anfasse16102الحاج معزوز، جارنا منذ عهد بعيد، نعرفه معرفتنا لتفاصيل الطفولة والشباب، قصير القامة، ذو وجه متغضن، تشرئب قسوة الزمن من طياته، وينفجر الأسى من عينيه كمصب لا ينضب، محني القامة، يتنقل الذهول بين طيات وجهه، لا يتكلم إلا في المناسبات، وتحت ضغط الأسئلة الملحة.
يعيش في غرفة صغيرة حقيرة، تتكالب عليها الأوساخ والبقع، تكالب الرائحة على فضائها المحصور بين جدران من لبن متآكل، رغم أن أولاده العشرة، الموزعين على المدينة، يتمتعون بوضع مستقر مريح، ويلبسون ثيابا نظيفة، ويخرجون متأبطين زوجاتهم المترجلات.
من عادته الجلوس على رصيف الشارع، يبحث بعينين ذابلتين في صدور الناس، أو هكذا كان يهيأ لنا، ويحاول أن يرتب الأشياء والأحداث في عقله، بطريقة تقنعه بضرورة الحياة والوجود، لم يكن سهلا، ولم يكن من الذين يعبرون الذاكرة كوميض يختفي لحظة ظهوره، بل ينشر مخالبه بأعماق النفس، ليستقر فيها كحدث لا يمكن نسيانه أو تناسيه.

anfasse09107يرتجف اللحظة كديك مبلل..
لم تسعفه ركبتاه على الوقوف فألقى بجسده على مقعد مهترئ بجوار مكتب القائد. عسو الذي يهابه من في الحي, ولا يجرؤ أحدهم على التنديد بعربدته أو التذمر من متتالية الكلام الساقط التي تعقب جلسات الشرب الصاخبة كل ليلة.
عسو الذي قلما غاب اسمه عن حادثة نصب أو احتيال ,ثم أفلت من قبضة الاتهام بدهاء ثعلب.
عسو الخبيث وقاهر الأرامل سيحج بيت الله الحرام !
أية قرعة عمياء تلك التي أوردت اسمه ضمن محظوظي البعثة الرسمية لأعوان الوزارة ؟! لا شك أنها مزحة ثقيلة من "سعادة" القائد المتجهم طيلة أيام الأسبوع. لكن الورقة بين أصابعه ترتجف اللحظة, وفيها إخبار بانتسابه هذه السنة لبعثة الحج. لا,هذا غير معقول ! كيف بلع الجميع ألسنتهم ولم يعترض أحد ؟ أهي الصدفة أم مشيئة في السماء ترتب لمنعطف آخر في حياة عسو ؟

anfasse09102التاسعة صباحاً، في مخيم منسي في فلسطين، أو قرية منسية في صعيد مصر، يكون قد بيع ملايين من صحون الفول، وملايين من أقراص الفلافل، في خضم سيل بشري متلاحق متلاطم، سيل ينبثق من الصباح، كتفجر البركان العارم.
التاسعة صباحاً، جدران وأسطح، شوارع وأرصفة، يدخل في روعك، ومرة واحدة أنك تدور في صحراء من غير اتجاهات، تضرب عيناك المرهقتان الأفق المغلق بالبنايات المتفرقة هنا وهناك كتفرق الدمامل في الوجه الملطخ بالجدري، قفر يسانده قفر، وصمت يغلفه صمت، وأرصفة تشكو معبدها لشوارع تشكو إرهاق الوحدة والانطواء، تداهمك كآبة مفاجئة، تذكرك بمقابر التراث، تستوقفك إشارة ضوئية تشخص نحو اللاشيء، تقف، يأتي اللون الأخضر، تقطع الشارع وأنت تبحث عن صرصار أو ذبابة، تدور برأسك، تخترق ذاكرتك الوحدة، وتستقر بأعماقك الوحشة.

anfasse02106" سيدي رئيس الوزراء
ليس فيما أبثه بين ثنايا هذه السطور تظلم أواستعطاف ,لأني آليت على نفسي ألا تكون الشكوى لغيرالله,عملا بالحديث الشريف " أدوا ما عليكم وسلوا الله الذي لكم ",وبالمثل الشعبي البسيط "الشكوى لغير الله مذلة". لكني ارتأيت في هذه الفسحة التي تفضل علي بها اللهاث خلف لقمة العيش أن أتصرف في الأفعال والأسماء ,وأسترد حظي من التكريم الذي شرف به أبي لما أسجد الله الملائكة حوله !
سيدي الرئيس المحترم
في وطننا العامر الذي توزعت فيه الحقوق والواجبات بحسب ما يقتضيه دستورنا الوارف ,آمنت فئة من أبناء البلد أن الحق والواجب صنوان لا يفترقان,وأن شرف الانتماء يعلي من سقف التضحية أحيانا ليتحقق الواجب ولو على حساب الحق.هذه الفئة ,سيدي الرئيس,هي من منظور وزير خزينتكم مجرد أرقام استدلالية وأجور منهكة تصرف آخر كل شهر.وهي عند وزير تعليمكم صداع مزمن لا يخف إلا بالوعود المهدئة. لكنكم لو أنعمتم النظر فسيتململ حتما ضميركم الذي استتر, ويتبين لكم أن في شعف الجبال كائنات حية أرغمها العمل الوظيفي على دفن زهرة شبابها .

anfasse02103- صباح الخير يا (أبو إبراهيم)، الدنيا الصبح، الفجر شقشق، امسح وجهك بالرحمن، اطرد إبليس واذكر الله!!
- لا اله إلا الله محمد رسول الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
رفع نفسه من الفراش بتثاقل ملحوظ، استوى في فراشه ووضع رأسه بين كفيه وغاب فيما يشبه السبات، وما هي إلا لحظات حتى ارتفع صوت شخيره ليصل مسامع زوجته في المطبخ. بدأت التبسم وهي تغادر المطبخ متجهة نحوه، وحين وصلته هزته برفق شديد وهي تضع يدها الثانية فوق رأسه.
- أبو إبراهيم وحد الله، عيون الدنيا بدأت تتفتح، وأنت بدلا من فتح عينيك وقلبك معها تحاول اغماضهما. النور قادم. والشمس ستضرب بقوتها غلالات الظلام لتفتح من خلالها شقوقا تتسع لقوتها القادمة لتندفع من قلب العتمة والغيب المتواصل. توكل على الكريم وسلم أمرك كله له، الشاي جاهز، يجب أن تغمر ذاتك بالنشاط لتلحق بصلاة الفجر قبل أن تندفع أشعة الشمس في الأفق الساكن ببقايا ليل بدا رحلة الانسحاب.

anfasse25094عجب من عالمه الغريب الذي لا يقبل كل أشيائه وأغراضه، حاول جاهدا أن يقنع نفسه،  ليعود لعالمه الذي أحبه، ولبث فيه سنين.....
كان مغتاظا متذمرا، استسلم لمّا يئس من محاولاته الفاشلة، ترجل قليلا ،أحس بعطش شديد ، النهرالجاري على مرأى من المكان الذي كان يقف متسمرا فيه، أوى إلى الضفة ، مدَّ يده ، شرب وارتوى ، طأطا رأسه مفكرا في العودة بعدما أحس بالضياع والشرود ، حاول جادا الخروج من مأزقه الذي لم يكن إلا قدرا جرده من كل شيء.....، ورماه في هذا الخلاء الموحش .
 سمع طرقات متتالية ، فزع من مكانه ،وخاف على نفسه ، ثم قام تاركا سريره .

anfasse25092 عندما التقيت بالسيد أورويل مصادفةً في مقهى (حسن عجمي)* تَلبَّسني السرور والإنفعال فبدوت مرتجفا وأنا أصافحه ، لم يكن معتاداً على كل هذه الحرارة في لندن مدينة الضباب الباردة خاصةً وإنه لا زال يعيش أجواءها التي تخيلها في روايته (1984) تأفف وقال:
-ماهذه الحرارة؟ كيف تطيقون هذا الجحيم؟
-تعودنا على ذلك فنحن أبناء (تموزي)  لكننا أيضا نشعر بوطأتها هذه الأيام إذ بالغت الشمس في اقترابها!
وبعد إن تناول  استكان الشاي الحار قال:
-الآن اكتشفت الحكمة في تناول الشاي الحار في هذا اللهيب التموزي
-كيف؟ قلت  فردّ قائلاً
-الشعور بحرارة الشاي اللاذعة يجعل الجسم يتقبل ما دونها ، أرى أنها طريقة ذكية في التعايش مع هذا اللهيب. قلت (الذي يرى الموت يرضى بالسخونة)  قهقه طويلاً وطلب استكانَ شايٍ آخر....

anfasse18098كاد الباب أن يُخلع من الدقات المتتالية على خشبه .
الجرس يصرخ.. هل يوجد أحد في البيت ؟... رنين الهاتف يساعد الجميع علي الصراخ ورقمها أصبح على لوحة هواتفهم أشبه بلوحة البيانو في يدى عازف ماهر. لكن لا مجيب..
كانت هي قد لبست ثوبها الابيض تسلحت بزينة.. وعطرها يفوح غضباً من القدر.. تجلس علي كرسي خشبيي تتوسط البيت ..الستأئر تحجب ضوء النهار..
تتحدث لبضعِ ثوانِ في نفسها التائهه..
الشمس أسدلت - منذ رحيله -ستائر قلبي وطعم الحياة..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة