تجلى له طيفها ،حدثه دون أن تتحرك شفتاه ،اشتكى بؤسه وحيرته ،غضبه وفرحه ،ثم صمت صمتا تفضحه كل الكلمات التي غابت بغتة.
في ذا المكان الذي اتخذ له فيه متنفسا يأوي إليه كلما أحس بالضياع، يتربع جبل يغرق في خضرة يانعة ،وسط غبش من ضباب يخفي شمس النهار،جبل يشي بحالة بؤس شديد.
الشمس تغرق هي الأخرى بين الظلال التي ينشرها ذلك الضباب الكثيف ،تراه يزف للحياة سمفونيات الصمت التي تجعل جمال الدنيا الخرافي، يرقص على إيقاع هدوء هذه الأمكنة .
ابتعد الطيف شيئا فشيئا واختفى ،نظر إلى نفسه ،تساءل ،نظر من حوله ،لم يجد شيئا ،حاول أن يتذكر ما حدث ،لكنه لم يستطع .
وهو فوق ربوة قريبة إلى جانب شجرة ذات فيء ،اختلطت الظلال ومنابعها ،فشكل المنظر شبح شخص مبعثر المعالم ،يتغير شكله بتغير الزاوية التي ينظر منها محمود ،بعض شعاع الشمس يخترق ذلك الشيء الذي تمزق تفاصيله ظلال الأغصان والنباتات دون تكلف.
حكاياتٌ موشومةٌ(2): تِليلّا؛ مِحنًةُ الجُرحِ الأسود ـ قصة : عبد الرّحيم دَودي
بَعْدَ صلاةِ العشاء، تَقَاطَرَ شُيوخُ القَريّة ومَعَهُم جدّيَ "سي عبد السّلام" برفقة مساعده، على منزلِ "سّي قاسم ولد الزّرواليّة". كان المَوعِدُ كقافيّة مقيّدة في نهاية مُعلّقةٍ جَاهِليَّة. دَخَلَ الجَمْعُ إلى "الدّكانةِ" فَوجَدُوا ضُيوفاً قادمين من قرية "البُرُومِيّين" جاءوا ليشتروا جَلابيبَ الحبَّةِ، أو يَقْتَنِصُوا بَعضَ الخَرِيدَاتِ المصُونات والكَواعِب النّاهداتِ زوجاتٍ لهم أو لِكِبارِ أبنائهم، الذينَ بَدَأت تَصْدُرُ عنهم فَواحِشُ الفِعل. بدخولِ "سّي عبد السّلام" وقف الجَمْعُ يُبَادِلُونَهُ السّلامَ والعِناقَ، فقد كانَ محبوباً عند الجميع، ومَعروفاً بخفّة روحه وكرمهِ وقوّته أيضاً. عندها جاء "سّي قاسم" مرحباً بكلّ الضيوفِ، داعياً إياهم للجلوسِ على فراءِ "الوعولِ" المدبوغة بالملحِ الحرّ والمنظفة والمفروشةِ فوق زرابي "الدُّوم". جَلَسُوا جَمِيعاً بِشَكلٍ دَائِريٍّ مَركَزُ قُطْرِهِ "سّي عبد السّلام اليحياوي" حفيد"سيدي يحيى الآزمي الإدريسي". وحينها جاء "سّي قاسم" حاملاً صينية كبيرة تضمُ ثلاثة أباريق من الشّاي ترافقه ابنتاه "خديجة" و"عزيزة" تحملان صحون زيت الزيتونِ والعسل الحرّ والسمن البلديَّ. بينما تكلّف ابنه الصغير بإحضار صحون الجوزِ واللّوز البلديّ. كانت عيون الضيوف تتركز على هاتين الجبليتين الموشومتين بجمال غجريّ يضجّ بالأنوثة. كانت خديجة أنضج وأكثر أنوثة، تكشفُ قامتها الفارعةُ عن قوامٍ خوطيٍّ ميّادٍ، وعلى صَدْرِهَا يَنطُّ نَهدانِ نافرانِ كأنهما أرنبين مشاغبين في غابة سعيدة.
إذا الشعوب كُوِّرت! ـ قصة : عبد العالي زغيلط
الرهان على البغل
سحبَ الكرسيَّ نصف المهشم وامتطاه..حاول أن يتمطى فضاقت به المساحة المكتظة بأرجل أشباه الرجال..كل ما فيه ذاهل،كل ما حوله ذاهل.. سحب الكرسي المتيبس وأراح عليه عجيزته العظيمة،تتقاذفه خزعبلات من شتيت أفكار لم يؤمن بها يوما كما تقول له شريكة ما تبقى من تعاسته..هو مطمئن للكرسي كاطمئنان ما حوله.. ولا يدري أين يقف العقل الكسيح، بل متى يقف..
ألغت الشاشة الكبيرة المكتنزة بالصور الزاهية كل سؤال..جرَّ الكرسي إلى زاوية تمكنه من المتابعة الجيدة ..تألم الكرسي من عنف السحب .. امتعض رئيس كل الحاضرين وخادمهم من إهانة الكرسي.. لعن الساحبَ بصوت مسموع.. بلع الساحبُ الإهانة مثل كل المحشورين في المقهى.. ودَّ لو أنه في بيته مستلق وجهاز التحكم في يده يقلب به العالم كما يشاء..يقاطع مثلا خطاب الرئيس،أو يحذف الصوت ويستمتع بحركات الشفاه التي لا تقول شيئا.. مثل أفلام السينما الصامتة.. ليس للأمنيات مكان في تجارة الفرجة..
حكاياتٌ موشومةٌ(1) : أعراسُ النّهر البَارِدِ ـ قصة : عبد الرّحيم دَوْدي
أيُّ لغزٍ هذا الذي يَدفعني الآن، وبعد مرورِ ردحٍ طويلٍ من الزّمن، على انطفاءِ جدّي "السّي عبد السّلام الطّيب" وسطَ الشّموع البيضاءِ، للبحث في حكاياتهِ المدموغةِ؟ أتكونُ هذه العودةُ ضرباً من رغبة الذّاتِ للبحث عن كينونتها التي ضاعت منها وسطَ زَحْمةِ الحياةِ المعاصرة؟ هل كانَ جدّي يعلمُ أنّ كلّ أعراس ومراثي الجبلِ تنامُ في أصغر خلاياه؟ يبدو أنّ حياتهُ كانت مسرحيّة تتذابحُ في تفاصيلها الأسطورة بالدّين تذابحاً مُخيفاً؟ جدّي الذي كان يحفظُ القرآن، كانَ يؤمن، أيضاً، بضربٍ من المصادرةِ التقريريّة، أنّ العينَ المتدفّقة بين فَخِذَيْ جبل "بوعادل"، سَبَبُها قوةٌ ميتافيزيقيّة خارقةٌ عصيّة على الفهم: أيّ فقيهٍ هذا الّذي استطاعتِ الخُرافة بفتنتها الصاعقةِ أن تَنْسِفَ، في غفلةٍ منه، كلّ ما بناهُ يقينُ الدّين؟
لقد كانَ جدّي "السّي عبد السّلام" رجلا ًكثير التِّرحال والسّفر، بحكم مهنةٍ كانتْ تستدعِي منه السّفر الدّائم لإحضار الصّوف، الذي يشكّل مادّته الأوليّة لصناعة جلابيب "الحبّة" المعرُوفة بجودتها وقُدرتها على مقاومة قَرِّ جبال الرّيف القاسيّة. كان يقطع المسافةَ الفاصلة بين قبيلته "ولاد أزام" ومدينة تاونات على أَقْدَامِهِ، هُناك سيستقلّ الحافلة صوب مدينة وزّان. وغالباً ما كان يصحبُ معه في رحلةِ سفره صديقه ومُساعده في العمل "سيّ محمد دْيامنة".
كم راودتني الأحلام ـ قصة : لمياء الآلوسي
كيف لي ان أسرد كل تلك الحكايات التي أصبحت تلاحقني، وتستدرجني إلى متاهات لا تعني شيئا سوى إنها كومة من الأحلام التي تطاردني طوال الوقت.
كم تراودني أحلام يقضتي، وكأنها حيوانات خرافية، قادمة بكل همجيتها من أعماق عقلي الخائف، المتوتر، المرصود بعشرات الايماءات الغائرة في أعماق عقلي المتأرجح بين الخوف، والحيرة، كم مرة تملكتني وطافت بي بعيدا حتى تصبح أفكاري معشوشبة بطحالب تلك الأحلام التي أصبحت تسد منافذ كل ما هو منطقي، ومعقول، لم أعد أسأل، فمن له القدرة على التحليق معي في هذا العالم الافتراضي الساحر الذي يجرني إليه طوال الوقت، ليرفعني بعيدا عن جدران الغرفة الضيقة التي تضمني تحت سقفها الواطئ، إلى دنيا هي أوسع من أن يلمها قلبي الصغير .
فعندما يرسلني لأقطع كل تلك الأميال للوصول إلى المقهى كي اشتري له مشروبه الذي يحوله منذ الرشفة الأولى إلى رجل رقراق كماء النهر، كان صاحب المقهى يدرك جيدا أن أبي يبتز طفولتي، ويعيث فسادا في حياتي، كنت أتطلع إليها كي تمنعه من إجباري على قطع كل تلك المسافات، بكل الوسائل التي لم تتعلمها جيدا، تحاول أمي أن تردعه، تمارسها بكل ما فيها من رغبة في أن تكون امرأة مرضية، لكنها تقع صريعة ضعفها فلا تتمكن من منعه، أمي المتعبة حد الإعياء، كانت تنظر إلي دون أن تقول شيئا، أو تفعل ما يجنبني تلك المشقة.
جزيرة الصمت ـ قصة : محسن العافي
لم يكن منا من يجرؤ على الكلام ،ولكن لسبب ما لم ينبس أحدنا بكلمة،ولم يحاول أحد قط فعل ذلك .
التثاؤب يعلن حالة من العياء والإجهاد والشرود،وأحدهم يسترق الكلمات والحروف،يغترف لنفسه مما ليس له.
شيء غريب يجعل الكلمات تغيب عنا،وتنجلي معاجم اللغات عن هذا العالم، لتتحدث إلينا خفية بلسان متثاقل،وبنفس متقطع ،ثم تعلن صمتها من جديد.
كان صمتا ينسي العالم الكلمات والجمل ،وحوله صمت يخرج منه صوت يتحايل على نسيم الأمكنة الهادئة ،ويعبث بالأعشاب والنباتات ذات السيقان الهشة فيكسرها ،فيهيم الصدى في الفضاءات، يعلو ويهبط ثم يتلاشى، كأن جنبات الدنيا تمتصه على مضض ، ثم يغيب عن الأركان والزوايا، وكأن للصمت أيادي خفية تخرج الصمت عن صمته .
كان أحدهم يقطع أشجارا خفية ليبني له كوخا،دون أن يعرف رفاقه ، يهوي بفأس على سيقان الأشجار بضربات متتالية، ثم يتوقف ليعاود الكرة كعفريت مارد ،يرسم داخل الصمت موجات صوت مفتعلة، تسرق من ذلك العالم صمته البهي .
لما رآه أحدهم قال :
اسماعيل خُطوطو ـ قصة : العياشي ثابت
وحدها كلاب "الكونت دوباري" كانت تُدمي ذيولَها وأرجلها من فرط الهياج إزاء كلاب ضالة، تمنعها السلاسل من ملاحقتها، وبث سموم القيد في جلدها الموبوء... كانت "الشيخة طامو" ذات السبعين خريفا أو يزيد، تسكن إحدى الشقق البديلة عن عشوائيات المدينة، غير بعيدة عن حانة الصعاليك، تطل كل يوم من نافذتها الضيقة، لتتابع فصلا من جنوح ابنها، فقد كانت ترى فيه ضربا من جنون كلاب " الكونت دوباري"...تعيش وساكنة الزقاق أفلام رعب متكررة، بطلها اسماعيل خطوطو، كل يوم في ذات المكان... لم تكن سلاسل الشيخة طامو سوى أبواب حديدية موصدة، يخبطها ساعة الهياج بقوة، حتى إذا بلغ اليأس مداه، استل من حزامه مدية يتلألأ بريقها فيعمي عيونا مشدوهة، ويربك قلوبا خائفة، تترقب حركات المعتوه وسكناته. ساعتها يبدو الزقاق خاليا من المارة ، موصدا في وجه السيارات والدراجات دون علامات المنع، حيث يتحول اسماعيل خطوطو إلى قانون جديد يلغي كل علامات التشوير...ينزع ملابسه في بلادة وعجرفة مقيتة، ويرسل وابلا من السب والشتم لكل العيون المراقبة من خلف النوافذ، تتأمل خطوط جسده البادي مثل خريطة متشابكة المفاتيح...
عباس الحلاوي ـ قصة : رشيد تجان
تنتظم براريكنا1 في مجموعة من الأزقة يجمع شتات أطرافها حيٌّ صفيحي يدعى "الكاريان"، يضم مهاجري القرى القريبة من مدينة الدارالبيضاء والبعيدة عنها. تختلف لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويجمع البؤس بينهم على حد سواء. يظهر القهر على وجوههم الشاحبة، يشتغلون بعضلاتهم القوية طيلة اليوم، متفرقين في مشاغل مختلفة، ويعودون مساء. تختلف بهم السبل بين من دخل بيته وأغلق الباب خلفه، وبين من اطمأنَّ على حال أسرته ثم انصرف عند الحلاق لمعرفة أحوال الأصدقاء وتبادل أطراف الحديث وتدخين "الكيف"، وبين من ابتُلِي بأشياء أخرى فينصرف إليها، فتجده قابعا في فرن "الدرب" يلتمس الدفء شتاءً.
عباس واحد من كل أولئك الناس، يبعد عن كوخنا بخمس أزقة في اتجاه الشرق، يعرفه الجميع، يصنع الحلويات ويبيعها للزبائن في الشارع العام، عبر عربة يدوية، بعجلتين. كلما حل بالساحة التي تتفرع عنها كل الأزقة إلا وخلق الفرجة. رجل محبوب من الجميع، صاحب نكتة ويمتاز بخفة دم. في السراء والضراء حاضر، يساعد على بناء الخيمة لاستقبال المعزين ويتأسف لضياع الفقيد الذي كان شُعلةً يستنير بها كل من عرفه، إن كانت هناك وفاة ما، ينعي مع الناعين ويشهد الجنازة ويصلي عليها سيرا على الحديث النبوي :" مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، ويعظ من معه بما تيسر له معرفة بالدين، ويعود مع الناس من المقبرة ليأكل ما لذ من كسكس الجيران المُعَدِّ لهذه المناسبة، ويتخشع لقراءة القرآن ليلا، يأخذ الموعظة من أفواه الفقهاء، حَفَظَةِ القرآن، ويتصدق عليهم بعد العَشاء مما تيسر من رزق حلال.