anfasse18093- أنت لا تأكل، ترافق الجوع، لون وجهك، جسدك الممصوص الناحل، له حق عليك، أنت لا تملك الحق في تدمير جسدك أو ذاتك، عليك أن تأكل، طعاماً جيداً، نافعاً، حتى تستقيم أمورك، وحتى يذهب لونك الشاحب، وحتى يستوي جسدك ويعود لوضعه السابق الطبيعي.
- أنا آكل ما يكفيني للحياة، لكني لا أشبع، بل أبقي إحساس الجوع ملازما لمعدتي ودماغي.
- عليك أن تشرب، الماء سر الحياة، سر الوجود، سر الخلق. الأعشاب جيدة ومفيدة، مغليها رائع، ينبه الإحساس، وينهض بالصحة، جسدك فيه جفاف شديد، وجهك ناشف كحبة خروع سقطت عن غصنها.
- أنا اشرب من الماء ما يبقيني حيا، ما يحافظ على بقاء روحي في الجسد، لكني لا ارتوي، ولا أود أن أشعر بالارتواء.
- ولماذا؟ ما الذي يدفعك لمثل هذا الأمر؟

anfasse18091وأخيرا عدت الى الدوار،، عدت مرغمة لانني أنهيت عامي الدراسي
و قبل أن أتي.
 عند المساء التقيت صديقا حميما لي تقاسمنا كأس فودكا في حانة ''اللبناني'' ذلك المكان الصغير المحبب عندي، أزوره كل ما زارني الحزن فجأة، لا أعرف مايحل بي هكذا أجدني ضجرة من كل شيئ. أستطيع ان أفهم الان كلمات ''رشيد'' وهو يغادر غاضبا في كل مرة قائلا:
لا أستطيع أن أفهمك يا حياة-
ها انا الان أجالسه، انه أمامي على مرمى نظر، يتقاسم معي طاولة حمراء صغيرة، يصعد النادل السلم الصغير الملتوي، يعدل غطاء الطاولة ويسأل :
بم تبدأن؟
رشيد يجيبه :
- كأسي فودكا من فضلك  وأخفض الانارة رجاء

anfasse11091في حياتي القادمة سأكون شجرة ..
وارفة ، خضراء .. مثمرة .
جذوري  تدغدغ  رئة الأرض و أغصاني أراجيحٌ  للعصافير ..
لن أعبأ بجذعي المحبوس في التربة ..
سأكون  مكشوفة الشعر و العينين للريح الطيبة و المطر الكريم..
 مكشوفة  القلب و الروح  لليل و القمر و الشمس .
سأظل أرتفع ، في كل يوم قليلا ، إلى أن أبلغَ الحقيقة  .

anfasse110103هذه النَّفسُ! ضَعيفَةُ العريكَةِ، صعبَةُ المرَاسِ، تستطيبُ كلَّ طربٍ ماجنٍ، مائجٍ، وتخنعُ أمام كلِّ ضربات الرذيلة. آه يا نفسُ ما أَضْعَفَكِ!
في هُدوءٍ كهنوتيٍّ، ثنى الراهبُ قُصاصته، وغاصَ بعيداً في ظلمة نفسهِ الخانعةِ، مستكيناً إلى جَسَامَة الصور المُتسللة من ثُقوبِ الذاكرة. طالعتهُ أحداثُ الساعة المنصرمة، واستسلام الجسدِ صاغراً، لمعاولِ الشّهوة المُقدسة. لم يكن يعلمُ أنَّ النيرانَ اللاهبةَ تبدأُ بنظرةٍ مسرُوقَةٍ وتنتهي بِذَبْحَةٍ خاطفةٍ تحزُّ العنقَ من الوريدِ إلى الوريدِ.
انتفضَ واقفاً، حمل كتبه الصفراء المُلقاة على الأرض، قاصداً الممر اللولبي المُؤدي إلى أقبيّة الدير، ثم تلاشى وراء ضَبَابِ الصباح الحليبي، وهواجس الخوف تسطو على ذهنه الشريد، وتنغص عليه صفاء الخاطر، لكأنَّها ديدان قبرٍ ناغلة تنخرُ جسدهُ الموشومَ بحروف الخطيئة. وحوشٌ تحاصرهُ، تتقدمُ، تتقدمُ، عُيونها حمراء، ألسنتها كبيرةٌ رطبةٌ متدليّةٌ. تسحبها قليلاً إلى الداخل، تصبح مثل شياطين وسخة.

anfasse04092الشمس خافتة اللهب، تنسحب ببطء خجول كسول من بين ثنايا الصباح، وكأنها لا تود جرحه أو إيذاءه، لتنطلق في الأفق مترنحة عارية، تتلوى بصورة مغرية على أسطح المنازل المرتفعة وعلى أرصفة الشوارع المفتوحة، وكان الغبار المتطاير بين رموشها المرسلة يظهر وكأنه حبات فضة تتلألأ وهي تتهادى متنقلة من رمش إلى آخر.
صباح مدينتا جميل بكل ما فيه، باندفاعه المفاجئ من قلب العتمة، بتفتح براعمه أمام العين في حياة جديدة تغص بالدفق والحيوية، جميل بأهله السارين لالتقاط لقمة عزيزة من بين أنياب الصخر والنعاس لا يزال يرسم فوق جفونهم خطوطاً زرقاء قاتمة، جميل بمقاهيه المنتشرة على الشوارع لتعطر الأجواء برائحة النراجيل والقهوة على امتداد قلب المدينة كلها.

anfasse04091مسجى دونما يديه الرفيعتين الممتدتين على جانبيه. صامت بلا حراك؛ عدا زفير خافت بالكاد يلحظ ؛ يتضاءل له الصدر الضاوي البارزة أدق تفاصيله من تحت الغطاء ، عيناه الغائرتان بين محجريه النصف المغمضتين لا قرار لهما تسافران جيئة وذهابا كمكوك في أرجاء سقف الغرفة الموصدة عليه .
كان يشكل خياله المشوش جراء مؤثرات داخلية شتى من تموجات الصباغ والشقوق الدقيقة وذرات الغبار العالقة هنا وهناك، واعتباطية الأنوار والظلال السائبة في الفضاء وجوها عابسة ، ضاحكة، مخيفة، وحيوانات سريالية ما رأى لها في حياته مثيلا... وحين يجهده البحث والتشكيل يلجأ إلى أكواريل جانبه  على نحو غريب يتأملها... يطمع أكثر فيمدد يده نحوها وهي البعيدة؛ فما يطالها. لا يستسلم؛ يزحف عليها بعينيه، فيستولد خياله المرهف من رقص الألوان وبهرجتها مساراتِ الفرشاة وانعطافاتِها، يعتليها حتى تصير اللوحة شيئا منه . آنئذ، ينهار الزمن ويتلاشى بُعده في قرار الذاكرة، ذاكرته ؛ فيرى نفسه منتصبا كشمعدان يمسح يديه بيديه ليزيل الصباغة اللزوج وهي ما زالت نديا؛ دونما شعور، يغمض عينيه المغمضتين فتجتاح أنفه تلك الرائحة المميزة التي تنبعث من اللوحة قبل جفافها ،فلا يقاوم سحرها فيه بل، يشهق ملء رئتيه وكأنه يريد احتواءها خالصة له.

anfasse21084مساء الثاني والعشرين من أكتوبر 2013م، شمسٌ خريفيَّة تسطع على ميادين بوخاريست المزدحمة بالعائدين من أعمالهم، وزحام المبنى رقم (7) يدفعنا إلى الانتظار وقوفًا على السلَّم الدائري الضيِّق الذي يؤدي إلى العيادة، كانت عيادة العيون تغصُّ بمراجعين أغلبهم من كبار السنِّ. في منتصف السلِّم وعلى عتبتين متجاورتين اجتمعنا: سيِّدة رومانيَّة تجاوزت الخمسين، وأنا، لا أتذكَّر السؤال المفتاح الذي طرحتـُه لكنـَّه كشأن المفاتيح الصالحة قادني إلى حيث ينبغي، ردَّت بإنجليزيَّة متقنة، وعرفت – لاحقًا – أنـَّها تدرِّس اللغة الإنجليزيَّة في إحدى ضواحي بوخاريست، كانت العيادة ضيَّقة وتشغل مبنى قديمًا في وسط المدينة، وحين قالت – بعد حديث قصير عن الازدحام – : "إنَّ على الطبيب أن يبحث عن عيادة أخرى كي تستوعب هذا العدد الهائل من المراجعين" قلت: إنَّ الأمر سيكون محزنـًا؛ لأنَّ المبنى جميل، وأنا أحبُّ أن أتأمل هذه المباني العريقة التي تملأ وسط المدينة.

anfasse14088اليوم الأول...
(داخل الزمن)
الخروج من بين أربعة جدران- كما كنت أرى- تقترب من بعضها، تلغي المسافات الفاصلة، تمحوها، تتمرد عليها بكل ما فيها من موت وسكون. كنت أرقب الجدران وهي تقترب من بعضها، بتصميم، بعزم متوقد، بزحف يبحث عن التوحد، التلاصق، الاندماج، الذوبان في تيار الذرات المكونة لها. وأنا، وأنا عيناي تطفحان بالرعب، بانخلاع القلب والعقل، بالدهشة. أنكمش على نفسي انكماش قطعة مطاط تداعبها حرارة النار.
أنا وسقف الغرفة في مأزق واحد، تلاصق الجدران، توحدها، اندماجها، ذوبانها، انصهارها في بعضها. بالنسبة لي، هذا يعني موتاً محققاً، زوال، اندثار، خروج من رحم الحياة، دخول في رحم الموت. في النهاية الممتدة في خيال الفلاسفة، المفكرين، الشعراء، في نهاية رحبة، رحابة الأفكار التي انبثقت من عقول وقلوب مجموعات هائلة من البشر. بالنسبة للسقف تعني الانهيار، التشظي، التناثر، التفرق، تفرق الذرات في سماء وهواء، في فضاء وأثير، انفصال التماسك، تداعيه.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة