anfasse27111لقد أنهكوه، لم تبق زاوية واحدة إلا ونظروا إليه من خلالها، استنزفوا كل طاقاتهم النفسية، والمادية، صوروا الأمر له سهلا لاشيء فيه من الصعوبة أو العناء، وضعوا أمامه كل الأحلام كحقائق، البيت الواسع فوق قمة الجبل الأخضر بزيتونه ولوزه، السيارة الوردية ذات الفرش الفخم، الأموال الطائلة، والفتيات، دنيا الشباب، والرفاه كله، دنيا الأمنيات البراقة اللامعة الواقعة بين أعطاف الحلم ونوازع الشباب المتقد الملتهب، دنيا الحلم الوردي المصاغ بأقلام رومانسية تعج بالحرارة اللاذعة للحقائق، دنيا الغرائز المتلاطمة في مجاهل موج عات تزأر به تفاعلات مقتبل عمر يجوس أقبية الوجود بحذر الاكتشاف واندفاع الطاقة، كل الأشياء ستتحقق لك، ليس هناك أمرٌ تتمناه بعد اليوم، فقط اشر بإصبعك على ما تريد يكون لك دون نقاش.

anfasee19113  أحست الدنيا تموج تحت قدميها، تنزلق من مكانها، وكأن زلزالاً ناعماً يداعب مركزها بخبث ودهاء. وبدا الأفق على امتداد البصر يترجرج كالزيت حين تهز خابيته. غارت عيناها في المحاجر، أمسكت رأسها بكلتي يديها، حاولت التركيز ولو للحظة واحدة، لوهلة واحده، لكنها فشلت، وبسرعة غريبة راودتها فكرة العجز.. العجز... الموت، وجهان لحقيقة واحده، تؤرق العقل، وتكتسح المشاعر. قد لا نستطيع التأكد من الوحدة بينهما بسهوله. لأن التأكد يحتاج إلى فهم عميق لمعنى الوحدة، الاندماج، وقد نكون لا نريد التأكد. لأننا لا نريد الاعتراف بهذه الحقيقة، بهذه الصدمة، أو بتعبير أدق، الورطة. ولكن السؤال الذي يلح إلحاحاً شديداً، عاصفاً، مغرقاً، ما الفارق الحقيقي بين من يجلس على الأرض دونما فائدة، دونما فضل، دونما طموح أو رغبة، وبين من تضمه الأرض بذراتها؟ لا فرق. فالأول فاقد لكل معنى من معاني الحياة. والحياة نفسها تسخر من الاثنين بنفس القدر، بنفس الحجم. ولكي نكون أقرب للإنصاف، فإنها تسخر من الأول دون أن تعير الثاني أي اهتمام. لأن دوره ذهب وانتهى، مع ذهابه وانتهائه.

anfasee19111عندما امتطيت السيارة ، ودعتني أمي بالزغاريد و لم تنس أن توصيني بالحذاء خيرا ، بينما بدا الحزن على وجوه شقيقاتي ، و لم أدر في تلك اللحظة هل أبكي أم أشكر جدي على كل حال ..  نفورا من ضجيج المحرك توغلت في مستنقع اللحظات المنتحرة ، كانت الصور تتقافز في ذهني لتوقظ الثعابين الراقدة .
    يمكنني الجزم بأن حياتي ظلت تسير بشكل هادئ إلى أن بلغت سن الصيام ، ثم دنا آدم من الشجرة و هوى ابن يعقوب في ظلمات الجب. غدوت ملزما بانتعال حذاء جدي بما أني الذكر الوحيد في سلالته ، هكذا شاءت أمي تنفيذا لوصيته و تواطؤا مع القدر و النرد . حين عاد جدي من الحج قبل أن أولد بزمن طويل ،  لم يجلب معه شيئا سوى حذاء مصنوع من جلد بعير حجازي ، و المدهش أنه مصبوغ بخليط عجيب من القطران و شحم الإبل ، و لعل هذا هو  سر لونه الداكن الذي لا يتأثر بالزمن ، إنه يشبه إلى حد ما بشكله الحربي تلك الأحذية التي ينتعلها رعاة البقر . كانت أمي تخبئه في غرفة جدي المقفلة ، و لا ينفتح الباب إلا ليلة الجمعة . يحضر شيخ مجذوب يحمل مبخرة ، يظل يمررها فوق الحذاء و هو ينشد بصوت رتيب : « اللهم صل على المصطفى / حبيبنا محمد عليه السلام » ، و يأتي فقيه الجامع رفقة جوقة من المقرئين ، ينخرطون في تلاوة جماعية لسورة الكهف ، بأصوات متمردة على كل المقامات.
 

Anfasse12116تجمهروا على بعد يسير من بوابة السوق، يتابعون ألسنة اللهيب، تلتهم أكداس التبن وجنبات الشاحنة. بينما  فر السائق عباس ومساعده بجلديهما مبتعدين، وسط دخان كثيف وشرر متطاير... وبين سائل ومجيب، تبين عباس أن مصدر الشرارة الأولى للحريق لم يكن سوى نزوة مراهقين يتلذذون برؤية النار في عاشوراء...
      جابت دماغه المشدوه حزمة العادات والتقاليد المرتبطة بعاشوراء، مرت  بسرعة خاطفة مثل وصلات إشهار: أدخنة المفرقعات وأشكالها، ألوان التعاريج وزخارفها، أهازيج البنات كل ليلة من ليالي عاشوراء، عشرات الأصناف من اللعب البلاستيكية المجلوبة للصغار المصرين على التجول والتسول البريء وهم يسألون الكبار حق "بابا عيشور" ، مياه الصباح المبروكة وزخاتها ، أصناف الفواكه الجافة ، طقوس البنات في تقمص أدوار النساء في الولائم، تأكيد النساء على جلب العطور والبخور، إصرارهن على إقامة " الشعالة" قبيل غروب اليوم العاشر من محرم، احتفاظهن بواحدة من قديد عيد الأضحى وشواؤها في نار الشعالة ثم إطعامها المتحلقين حول النار، خروجهن إلى المقابر صبيحة اليوم الموالي للترحم على موتاهم وتوزيع ما تيسر من خبز وتين مجفف وتمور...

Anfasse12112ينعطف الباص يمينًا، يخرج عن مساره الإسفلتي إلى أقصى ما يمكن ليستقر فوق الرمال الصلبة على جانب الطريق بالقرب من مدينة عسقلان جنوب فلسطين المحتلة، لحدوث عطل فيه أثناء عودته من القدس، متوجهًا إلى قطاع غزة، ويسمح للركاب بالخروج والجلوس حوله إلى حين حضور فريق الصيانة.

يتكئ الحاج الستيني أبو صالح بجوار سياج يدور قريبًا من المدخل الشرقي لقريته التي هُجر منها، وهو دون العاشرة من العمر، تنقر رأسه أفكار مجنونة يدفعها بقدميه، فمجازفة كهذه قد تكلفه حياته إذا شاهده أحد قطعان المستوطنين، ولن يكفيه عمره خلف قضبان السجن لو صادفته قوة من الجيش الإسرائيلي، وقد كان كل ما يحلم به عند مغادرته قطاع غزة صلاة ركعتين في المسجد الأقصى لا الموت خلف قضبان السجن.

Anfasse12111الموت لا معنى له. الحياة لا معنى لها. عندما تولد يكون ذلك خارج إرادتك. عندما تموت يكون ذلك خارج إرادتك. مابين الولادة والموت يوجد شيء ما غير مفهوم. لا يمكن فهمه. يُسمونها الحياة، إلا أن لا أحد يعلم ما الغرض الحقيقي منها.
"ما الغرض من هذا؟" سألها ذات ليلة.
لم تجبه. لا تعرف بما يمكنها الرد. كان غريباً. ظنت أنه كان مثلها. تجاوز هذا السؤال منذ مدة طويلة. لطالما أحبت الغرباء، صديقاتها سخرن منها بسبب ذلك، لكنها ظلت تحب الغرباء، كانوا يجعلونها تشعر أنها ليست وحيدة.
هو عشيقها منذ سنتين. أخبرها أنه قاتل في الحرب. أنه قتل. بكى على صدرها. بكت هي أيضاً، ليس لسبب إلا أن مظهره ذكرها بأخيها الصغير الذي مات في حادث سيارة منذ أكثر من عشرة سنوات. بقي على سرير المستشفى لأيام، رأته مرتين. كان ميتاً، أخبرهم الأطباء بذلك لكن أمها لم تصدق.

anfasse06115دو .. صو .. فا .
أن تعيش متنقلا بين الكلمات مختبرا تباثها و هي تغير أرديتها حسب السياقات فهذا معنى آخر للتشظي الحقيقي.
قافزا إلى الخلف مبتعدا لأسطر عن الورقة خيارك الوحيد.. عندما يلسعك بياضها.
تعلن في سرك ،أنك حزمة انتظارات
و أحلام لا تعرف التحقق و لا التوقف
و أنك أرض في الستين من عجزها، لكنها لازالت تجهل كيف تتعاقب الفصول ..
وحدها الكلمات تمنح هذا الاستثناء لمن يجيد افتراشها على أرضية قاحلة ..

anfasse06113   يعلو مرتفعا كصقر يراوغ الريح، لينحدر متكسرا كجبل جليد، منحنيا كجدول ماء، هادرا كالهزيم خافتا كهمس الزهور، حانيا كناي يُغازل العمر، ثائرا كأزيز الرصاص، تخال الكلمات تصهل في حنجرته.
اشرأبت مشدوهة منبهرة بذاك الانسجام بينهما، محتارة أيهما ينفخ الروح في الآخر! ولكنها استسلمت في رضى لأنغام البحر، ولم تأبه أين سترسو سفينتها.
     كان واقفا كنخلة تتحدى في شموخها السماء، أراد أن يُثبت لنفسه قبل الآخرين أن الكلمات التي اختارته ليصبح صوتها لم تخطئ، وأنه شاعر -وإن كان في أمسيته الأولى- جدير بترويض الحروف، وزرعها حلما شهيا في المُهج.
   لم تره قبلا، ولم يرها بعد، فالجميع أمام ناظريه غيمات نزلت لترتاح من سفرها وستكمل الطريق.
~~~~~~~~~~~~

مفضلات الشهر من القصص القصيرة