anfasse15043جو الدراسة الجامعية أسعدها. لم تتوقع أن تجد نفسها في مثل هذا الجو من العلاقات الدراسية. الآن بدأت تشعر أنها انتقلت حقا من جيل لا يملك حق القرار لنفسه إلى جيل مسئول عن نفسه. ما حملته من تنبيهات أمها وجدتها عن خطر الاحتكاك مع الشباب، يبدو لها الآن، وبعد اقل من شهر على بدء الدراسة، مقطعا من مسرحية كوميدية، أو من عالم لم يعد له وجود إلا في مخيلات جداتنا. في البداية شعرت بالخوف وبعض الرهبة. شعرت بضعفها، عقلها الواعي أعطاها القوة النفسية لتهزم مخاوفها وتضع حدا لحالة الضعف التي اعترتها في الأيام الأولى. الجو الجامعي المليء بحركة الحياة والحوار التعليمي بين الطلاب، والنقاش السياسي وحول قضايا المجتمع والعادات، أخرجها من العالم ألبيتي الضيق المحصور بين واجبات محددة سلفا، إلى عالم واسع الآفاق حدوده السماء.

anfasse15042انطلقا بحثا عن رضيعها، الذي ضاع منهما قبل يومين، إثر اتصال وردهما من أحد موظفي محطة القطار.
لدى وصولهما إلى المحطة وجدا رضيعا موضوعا فوق مكتب مدير المحطة؛ طلب منها الاقتراب و التعرف على الرضيع.
لم تستطع الأم أن تكفكف دموعها، و الزوج يضع رأسه بين راحته، و مظاهر الحزن تعم بيت العائلة. لم يصد الجدّ إهمال ابنه و زوجته، صرخ بوجهيهما:
أنتما لا تستحقان أن تكونا أبوين ! إنكما عار على الأبوة.
لكن يا أبي ! ماذا عسانا نفعل !؟
كان بإمكانكما، على الأقل، ألا تنجبا في هذه المرحلة.. حتى تستقر أحوالكما.
حاولت الجدة، تهدئة زوجها، الثائرة أعصابه؛ فهو لا يمكن ان ينكر سعادته بمجيء هذا الحفيد، كي يرث اسمه من بعده.

anfasse02041حين اشتعل المكان ،  وبدا ذلك اللهب من بعيد ، لم يكن للقيم والأعراف ،ولا التقاليد والعادات وجود في ذات المكان والزمان ، تعالت الكلمات الصادحة، تضرب مناحي الأزل البعيدة  المشبعة بثقل السماوات المحير ، ذلك النور الذي بدا شعاعه غريبا  عما تعوده كل الناس .
داست الكلمات التي دوى صداها كل شيء ، كل عظيم ، كل سامٍ .
لم يكن كل ما تحدثتُ عنه بالنسبة لهم شيئا يذكر ، فالبداية عندنا ليست كما هي عندهم ، وعالمي ليس كعالمهم .
البحث سار في كل الإتجاهات ،الأشلاء يصعب جمعها و تصنيفها ، ويعجز المختصون عن معرفة أولئك الذين تطايرت أجزاء كثيرة  من أجسامهم بعيدا ، كما تتطاير شرارات النار الملتهبة الحارقة .

anfasse18037الموسيقى الشعبية  تعتلي أجواء المكان ، الكمنجة تخاطب الجسم ،يهتز ،يصارع الحقيقة ،كل أصدقائهما رمَوْا بالأعراف والتقاليد، وأطلقوا لأنفسهم العنان، ليعبروا كيف شاؤوا متناسين العالم من حولهم .
العروس ترقص متحررة كأنها في ملهى ليلي  ، بل كأنها راقصة من بنات الليل المختبئات في عتمة المكان وظلال المؤثرات  المنبعثة من أضواء  الروبوتات ، التي تملأ أرض وسماء الملاهي .
الأب ابتعد  عن المكان خجلا مما يحدث.......
الأم تصفع وجه عروس ابنها ،ثم تنهر ابنها الذي يرقص متناسيا كل شيء، حتى نفسه والمكان ، واحتدَم الصراع بين الأهل، و اشتدت أولى العواصف ولم تهدأ .
بعد لفافات "نِيبْرُو"  بالحشيش ورنين كؤوس النبيذ ، لم يكن شيء  مما خُطِّطَ لــه من الأهــل ،ولكن كل شيء صار حسب هواه وهوى أصدقائه ، الذين اختاروا لتلك الليلة جوا يناسب رغباتهم التي تاهت بين العبث والجد .

anfasse11037هأنذا أعودِ إليك أيّها البحرُ الأسود...!
 يا بحري الرهيب، وحدكَ كنتَ شاهداً على انخذالي، في ذلكَ اليومِ الغابر كأغنيةٍ شتويةٍ مخنوقةٍ، يوم قَتَلْتُ اليهوديّة العاهرة، وصرعتُ الشيطانَ الأحمر الذي كانَ يدحرج روحي في أدراكِ الجحيم، جحيمُ العشقِ الوسخِ.
أعودُ إليكَ، وقلبي خربةُ أحزانٍ؛ حطبةٌ يابسةٌ قابلة للاحتراق. في الجسمِ جرحٌ وفي الروح جرحٌ ينشرخُ أكثر كلّما تراقصت صورتها في ذاكرتي.
 أذكرها الآن، ولم يزدها بُعْدُ الأيامِ إلا ظلمةً، تَمْثُلُ أمامي هوجاء كدوامةٍ مفاجئةٍ تتصيّدُ صياداً غافلاً يمخرُ عبابَ موجٍ مبهمٍ.
تنثالُ عليَّ صورها كجلمود صخرٍ يهوي من أعالي جبالِ الريفِ المتلفعةِ بجلابيبَ بيضاء، والمتأبيّة عن الكلام؛ مكتفيّة بالصمت المثقل بالأسرار والتاريخ. آه كم هي أليمةٌ هذه الذكرياتُ الكابيّة التي لا تنغل إلا في كبدي المتشمّعِ...!!

anfasse11031عدنا إلى الدار أنا وحبيبتي بعد أن أمضينا يوم أحد ربيعي مشمس نتجول في الغابات. استلقيت على الكنبة  في الشرفة المطلة على الحديقة. تناولت جريدة أمس، واندهشت أن جميع صفحاتها بيضاء إلا من إعلان كبير يملأ صفحة بكاملها:
 (مخازن الحلم الكبرى) تعلن عن تخفيضات نادرة لسعر القمر.
وقد حدد الموعد مساء اليوم التالي أي الاثنين.
شعرت بنوع من الإثارة  معتبرا هذا الإعلان استجابة لحيرتي منذ أيام لاختيار هدية مناسبة لحبيبتي في عيد ميلادها. فقلت: هاهي السماء تدعوني أن أهديها القمر.
كتمت الأمر عن حبيبتي. وفي اليوم التالي ذهبت وحدي في الموعد المعلن في الساعة السابعة مساء. تبين أنها ليلة اكتمال القمر. فعلا وجدت آلاف الناس مجتمعين في الحديقة الكبيرة المطلة على البحيرة ينتظرون بزوغ القمر مكتملا متلألئا وسط السماء منعكسا على مياه البحيرة تحيطه النجوم مثل عريس ليلة زفافه.

anfasse04040لم أكن أوَدُّ الدخول إلى ذلك المنزل ،ولكنني وجدت نفسي مضْطرا لدخوله ،فذلك الصّياح المتَعالي ذات عشية ،حتَّم علي معرفة ما يجري لتلك المسكينة ،التي لم أعتد منها إلا على صمتها ،الذي لطالما  أرغمني على إعطاء الإعتبار لعِدة أسئلة تراودني كلما رأيتها .
كانت على ذا الحال تتلفظ بكلمات، إن خرجت على لسان امرأة ،ما كنت لأعدها ضمن نساء هذا الكون - كامرأة  يجملها ضعفها ويعلو أفق عالمها المودة والرحمة والحنو ،فهي كتلك الطبيعة التي تضُم إلى حناياها كل الكائنات التي تحيا عليها ،مشتاقة لتنَوع فصولها ،واختلاف أيامها – اللواتي أَبَنَّ عن  نضجهن ونبوغِهِن عبر الزمن  .

anfasse04038لاشك أن أعمق زلزال تحدثه الكتابة،تقويضها السهل وبجرة وحي، لكل أطروحات متون أقسام الحالة المدنية،وكذا بداهات الكائن المجتمعي المؤسساتي،القابل خيميائيا للانصهار والذوبان،وأخذه شتى صور التنميط والتحديد.ترسم الكتابة تاريخا للمرء،بين ماقبلها ومابعدها.فهل بوسعنا المجازفة، بالاستفسار التالي :أي مصير محتمل لبيولوجية العرق والجنس،قياسا لمجتمع يشتغل جل أفراده بالكتابة وعلى الكتابة،ويرفضون عن هذا التقسيم للعمل، بديلا؟يتحرر الفرد بالكتابة،وهي تطويه نحو خلود الآبدين،بحيث يهزم الآخر والقدر والسلطة والمكان،ثم يسكن ذاته وقد تمثل أقصى ممكناتها. 
كنت طفلا مدرسيا،بالمعنى المؤسساتي للكلمة،أواظب على مواعيدي،دون أن أحشر نفسي، كي أحشو جمجمتي بأشياء واهية،أهم قضية تشذ مخيلتي،الهرولة صوب حضن أمي عند نهاية كل موسم دراسي،ملوحا إلى عنان السماء،بورقة تزخرفها خربشات المدرسين،تطمئن أمي،على أنني مهيأ بما يكفي، لآفاق البحث والسعي وراء الكلأ، على امتداد هذه الصحراء المحيطة بمصيري.هكذا،ظلت المدرسة بالنسبة إلي، سكينة وملاذا، وحلما طفوليا جميلا،ثم أيضا،ما معنى أن تلامس عتبات فصول التنوير،في بلدان العالم السفلي.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة