anfasse0105طفرت من عينيه عبرات حارة و انحدرت على وجنتيه المتغضنتين بصمت. تراءت له الدنيا خلاء و قفارا من دون شريكة حياته التي قاسمت معه الحلوة و المرة، و قاست معه من شظف العيش و نكد الحياة مدة غير يسيرة.
هاهي الآن يحملونها عاجزة على هذا النعش الخشبي الأصم، يرددون عبارات شهيرة:" مولانا نْسعاوْ  رضاك و على بابك واقفين...
يكاد يرى ابتسامتها الأخيرة على وجهها الذي أنهكه الهم و الحزن. عيناها الممتلئتان محبة و حنانا ودّعتاه، و لسانها لم ينطق إلا بكلمتين: نلتقي هناك، وداعا.
"هناك" لم تنطقها شفتاها و إنما كانت إشارة من سبابتها إلى السماء. كانت تعني أن العشرة الطيبة لا تنتهي بفناء الجسد، إن هو إلا غلاف لما لا يفنى: الروح.
الروح هو الكيان الخالد في الإنسان، و على هذا فالعشرة بينهما لا تنتهي بانتهاء الأجل في الدنيا، بل ستستمر هناك. إن هو إلا انقطاع يسير، لمدة معلومة، و كأنه عقاب من نوع ما. لأن المتحابين المتآلفين لا يرضيان بالفراق و لو لبرهة. الأكيد أن مثل هذا الانقطاع يزيد من المحبة و يقويها.

anfasse25121أطلق عليه النار فندت عنه آهة سرعان ما خفتت ليسلم خده للإسفلت .
اشتباه  ؟
ربما،لكن لغة محاضر الشرطة لا تسعفه ليلا ليخلد إلى النوم صافي الذهن كأي بريء في هذه الزنزانة الأبدية . تلك الحقيقة الموجعة التي تسربلت ساعتها بظلمة دامسة ,في ليلة شاتية بُعيد صلاة العشاء, تؤرق مضجعه.لم يكن الأمر اشتباها بل رغبة دفينة في "تنظيف " الحي من الملتحين أمثاله! هذا الشيخ الذي ما إن وطئت أقدامه مسجد الحي حتى أومضت في العقول والأرواح شعلة اليقظة.
للكينونة سحرها,وحين يطمئن الآدمي إلى تعليل ما لسر الوجود ,وحكمة الباري من تتابع الفصول الأربعة بين الرحم والقبر، فإن جذوة في الروح تتقد,ويحملك الذي كان حتى الأمس القريب مخدرا وملقى على ناصية الدرب كسقط متاع ,على احترام حقه في الظهور وصنع الحدث !  

anfasse18124نحن النائمون فوق صخور الأرض الباردة، والمياه العكرة، التراب الداكن الذي أنجبنا عاقر لا يخرج إلا شوكا اسود.
تم ولدت وسط الجبال الشامخة والحياة الهادئة، والنفوس التي لم يرزقها القدر ذهبا ولكن أكسبتها الجبال عزة وصبرا.
الأيام هناك في ارضي أوراق مبعثرة، خطوط مبهتة، كلمات قليلة، تمر الأيام دون أن نعلم أن الكلمة فراشة تطير لتجعل الجو مخضرا مزهوا بلحن جميل. كان الصمت سيد المكان ومالكه، والابتسامة أميرة الزمان تلك الرشيقة التي تتحرك كل صباح بدون كلل لتنشر الدفء في الأجساد الباردة وتزرع الحب في الدماء الراكدة، تترنح يوميا في بين الحقول والوديان، بين الزرع والريحان، لتنير الطريق وترقى بالشعور والإيمان.

anfasse18122جربنا الهمس والصراخ.. جربنا الصمت والكلام.. جربنا الضحك والابتسام..
 لم لا نجرب الفرح..؟
لعل أمام محرابه نندهش.. ننبهر.. ننفعل.. نعود لطفولتنا ونترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وحزن وانكسارات وخسارات.. ونفتح بالفرح للأمنيات كفا ترتاح على أعتابه البسمات.. ونطوي صفحات ذوات تُجيد احتراف الحزن..
الفرح.. ضدا على القهر والغبن.. ضدا على الألم والحزن..
الفرح.. حتى لا نفقد عادة الابتسام ولا نعطي للآتي فرصة أن يُسقط أسناننا ونحن نَعْبر الزمن الظالم..
الفرح.. فعلٌ للمقاومة..

anfasse18121فتح الهواء البارد نافذة الغرفة المقابلة لنافذته، لمحها وهي تلملم خُصلات شعرها الناعم القصير وترفعها بيدها لأعلى، شعر بأن الهواء كان يقصدها فهي ترفض الظهور دائماً، يقولون في الحي إن موت والدها منذ سنوات افقدها الثقة بمن حولها، ويقول البعض الآخر أنها متزوجة سراً بهذا الشخص الذي اعتاد التردد عليها بين الحين والآخر.
لا أحد يعرف عنها شيئاً مؤكداً ولكنه عرف اليوم أن جمالها ليس له حدود ترتدي قميصاً أزرق ناعما يُخفي كل مفتانها، وفي نفس الوقت يُظهر جمالاً لا يعرفه إلا متذوق مثله، تنهد وهو يدخن سيجارته أنزلق الدخُان في صدره دَفعة واحدة غلبه السعال، سمعته واكتشف تلصصه أغلقت النافذة بغضب، أدار ظهره للهواء وهو يفكر في نظرة عينيها وعمقها.

anfasse11122هل تتذكرين ؟ أم انك، مسحت كل الذكريات الجميلة التي جمعتنا من قاموسك؟ اعرف أن لك حياة جديدة، بصحبة رجل ثاني. هو لا يعلم، أن رجلا أخر، سبقه إلى شفتيك الجميلتين، لا يعرف أن يدا أخرى، تحسست جسدك تحت جنح الظلام، غير يديه، لا يعلم بالمواعيد الغرامية، بالهدايا، بأنك قلت احبك لشخص أخر.
أنت تتذكرين ذلك، حتى وان تخلصت من كل الهدايا التي تذكرك بي،  و مسحت اسمي من مفكرتك، لن تستطيعي مسح قبلاتي ، ولا لمساتي الدافئة.
هل تتذكرين  تلك الليلة؟ قبل أربع سنوات، أواسط شهر مارس، كان اللقاء الأخير، كان الجو زمهريريا، جعل أذني تلبسان اللون الأحمر و أنا انتظر قدومك. أتيتني مسرورة، في ذاك المكان المعهود، تحت شجرة البلوط، تذكرينها، أليس كذلك؟ كانت الابتسامة بادية على محياك، ظننت انك فرحة للقائي، أمسكت بيدك كما العادة، لكنك على غير العادة سحبتها بسرعة، وقلت لي: لدي كلام يجب أن أقوله .

anfasse04124المرأة هي فاكهة الحياة و الرجال أشواكها ......المرأة هي رائحة الوجود أما الرجل  فظلٌّ باهتٌ لشمس الخريف و صوت مزعجٌ....بلا نجومٍ و لا رائحة !!! ..

هكذا كنت أتصور النساء و الرجال   عندما كنت صغيرا إذ لم يكن حولي من الرجال الراشدين سوى رجليْن : جدّي الطاعن في السن ّالذي كان يؤانس وحدتنا في بيتنا العتيق ، و خالي الذي كانت صورته تثير فيّ الرهبة و الوجل و لا أراه إلا حين أزوره مع  أمي ، في تلك السن كنت أشعر أنه بعيد عني .... و قد رسمتُ صورة غامضة متداخلة عنه من خلال حديث أمي  وهي تروي مغامرات أخيها الأكبر و سطوته وجبروته إلى درجة أنني لم أكنّ تجاهه سوى شعور الخوف ...كانت أمّي تتحدّث عنه بإعجاب فتسهب في الحديث عن أخلاقه العالية و رجولته و قوته و رغبته في الالتحاق بالجبهة العربية في حرب الأيام الستة و كذلك مساهماته في حرب تحرير الجزائر حين كان شابا إضافة إلى حنانه المتدفق على كل أفراد أسرته .و لكن  الحقيقة أن كلام أمي لم أكنْ أصدّقه إذ أنني ما إن أرى خالي حتى يرفض عقلي أن يصدق أن هذا الشخص الذي أمامي يمكن أن يكون طيب القلب ربما ما رسّخ هذه الفكرة في باطني هو صمته القاتل إذ كان خالي  طويلا ضخم الجثة ..قمحيّ اللون قوي البنية بشعر قصير و نظرات عميقة حادة ، كثيرا ما يلبس سروالا أبيض فضفاضا و بلوزة طويلة رمادية ، يملؤه الصمت دائما ...ظلّتْ تلك الصورة المهيبة محفورة في ثنايا طفولتي ....

anfasse04121يجلس ثلاثتهم على مقاعد إسمنتية، مغروسة في قارعة طريق عام، كأنها أوتاد يتشبث بها الوطن المتداعي قهراً، تحت أنامل المتحكمين في البلاد والعباد، لا ينبس أحدُهم ببنت شفة، كما يبدو للعيان، لكنهم غرقى في متاهات جارفة من التفكير ينتصرون في مناظرات جدلية، ويهزمون في أخرى، يخوضون حروبًا ضارية تخيلتها عقولهم، فيحلقون مع روبن هود ليعيدوا الحق المسلوب إلى أهله، يثورون مع جيفارا إذا ثار يحارب الظلم والعبودية، يقفون خلف الفاروق، إذ وقف بالعدل والمساواة بين الخلق على اختلاف مشاربهم، ثم يفيقون من نشوة انتصاراتهم الموهومة على أم كلثوم، تشدو بعذب صوتها "أعطني حريتي أطلق يديَّ إنني أعطيت ما استبقيت شيئا"، ليغرقوا مرة أخرى في أنكاد أنفسهم وهمومها، تخيم عليهم مثل خريف أسود، يقتل الجمال الذي يولد ويزحف بالموت على قمم الأشجار الشامخات، يعريها من الأمل المنثور على أغصانها فتمسي وحيدة لا عزاء لها إلا الهيام بقادم الأيام.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة