يفتح باب سيارتي، يجلس إلى جانبي بكبرياء شهي، أَنطلقُ بسرعة، تمر لحظات دون كلام، أنسى أنّ أحداً معي ،أنظر في مرآة سيارتي،ورائي سيارة مُحاذية،لستُ أدري لماذا بدت لي بدون سائق(تهيؤاتي التي لا تنتهي حين أتعب في عملي)،هو ينشغل بالبحث عن موسيقاه المفضلة من هاتفه، يستقر على أغنية أمازيغية لـِ خالد "إيزري"، تكسر الصمت المخيم ،تنداح من حولنا "رالابويا"، راح يدندن معها؛أغنية جميلة،لكن صوته نشاز..عكرها تَماماً.
تكلمتُ أخيراً : "ماهي أخبار ميمونت "
يصحح لي " ثميمونت .. كم مرة أنبهك..."
(قال أنبهك، وليس أصحح لك.)

على ضوء ضئيل منبعث من فانوس متشبث بالجدار لم يفارقه منذ عُلِّق عليه، انكبت سارة على الرسالة التي وصلتها هذا المساء تقرؤها وتعيد قراءتها، تتوه بين حروفها وكلماتها، تتنكب المعاني وتلهث وراء الرموز المبثوثة فيها، تحاول جاهدة فك الطلسم الذي خطه المداد على بياض الورقة. لم تجد صعوبة في القراءة والفهم، فقد تعلمت أن تقرأ الرسائل منذ زمن رغم أنها لم تذهب يوما إلى المدرسة ولم تتلق تعليما، لكنها تعلمت، وهذا القدر من التعلم يكفيها ويحقق لها متعة الاطلاع على الرسائل التي تصلها.

وأنا بين الألحاد، أتنقل بين واحد وعشرين ميتا، ربما ازدادوا أكثر أو لم يعد منهم أحد.. أشكو لهم قلة حيلتي وهموما أثقلتني وأخرى كادت تقتلني...
من تحت التراب، صوت يجرح سكون الليل ويقتل نور القمر:
أخرجوني من عتمة البئر...
نظرت حولي وتفقدت كل الثقوب وجميع الجحور؛ فوجدتها خالية إلا من نسمات ليلية تنثر أوراق الخريف فوق الأحجار وعلى رؤوس أهل القبور.
عدت إلى تأملاتي وفكرت بحال المدافن:
لعلها تستجدي التفاتة. حدثت نفسي.

كورس كرنفاليٌّ ...
هذا الذي عنَّ لي من طاقة البيت الصغير ، الممتد بين الأشـُنـَّة و الغياض على طول العريش الضليل . عُبَابٌ من غبار يشق العنان ، ويحفر في الذاكرة تاريخا مليئا بحفر لا تكف عن ... الامتلاء . صاحت أمي نانا المجدليّة بصوت أجش ، رفرفت له أسراب القطا من وُكناتها فوق أشجار الصنوبر المنتشرة على حوافي الوادي ...
قائلة :
ـ " آيت عبو عزيزة ، هي ، برجالاتها !
ـ آيت عبو عزيزة ، وفي مأمن من لسعات العقرب ! "

(1)
"الإنسانية تشعر ببعضها هذه الأيام". هكذا فكرت وأنا أتابع أخبار وتطورات الفيروس (اللعين) منذ ظهوره في الصين أول مرة. تابعت، ويدي على قلبي، تغير ردود الفعل التي أظهرها المغاربة تجاه الأخبار المتواترة عن تفشي هذا الوباء في البلدان التي اجتاحها الفيروس في وقت مبكر. كنت أتابع، بقليل من الخوف وكثير من الأمل، كيف تتحرك الإنسانية في كل أقطار المعمور من أجل مواجهة هذا الوباء الذي حير العلماء والأطباء من حيث أعراضه وطرق انتقاله والكيفية التي يهاجم بها ضحاياه، الذين يجدون أنفسهم أمام عدو خفي وغير مرئي، يهددهم بالموت والغياب، وهم الذين يتشبثون بالحياة بكل ما أوتوا من رغبة ومن لهفة.

دراكولا !؟
من أين أتت هذه الملعونة؟ لا مقابرَ قربي، ولا أطلالَ قصور حولي، هل صعدت مع مواسير المياه العادمة؟ أم دخلت من النافذة قادمة من أعماق الفضاء، حيث ترقد الأحاجي و غرائب الأخبار؟.
وجها لوجه معي تحدجني بعينيها  الحمراوين، مبتسمة ابتسامة عريضة تنحسر عند نابين أبيضين طويلين مدببين كمسامير.
تخطو قدما نحوي، اخطو وراءً القهقرى هروبا، تقترب فالف حول المائدة، تتبعني، أنزلق وأحبو، فأجدها قاعية ككلبة أمامي .
"آه ! ليت داري قصر، أو فيلا واسعة تحميني منها، أو... أو  كنت في الشارع حرا مطلقا رجليّ للريح أخاتلها.

يتأمل الفنان التشكيلي لوحاته...يمسحها بنظرات صامتة وغارقة في التأمل...يطفئ النور يغلق الباب وينصرف... الفارس العربي راكبا حصانه العربي الأصيل بكل زهو، مأخوذا باحساس نصر زائف وكأنه يعيد أمجاد عروبة بائدة... الأمير الوسيم يطل من شرفة القصر على منظر الغروب، يستمتع بآخر شعاعات المساء الذهبية، التي ترسلها الشمس قبل ذهابها للنوم في مهدها الكبير. و الفلاح الكادح في حقله ماسكا محراثه كريشة فنان يخط بها أزهى الخطوط على لوحته الأرض. الصياد العجوز تجاعيد وجهه التي رسمها الزمان، توحي بسنوات عجاف مرت و استقرت على هذا الوجه. يلقي صنارته ينتظر ما سيجود به البحر بأعصاب باردة لم تعد تتأثر بأحداث الزمان.

الوصايا المدهشة:
– لا تكتبْ ما لا يُروى، ولا تَرو ما يُكتب. ارفعْ رأسكَ واكتُبْ سِرّك ودُقَّ الأوتاد. اكتُبْ بدون أن تكتب. وإنْ كتبتَ فلا تجعل وعاءَكَ من ذهنك فتتعب. اجْرَعْ دائما، من ماء وَجْدِكَ وغبار الزمن. لا تكتُب إلا ما جاء في صُحفنا وما قلناه في خاطرنا. إذا نَفَد منك وَحْيُنا فاصمتْ ولا تجادل. أوصيك بالنهر لا البحر. باللحظة التي أنتَ فيها.. لا التي تنتظر. ها قد غفوتَ فنسيتَ، ودنوتَ فبعُدتَ وكتبتَ فمحوتَ. ها هو التراب، إنّ بين ظني ويقينهم لسراب. ها هو الطوفان، سيخرج من زمننا  آخر العجب. فلا تغْفُ ولا تدْنُ واكتُبْ ما لا يُكتبْ. وإذا فقدتَ أمك فاغتربْ.
مولانا نسعى رضاك.. على بابك واقفين.. لا من يرحمنا سواك.. يا أرحم الراحمين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة