إلي دون أن تقول شيئا، أو تفعل ما يجنبني تلك المشقة.

anfasse04034لم يكن منا من يجرؤ على الكلام ،ولكن لسبب ما لم ينبس أحدنا بكلمة،ولم يحاول أحد قط فعل ذلك .
التثاؤب يعلن حالة من العياء والإجهاد والشرود،وأحدهم يسترق الكلمات والحروف،يغترف لنفسه مما ليس له.
شيء غريب يجعل الكلمات تغيب عنا،وتنجلي معاجم اللغات عن هذا العالم، لتتحدث إلينا خفية بلسان متثاقل،وبنفس متقطع ،ثم تعلن صمتها من جديد.
كان صمتا ينسي العالم الكلمات والجمل ،وحوله صمت يخرج منه صوت يتحايل على  نسيم الأمكنة  الهادئة ،ويعبث بالأعشاب والنباتات ذات السيقان الهشة فيكسرها ،فيهيم الصدى في الفضاءات، يعلو ويهبط ثم يتلاشى، كأن جنبات الدنيا تمتصه على مضض ، ثم يغيب عن الأركان والزوايا، وكأن للصمت أيادي خفية تخرج الصمت عن صمته .
كان أحدهم  يقطع أشجارا خفية ليبني له كوخا،دون أن يعرف رفاقه ، يهوي بفأس على سيقان الأشجار بضربات متتالية، ثم يتوقف ليعاود الكرة كعفريت مارد ،يرسم داخل الصمت موجات صوت مفتعلة، تسرق من ذلك العالم صمته البهي .
لما رآه أحدهم قال :

anfasse04033     وحدها كلاب "الكونت دوباري" كانت تُدمي ذيولَها وأرجلها من فرط الهياج إزاء كلاب ضالة، تمنعها السلاسل من ملاحقتها، وبث سموم القيد في جلدها الموبوء... كانت "الشيخة طامو" ذات السبعين خريفا أو يزيد، تسكن إحدى الشقق البديلة عن عشوائيات المدينة، غير بعيدة عن حانة الصعاليك، تطل كل يوم من نافذتها الضيقة، لتتابع فصلا من جنوح ابنها، فقد كانت ترى فيه ضربا من جنون كلاب " الكونت دوباري"...تعيش وساكنة الزقاق أفلام رعب متكررة، بطلها اسماعيل خطوطو، كل يوم في ذات المكان... لم تكن سلاسل الشيخة طامو سوى أبواب حديدية موصدة، يخبطها ساعة الهياج بقوة، حتى إذا بلغ اليأس مداه، استل من حزامه مدية يتلألأ بريقها فيعمي عيونا مشدوهة، ويربك قلوبا خائفة، تترقب حركات المعتوه وسكناته. ساعتها يبدو الزقاق خاليا من المارة ، موصدا في وجه السيارات والدراجات دون علامات المنع، حيث يتحول اسماعيل خطوطو إلى قانون جديد يلغي كل علامات التشوير...ينزع ملابسه في بلادة وعجرفة مقيتة، ويرسل وابلا من السب والشتم لكل العيون المراقبة من خلف النوافذ، تتأمل خطوط جسده البادي مثل خريطة متشابكة المفاتيح...

anfasse04032تنتظم براريكنا1  في مجموعة من الأزقة يجمع شتات أطرافها حيٌّ صفيحي يدعى "الكاريان"، يضم مهاجري القرى القريبة من مدينة الدارالبيضاء والبعيدة عنها. تختلف لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويجمع البؤس بينهم على حد سواء. يظهر القهر على وجوههم الشاحبة، يشتغلون بعضلاتهم القوية طيلة اليوم، متفرقين في مشاغل مختلفة، ويعودون مساء. تختلف بهم السبل بين من دخل بيته وأغلق الباب خلفه، وبين من اطمأنَّ على حال أسرته ثم انصرف عند الحلاق لمعرفة أحوال الأصدقاء وتبادل أطراف الحديث وتدخين "الكيف"، وبين من ابتُلِي بأشياء أخرى فينصرف إليها، فتجده قابعا في فرن "الدرب" يلتمس الدفء شتاءً.
عباس واحد من كل أولئك الناس، يبعد عن كوخنا بخمس أزقة في اتجاه الشرق، يعرفه الجميع، يصنع الحلويات ويبيعها للزبائن في الشارع العام، عبر عربة يدوية، بعجلتين. كلما حل بالساحة التي تتفرع عنها كل الأزقة إلا وخلق الفرجة. رجل محبوب من الجميع، صاحب نكتة ويمتاز بخفة دم. في السراء والضراء حاضر، يساعد على بناء الخيمة لاستقبال المعزين ويتأسف لضياع الفقيد الذي كان شُعلةً يستنير بها كل من عرفه، إن كانت هناك وفاة ما، ينعي مع الناعين ويشهد الجنازة ويصلي عليها سيرا على الحديث النبوي :" مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، ويعظ من معه بما تيسر له معرفة بالدين، ويعود مع الناس من المقبرة ليأكل ما لذ من كسكس الجيران المُعَدِّ لهذه المناسبة، ويتخشع لقراءة القرآن ليلا، يأخذ الموعظة من أفواه الفقهاء، حَفَظَةِ القرآن، ويتصدق عليهم بعد العَشاء مما تيسر من رزق حلال.

anfasse04031قال يعقوب ليوسف: أخفِ حُلمَك حتى لا يَقتلك.
 لكن إخوة يوسف كانوا دائمي التفتيش في ذاكرته ومذكراته وموبايله حتى عثروا بالصدفة أو بلعبة القدر الغادرة والتي يمارسها دائمًا الآلهة على الحُلم الجنين؛ فألقِيَ يوسف في البئر حتى يَغرق حُلمه.
***
أَخرجَ السقا يوسفَ من البئر ونسى حُلمَه فيه، وذهبَ به إلى عزيز مصر عارضًا بضاعتَه عليه، فضَمّه عزيز مصر إلى قصره خادمًا أمينًا.
***
ما كان يوسف دونَ حُلمِه ليصير خازن مصر، ولا كانت لتطمع فيه زليخة وتُقطَّع الأيدي من أجْله، لذلك كان دائمًا ما يذهب إلى بئره المذكور في القرآن كل صباح، يَنظر جثة حلمِه الملقاة في قاع البئر أمامَه، يسأل كل مَن يُلقي دلوَه فيه أن يساعده على انتشاله.. لكن مَن يرغب في الحصول على جثةٍ في بداية نهاره؟. لذلك كان لا يَلتفِت إليه أحد، ولذلك ظَل يوسف على جدار البئر مرسومًا تمثالا للحزن والآسى والأمل.
***

anfasse24022عودة الحلم اللامنتهي، منتهى الحلم، إحساس بأن العيش فوق غيمة منعشة ممكن. أن أراك في كل مكان حتى إن لم تكن، أن أعيد ترتيب المشاهد لأقحمك فيها.  الحب حمى لذيذة، هلوسة. أن أحدثك في غيابك، أن أريك أثر الشمس على بشرتي بعد يوم على الشاطئ.
ان انتظر الصباح نجمة نجمة لأراك، أن أشتري أحمر شفاه من أجلك، أن أنظر للمرآة لأراك، أن أضع العطر على كفي حتى يبقى شيء مني عندك. أن أكشف لك عن دهاليز قلقي السرمدي، وأشتم القدر الذي لم يجعلني لك و لم يلاقني بك. وأحب كل التفاصيل المتعلقة بك: مقعدك وزندك ونظرتك التائهة في. وأردد أغنيتنا المكتومة، في السر، أن أتمنى قهوة الصباح على الشرفة الصغيرة معك، أنت ترتشف القهوة تتطلع في المدى وأنا تائهة في مدى انتصاري بالحصول عليك. أجمل الصباحات تلك تبتدئ من ذراعك وأجمل الأمسيات ما انتهت على سريرك، لا سر بيننا بعد انتهاء الليل، تكشف الرؤى المشبعة، لا عطش بعد ذلك ولا رغبة مستعصية التحقق ولا أنثى بعدي على هذه الأرض.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة