توصلت بدعوة من عند أعز صديقاتي لحضور حفل عائلي. وألحت علي في الحضور لأنها تعلم أنني لست من هواة الحفلات والسهرات الطويلة التي تستوطنها الضحكات المجلجلة والكلمات الصغيرة. قبلت الدعوة وكل حواسي الداخلية تعلن رفضها، لكن صداقتنا الجميلة أرغمتني على القبول رغم مناعة نفسي. حاولت أن أكون أنيقة وبسيطة في لباسي، اتجهت إلى مكان الحفل. فيلا تنطق بالرفاهية والعيش الرغيد. استقبال مع ابتسامة عريضة. قالت لي سيدة"هل أنت من طرف وفاء؟" أجبت بنفس الجفاف الذي سألتني به" نعم". دفعت خطواتي الى الداخل، أنوار كثيرة لها بريق يخطف الأبصار وموسيقى تستوطن المكان، تهت وتاه مني احساسي بين كل هذه الفوضى وصديقتي لا أثر لها. فشعرت بالارتباك. لا أعرف أحدا من المدعوين. ولاحظت أن أغلبهم من الطبقة البورجوازية التي لا رؤوس لها.

أخذ الممر الضيق يطول وبدأت المسافة التي يقطعها العم رجب تطول ولا تكاد تنتهي، تحاصره هذه الجدران الخرساء الباردة وهذه الذكريات التي تخبو جذوتها حينا وتضطرم. وعلى الجانبين كانت الأبواب مشرعة في صمت، ونظرات الموظفين التائهة تحدق فيه وفي الفراغ، ترتد إليهم وراء مكاتبهم بعد أن ترتطم بالجدران الساكنة، نظرات تلهب أحاسيسه وتؤجج ذكرياته، تجلد سنواته الثمانين التي يحملها في هذا الجسد النحيل المنهك المكدود.
الذكريات، هذا المدى الشاسع الممتد الذي لا حدود له، والعم رجب لا يقدر على التخلص من ربقتها التي أحكمت قبضتها عليه، أَسَرَتْه، شدته إليها، ترفض التلاشي، ذكريات متيقظة دوما لا تهدأ ولا تستكين، ترفض كل أشكال الفناء، تلبست به، تحاصره، تظل جذوتها مشتعلة، تنتظر لحظة انفلات اللهب حتى تتجلى كالمارد الذي يخرج من القمقم، تقض على العم رجب مضجعه.

استيقظتْ أمي فاما عادة ، على صفير النوارس ، وهي تجوب بمناقيرها الحادة ، ضفاف نهر أبي رقراق . صرير بابها المتهالك كشف عمَّا بداخل البيت القصديري من أوان متهالكة ، وبقايا بشر ملفوفين في دثار أسود وأحمر . لم يكن الوادي ، الذي يقسم مدينة الرباط إلى عدوتين ، ممرا للسياح والعابرين فقط ، وإنما كان معبرا لذاكرتها الموشومة ، أيضا ، بالألم والأمل .
صراخ صبية يأتيها بعيدا ، يتبعون سيول الوادي بين صواعده و هوابطه ، وعند كل منعطف يرتفع الجذب ، ويشتد معه هرْج و مرْج .
يتصايحون . يلعبون :
ـ ها ! نحن قد أمسكنا ب " حنكليس "
لا ! لا !

بنت حمامة عشا في أعلى النخلة على رصيف الشارع، وفقست فيه فراخها. فقدت فرخين في اليومين الماضيين، وبقي واحد.
بينما خرجت للبحث عن الطعام، وقف قط أحمر بدين أسفل الشجرة، ورفع رأسه إلى أعلى، وكأنه يراقب العش هل مازال في مكانه ؟
القطط السمينة التي تعيش في الأزقة قبيحة ومتوحشة، لا تشبه قطط المنازل.
بعد ذلك صعد النخلة بحذر حتى وصل مكان العش، فأخذ فريسته، ونزل إلى الأسفل. لم يكد يصل الأرض حتى فاجأه قط أسود، يبدو أنه أقوى، انتزع منه صيده. سلم القط الأحمر بالأمر، وانصرف بهدوء دون عراك.

أمطار غزيرة تنساب على الزجاج بسلاسة، همست له بلطف بميزاتها العديدة، تسقي الحرث لتستمر دورة الحياة وتغسل الأمكنة وتطهر الأجساد من قذارات الزمن.. ربما تطهر فكره أيضا من ترسبات الماضي الحزين..!
أطل برأسه عبر النافدة؛ فلمسته قطرات الماء الباردة، وانتقلت إلى جسده انتعاشه غريبة، أحيت بباطنه عواطف ميتة، وحفزت في دواخله مشاعر جامدة...
أخد صندوق أسراره أو كما يسميه صرة الكآبة المغلق مند الواقعة ونفض عنه الغبار والأتربة؛ هذه رسالة من حبيب قد هجر، تلك صورة له في زمن قد ولى، يتباهى بتدخين سيجارة أيام المراهقة، تأمل ملامحه وقتئذ لا شيء تغير، هو نفس الجسد النحيل، التجاعيد فقط أصبحت تؤثث كل جسمه، هذا تذكار من زميل الدراسة انقطعت الأخبار بينهما مند أجل غير قريب…

" الفعل هو كل شيء، أما المجد فلا شيء "
فاوست [ من مسرحية غوته]
الطريق الصغيرة يمين الجبل أشبه بمدخل سري نحو قمة إكليلية خضراء، تتوج هذا الجزء من الأطلس. طريق تومليلين لوحدها حكاية؛ كيف تمتد وتستدير، كيف تراقص أشجار الجنبات وكيف ترمي بك من فرح صغير إلى آخر كبير..طريق تومليلين حكاية كبيرة..
لوهلة تخيلتني في جغرافية وسطى بين الحقيقة والحلم. هذا الأخير الذي تتبدى ملامحه شيئا فشيئا.
فجأة تحضرني المدينة الهادئة، طرقاتها قبل سنوات من اليوم وأشجارها المزاجية. يباغثني سرب طيور لقلاق هائج. اللقالق التي تسكن أشجار الطريق وتعيد تلوينه: تستبدل الأخضر والأصفر بالأبيض والأسود. اللقالق التي تلون المدينة الصغيرة.

كانت عيناه لا تكفان عن ذرف الدموع، كلما رأيته تجذبني إليه مسحة الحزن التي تهب ملامحه طعما موغلا في القتامة والألم. تنزل دموعه الحارقة كالجمر على خديه في صمت من لا يريد البوح بما يعتمر في قلبه من مواجع، لا يريد أن يبدو ضعيفا تراه دائما مكابرا عنيدا، كان كمن يخفي ضعفه وعجزه وخوفه.
كنت ألمحه، منذ حل في هذه المدينة الموحلة، كل يوم في الشوارع الممتدة الفسيحة، وفي الأزقة الملتوية والأنهج الضيقة المعفرة بالأوحال والأحزان والمكائد، كنت ألتقيه أمام المقاهي وفي الأسواق وحذو المدرسة وفي بهو الجامع. لم أجرؤ على التحدث معه، تحاشيته خوفا عليه أو منه. لم يكن يُقبِل على أحد، يرفض ما يعطى له من نقود أو طعام. يزم شفتيه كمن يهم بالبكاء أو الشتم كلما امتدت له يد بحسنة، ثم يمضى متجاهلا الجميع في كبرياء. نبت فجأة في أرجاء مدينتنا ونما بيننا بأسماله البالية وأظافره الطويلة المتسخة وشعره الأشعث الطويل المعفر دوما بالتراب. يدلّك بعض الزغب الذي نما في فوضى أسفل ذقنه على سنواته العشرين. كتلة من الأحزان كان يمشي حين تراه، ولا تملك إلا أن تأسى لحاله أو تبكي لبكائه.

استيقظت على صوت الدش، غمغمة غنائها ممزوجة بريح البخار وعبير الفراولة المنبعث من صابون الاستحمام، الساعة تشير الى السابعة والنصف. استيقظت قبل موعدها بنصف ساعة أو يزيد، عادة تكون خمولة تنهض على مهل كقطة كسولة وبذهن شارد، أما اليوم فلا.
منذ فترة صارت منتعشة ومنتشية دون سبب واضح. تقطع شرودي بخروجها من الحمام، أدعي النوم لأراقبها وأتأملها، تخرج ملتفة بفوطة زهرية منعشة بهالة بخار خافت كقديسة بشعر مبلل. كم تبدو لذيذة هذا الصباح! تضع كريم الفانيليا على كل الجسد، تسرح شعرها المبلول، تضع عطرا شريرا على أسفل رقبتها وخلف أذنيها، ترتدي ثبانا رقيقا أحمر مع صدرية سوداء، لماذا لا تحب التناسق؟ ترتدي فستانا تحت الركبة، كما كانت ترتديه لزيارتي في سنوات خلت، تحمل شنطة صغيرة، ترتدي صندلا صيفيا، وتتسلل الى خارج الشقة، وأنط لأراها عبر النافدة، توقف سيارة أجرة حمراء كحلوى طفولية.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة