anfasse09124كان للطيور على اختلافها سحر خاص في نفسه التواقة للجمال، بل كان يرى في اختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ذلك البهاء المتجدد، يصغي في خشوع المتعبد إلى تراتيل الكروان، ويؤمّن في سكون على تسبيحات العنادل، ويتابع دفيف أسراب الحمام العائد إلى أوكار المنازل، وينتشي بعثرات طيور النغاف الفاشلة وهي تقتفي آثار ديدان الأرض خلف المحراث، قبل أن يسرح تفكيره بالاتجاه الخلفي سنوات إلى الوراء، حيث كانت طيور الدجاج يوما مصدر عنائه وشقائه، وسبب تعاسته شهورا خلف أسوار زنزانة "القايد موسى"...
لطالما شنف أسماع الحاضرين في مناسبات عديدة بحكاية أقربَ إلى الخيال منها إلى واقع بصم عليه الخيال الواسع لقائد تفنن في ابتداع أشكال العقاب، لكل من حاد عن جادة الأوامر، أو سولت له نفسه التطاول على المخزن بتجاهل الاستئذان، في زمن طالت فيه أيادي خدام الاستعمار، فعاثوا في الرعية أصناف العذاب...

anfasse09121صحا وتمطى، ثم هب من مرقده، وتيمم الحمام، يجر رجليه من وهن مجهول المصدر هدّ جسده هذه الأيام.
فرش أسنانه ، وتوضأ، وأسبغ، ثم صلى، والفجر يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ ولما اتم  تربع حيث صلى   مطأطئ الرأس، مغمض العينين، يتلو بعض الأوراد  في صمت عميق .
بعد لحظات ثقيلة قام ومشى على رؤوس أصابع رجليه الحافيتين ، حتى... لا يفطن لحراكه أحد... ودخل المطبخ.
على كرسي استوى قدّام مائدة طعام توسطت الأجواء بشكل مستفز؛  قد كان عليها عاصرة قهوة كهربائية، وفرن ميكرو أوند؛ من الأولى صب له كأسا، ومن الثاني أخرج هلالية محشوة ساخنة.
عالج  الكاس بمكعب من السكر واحد .. لا غير ، وغطى الهلالية  بغلالة مربى توت، ثم أخذ  يحتسي، ويقضم ...
على مقربة منه كان  "لابتوب"  بالشاحن موصل ، فتحه ، ولما جهزت صفحة النيت أخذ يتصفح الصفحات الإليكترونية للجرائد والأسبوعيات... باحثا عن ما  جد من الأخبار، وما تولد من جديد عن الأحداث السارية...

Anfasse2121لم تكن كعادتها تتصفح الكتب وتبحث عن ملخص لها أو ملاحظات حول أفكارها في أوراقي المبعثرة هنا وهناك. أحيانا كثيرة كانت تسألني بإلحاح عن كل أمر يثير فضولها أو تناقض بدا لها بين ثنايا الحروف أو فكرة قرأتها ولم تقتنع بها. تارة تجادلني في أمور الثقافة والفكر، وتارة أخرى تناقشني في الدين والسياسة وأشياء عديدة.
 راعني منظرها وهي منزوية فوق كنبة أمام التلفاز، تتفحص دفاترها بازدراء واحتقار وتقذف بكتاب رمادي اللون في كل اتجاه ثم تلتقطه من جديد كأم تعاتب ولدها عن شيء مشين قام به، ثم تتأمل بعنين متعبتين الغرفة كمن يراها أول مرة.  لم آلف رؤيتها حزينة وكئيبة كما هي الأن، أشرت لها أن تقترب مني فأوحت لي بحركة سريعة من رأسها أن لا رغبة لها في ذلك.

anfasse20114هكذا قُطِعَ حَبْلِي السُرِّي بعد أشهر احتجاجات قضيتها وأنا أرفس أحشاء والدتي كي تعجل بي لهذا الوجود ، وكي أُبرهن للجمع بأني ولدت على قيد الحياة كان لزاما علي أن أطلق صرختي الأولى معلنا البداية ، في دروب الدوار نهلت أولى دروس الحياة ، وهناك أسقطت أوَّلَ سِن الحمار ورميته اتجاه الشمس طالبا منها أن تبدلني إياه بسن الغزال ، فعلت ذاك دون توقف وفي النهاية حصلت على أسنان مبعثرة  في كل الاتجاهات لأعلن كفري بتلك التعويذة بعد فوات الأوان ، في الدوار استنشقت أولى نسمات الكيف المدرَّح الذي كان ينفثه على وجهي شخص مْبْلي  يقصدنه جل النساء حاملات أطفالهن في طابور طلبا للعلاج ، رغم كوني على علم  بأن بخاخ الكيف قد قتل جل خلايا دماغي في سن الصبا إلا أني مدين له بتركي على قيد الحياة ، فليرقد جسدك يا حكيم القرية في أمان و ليرحمك الإله .

anfasse20113كان مسعود مولعا بالبحث في الاستعارات البعيدة المراوغة ،أو باالأحرى تحويل الحياة إلى استعارة لا ينضب لها معين. وهو يطوق قطعة اللحم المشوية بالشوكة والسكين ؛ألقى على وجهي إبنه وزوجته نظرة سريعة قبل الاستغراق في تأملاته ؛فوقع بصره على اللوحة المعلقة فوق الجدار المقابل له فوق مزهرية الخشب مباشرة.تنهد في دهشة قائلا:
 ما أبسط اللوحة،ما أعمق الفكرة!

anfasse28102      في يوم من أيام آذار البارد جدا ذات مساء، وفي غفلة منّي انسحبتُ منّي، وكقطعة سكر سقطتُ في فنجان قهوتها، ذاب بعضي وترسب بعضي الآخر في قاعه..
     نظرتُ إليّ من الطاولة المقابلة لأشهد حتفي، وبشفتين قرمزيتين رشفتْ بعضي الممزوج بنكهة قهوتها، فلامستُ أحمر شفاهها وتسللتُ لأمتزج برضابها الشّبيه بشراب معتّق... جرعتْ ما كان قد امتزج منّي بريقها حين رنّ هاتفها، وردّت، وما أن أنهت مكالمتها تلك، حتى عادت لتحمل الفنجان ثانية وترتشفَ منّي ومن قهوتها رشفة ثانية وأخيرة، ثم سكبت ما تبقى منّا على نبتة ورد جوري وانطلقت.

anfasse20104     انتبهت فجأة لساعتها المعلقة على الحائط، ألفتها معطلة من "التيك تاك"، وما درت لماذا توقف عقربها عند الرقم 6 تحديداً، إنه رقم تتطير منه منذ بلغت السادسة ربيعاً، وربما خريفاً. ضربت كفاً بكف، وحرقت الأرم، شبكت كفيها، كمن يخبئ بينهما ما لا يقال، وحين حررتهما، وضعت الأيمن على قلب لا زال يخفق من هول صدمة الرقم النحس، أما الكف الثاني فحيرتها، فما درت أين تلقيها.. تجاهلتها للحظات، حملقت في الساعة جسداً أما روحها فكانت متعلقة بشيء آخر، إنه التفكير بما يخبئ لها رقم 6...حولت نظرها من جديد نحو الحائط، ودخلت في حالة بين اليقظة والنوم، كانت النار تستعر في صدرها، لهيب الأسوأ الآتي غدا حتماً سيطالها، هكذا رقم 6 معها دائماً، إنه نذير شؤم.. كانت لا تزال تحملق في الساعة حين لفتها أمر غريب، وتلك صدمة أخرى:
    - ما هذا ؟

anfasse20103في مدينة  لا يذكرها أحد، ولا تلتقطها الأقمار الاصطناعية،  ولا تكتشف بخرائط غوغل، جماعة بشرية ... قل مليونا، أو ثلاثين.
تعيش بين الصحو والحلم، يهيم  أناسها في أرجاء المدينة دون ان يعرفوا ماذا يريدون، أو ماذا هم فاعلون، لكن لم يصيروا على هذا الحال إلا بعدما استشار حاكمهم أحد علماء الشعوذة و الطلاميس  وأعرب له عن خوفه من أن يؤثر تزايد عددهم في ملاحظة الجوع المتفشي خصوصا بعد انشغاله في عقد صفقات مع شركات أجنبية لبيع محاصيل القمح والفواكه واللحوم. فأشار عليه عالم السحر بفكرة عجيبة وهي أن يستورد لهم من جزر الحشاشين حشيشا جماعيا يستمع إليه ولا يدخن. أعجب الحاكم بالفكرة،  ثم جمع أعوانه وخدامه وأمرهم أن يضعوا الحشيش المستورد في مضخات تكبس المسحوق المخدر، ثم تدفعه عبر قباب عالية وفوهات كالأبواق. ما إن طلعت الشمس حتى اندفعت الكميات المخدرة على شكل أصوات ودبدبات، ومع تدفقها هناك من سمعها أنشودة، وهناك من سمعها خطبة، وهناك من إرتهب وإرتعد  وجثم على وجهه يقبل التراب. أطل الحاكم من برجه فرأى الناس تتخبط ببعضها البعض جاحظة عيونها دون أن تبصر. هناك من جعله المسحوق نشيطا مشوش الافكار أكثر من عادته، بينما  صار البعض عدائيا  ودخل الباقي  في حالة هلوسة شديدة. عندما يقترب الليل يصعد الحاكم الى المنبر يتزحزح في مقعده ويتنحنح قليلا ثم يخطب فيهم:

مفضلات الشهر من القصص القصيرة