anfasse11095لم يكن ذلك المنزل الذي استأجرته من العجوز الإسبانية يصل لسقف تطلعاتي، حيث إن ثمنه البخس فقط هو الذي حثني على استئجاره، فقد كان منزلا غريب الأطوار، يرتعش له جسمي لمجرد النظر إليه، فقد كانت جدرانه سميكة شنيعة، ونوافذه الأمامية كانت تبدو أنها لم تفتح منذ عقود، فقد كانت درفاتها متسخة مُغَبَّرة تتقاطع عليها قضبان حديدية زيادة في الحرص، وكانت أرضية المنزل خشبية داكنة تقرقع على وقع خطى واطئيها مصدرة صوتا رهيبا، وأثاث المنزل كان إسبانيا باليا يوحي بالشؤم، وكان يكتنف المنزل ضوء خافت شاذ نسماته خانقة، فقد ترك المنزل الغريب في نفسي انطباعا كئيبا من أول نظرة ألقيتها عليه، غير أن لم يكن لي من خيار آخر، فقد كنت أمر بضائقة مالية جعلتني أسكن ذلك المنزل رغما عني..

anfasse11093دخل حجرة الدرس بعد صف التلاميذ الأخير، وبعد أن ألقى بهمومه جاهدا في سلة نسيان مؤقت مع آخر زفرة دخان، ثم افتعل ابتسامته المعهودة، ينفد وصية أساتذته في مركز التكوين، حيث كانوا يعتبرونها خير وسيلة لإشاعة الطمأنينة في نفوس الصغار، وفتح شهيتهم للتحصيل بكل هدوء وإصرار. ارتدى وزرته البيضاء قبل أن يعلن بداية حصة الإعراب، وتُعربَ تقاسيمُ الوجوه عن النفور، فيلجأ إلى تلطيف الأجواء بسؤال بسيط عن أنواع الضمائر، ثم يُتبعه بتصريف فعل الحضور، إذ أثبت الجميع حضورهم عدا سعاد المريضة و أحمد المسافر لحضور حفل زفاف قريب...
بعد هذا التقديم اللطيف، بسط الأستاذ جملا توزعت مضامينها بين الاشتمال على ضمائر منفصلة وأخرى متصلة، بين ظاهرة ومستترة، فراح المتعلمون يتسابقون للإتيان بجمل مفيدة توافق المطلوب، فيما تحين الفرصة لاستنتاج عنوان درس اليوم، فكتب في صدر السبورة بلون مغاير: الضمير المستتر. واستمر يطالبهم بتحويلها بين حالتي الظهور والتستر، حتى بدا له أن الدرس بات مفهوما أو يكاد...

anfasse11091    جلس قبالتها مدحوراً، تملى وجهها المستدير، شيء ما صاعق ومستفز في ملامح هذا الوجه، تقاسيمه مألوفة لديه أكثر من بقية كل الوجوه التي صادفها، يعرفها وتعرفه، بل إذا قُدر لها وله أن ينسيا كل الأسماء، فاسم وهيبة ومختار، تحديداً، يحرنان كحمارين تركب الذاكرة ظهريْهما.. ولأنها تعرف أنه يشتهي فمها كما هو مسطور في كتاب حبهما "ألف قبلة وقبلة وواحدة أخرى"، كانت تزم شفتيها بشهوة، تحركهما، كاشفة عن شنب، تبسم بمقاس، وبدون صوت كانت تتملاه هي الأخرى، عيناها تثرثران، لكن لا يُسمع صوتهما، عيناه هو صامتتان.. في وادٍ سحيق كان يتداعى كصخرة امرئ القيس، تحطه الذكريات ليبكي بين يدي وهيبة التي أحبته وأخلصت له، ثم شاء-لا القدر- أن ينفصلا..
 

anfasse30086" العناصر الرياضية واقعية لكنها غير موجودة..."
                                    الفيلسوف ـ إتيان كلين.ـ
ملحوظة:   كل تشابه أو تطابق بين الأسماء والأحداث ليس من وحي الصدفة وإنما هي تسميات عن سبق إصرار  وترصد... أحداث القصة برمتها واقعية لكنها غير موجودة..    

    ... بعد الذي حصل بيننا ألفيتني أسوق السيارة وحيدة في فضاء مقفر لا حشر فيه ولا بشر، كنت الوحيدة التي تجرأت على عبوره في تلك الساعة بالذات، وفي ذلك الزمن أيضا، أسوق السيارة وذهني برمته مختلطة أحداثه بين الذي وقع وبين الذي أريده أن يقع في المستقبل، لهذا وجدتني ومن حيث لا أدري وسط دوامة كبيرة حيث الزمن يلعب بي، أر ربما أنا التي أحاول أن أعبث به على طريقتي الخاصة..صحيح أن الحياة علمتني كيف توجب أن نسخر من أشد الأشياء جدية، لكني بت اليوم أكثر تيها واضطرابا من ذي قبل، ولكي أضفي على الفضاء طابع الأنس تناولت جهاز موسيقى السيارة واضعا في جوفه أسطوانة تحوي أفضل أوبرا للموسيقار الألماني فاغنر والتي ليست سوى معزوفته أفول الآلهة crépuscule des dieux..كم كانت تبعث في دواخلي الإحساس بطعم حياة كان يجب أن أعيشها بيد أنها انفلتت مني قبل أن أُوجَدَ لينالها شخص آخر سواي، ليس في هذا الزمان ولا في هذا المكان، ولا في هاته اللحظة.. كانت أيضا بمثابة المحرك المساعد على الانغماس كليا في هذا الفضاء القصي عن العالم.. في مكان خلته بداية العدم الذي يعدم نفسه، لكن وبما أني واقعية أكثر من اللازم فقد أيقظت نفسي حينها، أُذَكِّرُها بأني أسير وحدي في هذا الطريق الإسفلتي المخترق لصفرة الصحراء القاحلة، صفرة في الأسفل وزرقة في السماء، وأنا.. وذكريات عالقة. 

anfasse30085لم يكن أحد ليحفل بنهاية حياة تلك النبتة التي كانت لحدود اليومين الماضيين تبدو بحالة لا بأس بها تقريبا و هي في ذلك الأصيص المهمش في ذلك الركن القصي من البيت و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده احد.
مع انها ظلت حريصة منذ أن تم انتدابها عصر ذلك اليوم الخريفي من  ذلك المشتل الصغير الذي يقع في ذلك المكان البعيد في أطراف تلك المدينة الصاخبة و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده أحد ، ظلت  بغريزتها النباتية حريصة على القيام بدورها في تذكير الجميع بعلاقتهم المتوترة بتلك الطبيعة الأم ، تلك التي تقع على مرمى حجر من نوافذهم الموصدة دائما ، الشبه مفتحة أحيانا في تحسب غير بريء من تقلبات الفصول ، ربما ...

anfasse30081كان القطار يسير ببطء شديد: فهو مخصص لنقل جنود وجرحى الحرب، كان جاكسون هو المسافر الوحيد المتبقي على متن ذلك القطار، المحطة القادمة بقي لها عشرون مترا، وبعدها يكون التوقف في كينكاردين والبحيرة، وعدا عن ذلك فقد كان جاكسون محظوظا؛ إذ تم حجز تذكرة له  للسفر في القطار دون أن يتحمل أية تكاليف مادية.
       
 تنفّس الصعداء أخيرا بعد أن سحب حقيبته ورآها تهبط في أرض لا يعرفها، جال ببصره من جديد يمينا وشمالا؛ ليتسنى له استكشاف المكان ثم بدأ يراقب القطار وهو يمضي في طريقه دون أن يلتفت إليه أو ينظر إلى  الوراء. وما كاد جاكسون يستفيق من ذهوله بعد أن كان  يتخبط على غير هدى بين أحضان الطبيعة الواسعة حتى حمل حقيبته من جديد وبدأ يمشي بعكس الاتجاه الذي يسير فيه القطار.

anfasse14084لما ذهب لم يشأ أن يودعه،وتركه في مأمن من ذكرى زمن قد ولى ، تأكد له جليا  أن الذي حاول أن يجعل بين الحياة وبهجتها شرخا، كان قد كذب فيما مضى، واستجاب اليوم لنداءات ترمي به في فضاء بلا نور ولا هواء .
عندما التقيت به تأملت وجهه قليلا ،ثم باغته بلا شفقة قائلا:
أنت كاذب تعبث بالحقيقة ،وتسائِل اللاشيء ،لهذا فإنك تركن إلى زاوية في كوخ مهترئ. رد في هدوء :هذا ما يجعل الحقيقة في عينيك بلا معالم ولا حدود ،فأنت لست أنا لأنك تنقص منها وتزيد متى تشاء، وهي بذلك في مد وجزر دائمين .
بدأ يداعب لحيته ويكرر كلاما غير مفهوم ، فزع قليلا . قررت ألا أفارق المكان حتى أعرف سر كلماته التي طال الزمان بها، وهي ترزح تحت عالم الخرافات واللاممكنات :الأشباح!!العفاريت!!،التماسيح !!،إبليس !!،اللصوص !!،...المقنعون !!،.....والله !! ...

anfasse14082اللوحة الأولى
لملم ملابسه التي تناثرت على الأرائك مثل الملابس في أسواق الثياب المستعملة، ونفض حَفْنَاتِ الغبار التي تراكمت على الدِّيوَان كما النحل حين يراقص شقائق النعمان، وأودع في زوايا الغرفة شمعدانا مختلفة ألوانه، هكذا صارت الغرفة مثل قاعة أعراس تتراقص في فنائها أضواء متنوعة أطيافها، وصفَّف في المزهرية بمهارة بائعي الورود زهورَ الأُورْكِيد والقرنفل والزنبق التي عطرت الغرفة بأريج نديِّ أزاح عن هوائها ما يعتليه من عفن.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة