أنا كنت أرى وجهي في الطرف الآخر من سيجارتك ، وأنت في الطرف الآخر منها
حين كان لا يفصلنا عن بعضنا البعض سوى مسافة سيجارة ورشفة ماء أو قهوة أو شاي
وكم و حذرتك من التدخين ، ولم ولم تهتم بذلك
وكأن الزمان لم يمض، وكأنك لم ترحل وكأنني لم أتزوج غيرك وكأنك الآن أب لأطفالي الأربعة ...وكأننا لم ننه بعد قصة تلك السيجارة
ولم تغمس عقبها المتوهج في القليل من الماء أو لم تدهسها كقطة جرباء بأقدامك حتى انطفأت
وها أنا الآن أعود بمفردي لنفس الطريق

هي:
تسحب رجليها بالكأد فوق الرصيف، على إيقاع لهاث خافت داخل زورها، تتخلله آهاتُ آلامٍ تتوقف عندها وتنحني عاصرة بطنها بكلتا يديها لحظة ثم تتابع المسير؛ آلام مزعجة! صارت تنتابها بين حين وآخر هذه الأيام، تنجح في إطفاء ثورتها بمسكناتٍ، لكن سرعان ما تعود اشتعالا؛ قد أقلقتها حتى باتت تقض مضجعها، ففكرت ـ أخيرا ـ في زيارة طبيبتها، لعلها تجد لها علاجا شافيا.
الطريق إلى الدكتورة، طريق طويل لا ملتو، بدا لها بداية بلا نهاية، وفشلها في استقلال سيارة أجرة زاده طولا. كثيرا، كثيراً ما سلكته؛ قادها إلى مدرستها وهي صغيرة، فيافعةٌ، ثم إلى العمل وهي شابة، بل أخذها إلى كل وُجهاتها، اليوم تعرف إنه يُيمم حتى.. إلى المقبرة! أحزنها الاكتشاف، وضاعف مما يثقل قلبها الكسير.
على حين غِرّة، هدأت ثورةُ آلامها، واعترت جسمها وروحها سكينة استعاد بينها المزاج القلق شيئا من انتظامه؛ وقدها كثيرا من اعتداله؛ لا شك أن سحر المسكنات التي أخذتها قبل الخروج قد حقق غايتها منها! فبدأت تدندن وتغني: أغنية لفيروز:

" رفعنا إليكَ مناقيرَ أرواحنا: أعطنا حبَّةَ القمحِ يا حلمنا "
محمود درويش
هادئ مفرق المدينة هذا المساء، المارة قريبو الشبه بألواح ثلجية تحن للشمس، المقهى القديم يرمي وراءه ضجيج الصيف الأخير، النهر الأخضر يجري باحتشام في انتظار المطر القادم. المدينة ضبابية جدا تستأنف كآبتها المعتادة، وتظلل أنوثتها الشقية بالأوراق الأولى للخريف. تنتشي بثقل قرني جبلين وتؤجل شيخوخة تسري ببدنها الأزرق شيئا فشيئا.
صوت شارد يهمس من زاوية القنطرة العتيقة القريبة من بوابة المقهى :
_ يفنى الهيكل وتتجدد الروح، تتآكل الحبال الصوتية وترقد البحة_ التي لايشبهها شيء_ في عمق الزمن، راسخة، ممتدة لا يقهرها غير تقلب المزاج المتعب لكلينا..
ويرمي بثقل رأسه في دخان سيجارته الرخيصة. ثقيل هو الرأس ومتعب حمله.
_ ذات تاريخ قد تسقط كل الرؤوس. قد تهوي كما الرماد نحو الأسفل، ربما. ليسقط هذا الثقل فقط.

"المرأة ترياق لكل سم"...ردد هذه الكلمات وهو يسير في الشارع الطويل الذي لا ينتهي، تزكم أنفه تلك الروائح الكريهة المنبعثة من المجاري المتعفنة والبالوعات المتناثرة على حافتي الطريق. تناسى كل ذلك وراح يدندن بأغنية قديمة حفظها زمن الصبا. سار وهو يسابق خياله ويتلهى بمحاولة دوسه، وكان ينجح في ذلك كلما تجاوز عمود من الأعمدة الكهربائية الواقفة في حياد أشبه ما تكون بحراس يراقبون الغادين والرائحين، تكشف هوياتهم بضوئها الأبيض الساطع. كان ظله يطول ويقصر حسب بعده أو قربه من إحدى الأعمدة. راقت له لعبة الظل كما سماها وراح يقضم بها الوقت، فالموعد المحدد لوصوله إلى المنزل رقم 9 ما زال أوانه. يريد ألاّ يتقدم وألا يتأخر. هو يحب المواعيد الدقيقة، ويحرص على الدقة في مواعيده، لم يسبق له أن أخلف موعدا أو تأخر عنه. شهد له كل من عرفه بدقته المتناهية، ولم يسبق أن عاتبه أحدهم على تأخره عن موعد يوما، يلغي كل أشغاله للوفاء بالوعود والحضور في المواعيد...هكذا تعود منذ طفولته. ألف ذلك منذ حرم من مشاركة أصدقائه مباراة في كرة القدم ضد أبناء الحي المجاور بسبب تأخره، وظل يلوم نفسه ويعاتبها حتى انتهت المباراة.

وحيدةً كعصفورة جريحة تجلس على طرف رصيفٍ مهترئ... تتجمّع بمحاذاتها كومة أوساخ.. وأكياس بلاستيكية فارغة يتلاعب بها الهواء جيئة وذهابا... نظراتها بطيئة، ناعسة، لا يظهر أنها تركِّز على شيء ما... انكفأت على نفسها كقطعة ثلج باردة، تتجرَّع بؤسها، تتلاشى كما النهايات... تشدُّ ثوبها الفضفاض وتُحكِم ما تشتَّت منه إلى نفسها.. تزيح بأطراف أصابعها بعض خصلات الشعر التي انسدلت فوق جبينها، تضمُّها إلى شعرها نصف المربوط... دمعة جاثمة في عينيها تأبى إلا أن تنزلق... اتَّكأتْ على الحائط الخلفي وأسندتْ رأسها المثقَل على يدها... بدا لها العالم من حولها حقيرا، صغيرا... لا يستحقُّ ذرة اهتمام... تتساءل في سِرِّها بمرارة: أيُّ قدَرٍ الذي قذفني إلى هذا العالم القذر؟ هل الذنب ذنبي؟ هل الذَّنب ذنب أمي؟ أم هو ذنب أبي؟ أم هو ذنبهما معا؟ كيف لهما لم يأبها بمشاعر طفلة صغيرة تأتي إلى الدنيا مُكرهة؟ لماذا لم يفترسني الموت أو المرض؟ لماذا لم أقع ضحيةً مثلما يقع الآخرون ضحايا كل يوم.. ومن ثمَّة أجد نفسي أرقد في أسِرَّة المستشفى... وبعدها إلى نومة هنية في قبري..!

أمسك عصاه التي يتوكَّأُ عليها، وفتح الباب على مصراعيه لينْسَلَّ عبره النور، كأنه طارق بن زياد يفتح الأندلس..!! بدأ يعد الخطى، الأولى تحيي في مخياله ذكرى زمن قد أُقبر... وأخرى تميت ما رسب في ذهنه من دَرَنِ الدهر... !!
كانت الفرقة الموسيقية تضع مُعِداتها على هوامش حارة الدراويش..-يسميها بلغته المتثاقلة حارة الدواويش- يستعدون لإحياء فلكلور ٍطمسه غبار الحداثة...
جلس يشير إليهم بعكازه ويرتبهم على هواه... فقد نصب نفسه شيخًا وهم مُريدوه...بدأ العزفُ عودًا وتلاه أنين نايٍ، ثم دفوفا، وجعل من عصاه آلة تتبع الطبل إن قُرع...
في قراراته نفسه يردد.. هذا القديم ونحن أسياده...

" عُد بي إلى حيث كُنت قبل أن ألتقيك ، ثم ارحل"
محمود درويش
يحدث كثيرا أن يسترق السمع لأصوات الطيور صباحا، حين يصادف أن يؤجل موته المؤقت، وحين يستفزه شيء كان ويحدث بقدرة ذاكرته أن يعود، أن يكون، أن يصير، أن يسافر في الزمن: أن يكتسي لحمه ودمه بعد أن فني وانتهى. يحدث أن يصرخ بأعلى صوته مثل الطيور التي تلاعب بشغب هواء هذا الصباح. يحدث أن تتحول الفكرة الثقيلة إلى جيش نمل مسلح، ليعيث فسادا في طمأنينة عالمه الأزرق المتواتر والهادئ. يحدث أن يكون شاهدا على دماره بنفسه. يرمي بصره في اتجاه الجبل المتوج بالريح: سماء هذا الصباح ضيقة ومراوغة على غير العادة.

"إن حب الأولاد ليس نابعا من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية".
غابريال غارسيا ماركيز.
المسافة بين الحلم والواقع قد لا تتخطى حدود المسافة الفاصلة بين الإغفاءة واليقظة. والوقوف على حافة الذكريات لا يعدو إلا أن يكون وقوفا على شفا هاوية سحيقة لا ترى العين نهايتها.
نزعت أنهار حذاءها بخفة ووضعته تحت المظلة فبدا بكعبه العالي كأنه حارس أمين يحرس بقية أثوابها التي كومتها بعناية فائقة، وقررت أن تسير بمحاذاة البحر حافية القدمين، فهي تحب أن تترك لجسدها بين الحين والآخر أن يتحرر، فتخلصه من سطوة الملابس الضيقة وهيمنتها عليه، وتترك له مساحة من الحرية لا يحدها حد، تتحدى خجلها، ويغيب العالم من حولها، ترى الجميع يحدقون إليها، يخترقون بقية الثوب الذي يستر اليسير من مفاتنها، لكنها لم تكن تحفل بهم. توهم نفسها أن جميع العيون فاقدة القدرة على الإبصار. فجأة يتحول الناس إلى مجموعة من العميان يسيرون حولها على غير هدى. أعينهم مفتوحة لكن لا ترى شيئا. يتناهى إلى سمعها همسهم وأصواتهم ونداءات أجسامهم المترهلة، لكنها لم تكن تصغي سوى لصوت شعرها المبعثر على كتفيها وعنقها، وقد غطت خصلة منه جزءا من نهدها الأيسر النافر الصارخ أنوثة وغواية. لم تلتفت إلى الأيادي التي لوحت لها، ولم تحفل بمن رغب مشاركتها المشي. هي تحب السير وحيدة على الشاطئ، لا تريد من أحد مرافقتها، تخشى منذ فارقها زوجها الاقتراب من الآخرين. تكره هؤلاء الآخرين حد المقت.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة