في بلدة قَصِيّة من بلدان الجنوب، وفي زمن من أزمنة التاريخ، يُحكى أن حاكم البلدة، نَصب جدارا في الضاحية الشمالية منها، بعلو لا يسمح لسكانها بمشاهدة ما وراءه، إذ ظل ما وراء الجدار غائبا عن إدراك الأهالي، ولا يُسمح لهم حتى بالتساؤل حول ما يدور هناك، ولا التفكير في المساحة الممتدة خارجه، ولا حتى إدامة النظر للجدار نفسه، وهي بالمناسبة تهمة يُحاكم على إثرها كل من قام بها، و يُتابع بجريمة إدامة النظر إلى الجدار، وهي من أخف التهم التي يمكن أن تُنْسبَ إلى المتهم، وهناك تهم كثيرة وُجِّهت لكل معتد على حرمة الجدار ومن قائمتها: تهمة الإتكاء على الجدار، تهمة تلطيخ الجدار، تهمة رمي الجدار بالباطل، ...

حملت الرضيع بين يدي وتأملت وجهه الملائكي الطاهر كسجله الخالي من المعاصي، لمست أطرافه البريئة وفكرت بحاله في هذه الدنيا الموحشة لكنني استطردت:
- الأمر لله من قبل ومن بعد...
انتبهت إلى عيون أمه تراقبني؛ فوضعته في مهده الجميل، قبلت ناصيته ودعوت له في نفسي بالصحة وأملت أن ينعم بحياة سعيدة. هنأت أسرته من جديد وجميع الأحباب والأقارب وانصرفت.
جلست بمقهى أمام الشاطئ، احتسي كأس شاي وأراقب أمواجا تلطم الصخور وتتكسر حولها وحيالها لتبدع صوتا رخما جميلا تحمله قطرات ندى، يحط بعضها على وجهي ويشعرني بالحياة.

انتعل صاحبنا حذاء رياضيا من النوع الممتاز، فمشى خطوات في الطريق التي تكلف مختبر صهره بمراقبة جودتها، مقابل مبلغ محترم، رأى نتوءات على جانب الطريق، لعن المتسببين فيها من أبناء الحي خلال يوم عيد الأضحى وهم يشعلون النيران على حوافي الشارع العام ليقوموا بشي رؤوس الأضاحي مقابل مبالغ يؤديها أصحابها لهم، يحس أن قدميه غير مرتاحة في حذائه على الرغم من تشدده أثناء شرائه مراعاة لمواصفات الجودة، وهو يقوم بالخطى تلو الخطى يشعر ببذلته الرياضية ذات العلامة التجارية المعروفة تضيق على جسده، تُشعره بالوخز في أماكن متعددة من كيانه، فتركبه قشعريرة وكأنها عاصفة تنطلق من أسفل قدميه إلى أعلى شعر رأسه، يحك مناطق من جسده ليهدئ من الحرارة المنبعثة من بعض الأجزاء، يتغافل بغية طرد الألم، يخطو خطوة.
يريد أن يسير على الرصيف فيجد الحواجز قد امتدت على كل جنباته، فلا يجد استواءً لأرضية تسمح له بسير يريح أعصابه قبل رجليه، يشتم في نفسه تقنيي البلدية قبل مهندسيها بوابل من كلمات غير مصنفة، يتذكر أن المصلحة المسؤولة عن التراخيص تترأسها حفيدته، يطأطئ رأسه ويخطو خطوتين.

سأطوي اﻷرضَ ﻷجلكِ وسأكتبُ لكِ بحبر من السماء وبقلم من اﻷرض الملعونة ، سألقي عليكِ عذاب السنين كي أفرح بكِ كما لم يفرح أحدٌ بأحد ،سأجلبُ اﻷرضَ إليكِ لتمشي عليهاوحدَك وأنا أقفُ مندهشًا أنظرُ إليكِ كأني لم أجد إلهاً على اﻷرض بعدُ .فشكرا يا الله ﻷنكَ خلقتها لي وحدي ولن ينافسني أحدٌ عليها سواكَ .
سأزيح الرّيحَ من جانبيكِ كي تمرّي أنتِ وحدَك فوقَ مناكبها، وستمرّين بي كأنّ الله هبط ليبارك لي هذه التي تناجيني ، سأهلوسُ لكِ حتى أجدَك ملتصقة بي كالجلد – كاللعنة الدّائمة .
سأحصي شعرَكِ خيطاً . . . خيطاً
سأمسكُ بأصابعكِ النّحيلة وأضعُها بكفّي ، و سأقبّل كفّكِ اصبعًا . . اصبعًا
و سأشم يدكِ ، يا الله : كيف منحتها هذه الرّائحة دون البشر جميعًا .

ما كنت أظن أنها ستأتي، لكنها جاءت، ضاجة بثمراتها، متفتحة كزهرة ريانة في أوج ربيعها، يفوح شذا عطرها الذي أغرقني وطوّح بي في عوالم من الرهبة والخشوع، تركتني مبعثرا أبحث عن خلاص وألملم فرحا واضطرابا، هزت الروح إلى أكوان خفية لا ترى فيها إلا أطيافا شفافة هلامية تعانق مشاعر وأحاسيس لاأرضية. جاءت أخيرها بتمردها وعنفوانها، بشعرها المتناثر على كتفيها في ثورة عارمة هازئا بتلك النسمات التي تحركه دون أن تجرؤ على لمسه.
هالة من الجمال والأنوثة كانت تتقدم نحوي، تدنو مني، جاءت فاتنتي، وقفتُ إجلالا وأنا أحاول جاهدا تعديل نبضات القلب حتى لا ترتج الدنيا من حولي مثلما حدث لي معها أثناء لقائنا الأول في إحدى المغازات الكبرى وتواعدنا خلاله على هذا اللقاء. هاهي تتقدم فتسحب معها كل ما هو جميل فيتعلق بأهدابها أو ينحني إجلالا أمامها، لوت إليها الأعناق، كدت أصرخ في هذه العيون المبحلقة وتلك الأفواه المشدوهة "إنها لي، لي وحدي، هذا الملاك الذي لا تكاد قدماه تلامسان الأرض لي، غضوا أبصاركم قبل أن تصابوا بالعمى". رغبت في احتضانها واحتواءها لأحجبها عن هؤلاء المتطفلين الذي ظلوا يلوكون الفراغ لكني لم أفعل إمعانا في قهرهم وتعميق حرمانهم، تمنيت أن تظل تمشي إلي وأنا أتأمل حسنها وقوامها وأصغي إلى وقع خطاها العمر كله. كل ما فيها كان منسجما وفاتنا ومربكا إلى أقصى حدود الإرباك. اهتزاز جسدها الضاج بالأنوثة الآسرة غيّب كل من في المقهى. وظلت وحيدة تشق هذا المدى الممتد من الباب إلى حيث كنت أنتظرها، الحسن، كل الحسن الذي تجلى في هذه الأنثى فريد، أفي الكون امرأة بهذا الجمال؟

سيدتي يا غزالة الفؤاد، لماذا اكره لك الفلسفة؟ اجيب عن هذا السؤال بأن الفلسفة تفسد الحب، لكني لم اعد اخاف على هذا الحب من الفلسفة، اننا معا ابناء الشعر، ابناء القصيدة الاولى التي كانت سبب حبي لك، لكني لا استطيع التخلص من الفلسفة وانا افكر في الامر، فهي توجسي وشكي الباقي وإني اخاف من ركود التيقن الاعمى.
لو انك يا سيدتي غزالة الفؤاد طلبت مني ان اجعل لهذا الحب حالة ولادة او شهادة ميلاد كي نسجل له حالة مدنية، لقدمت لك زمن الخط الاول، هذا الخط المرسوم بأصابعك الرشيقة كقلم كنت اكتب به على لوحي الخشبي ايام الطفولة الاولى في المسيد.

الشارع الطويل ممتد في التواءات طفيفة مثل ثعبان يئن وينوس بالحمل الذي يمشي فوقه، يتضور من هذه الأجساد المتلاطمة على غير هدى، أجساد متناثرة هائمة على وجوهها، تضرب في كل الاتجاهات، لا تدري إلى أين تقودها هذه الدروب المجنونة القاتمة.
ها هو سامح يمشي بين هذه الجموع وفي رأسه تتلاطم الأفكار، موج هادر من الذكريات يخضه، يصفعه، يرجه. وجد نفسه في هذا المدى الممتد من الهائمين فهام معهم، سار غير مكترث بهذا الكم الهائل من البشر. ها هو يمشي مترنحا وأمام عينيه صورة حارس السجن وهو يدفعه ليزج به في هذه المتاهة الفسيحة بعد أن قضى أسبوعين ذاق خلالهما ألوانا من العذاب، أسبوعان قضاهما لا هو بالبريء ولا هو بالمجرم، شبهة لم تثبت عليه...آه يا بلدي الجريح، مجرد تشابه في الأسماء يقودني إلى هذا العذاب.

كانت زينة تبهج الغرفة بلعبها وحركاتها التي لا تنتهي. ترمي دميتها الى أعلى حتى تكاد تلامس سقف الغرفة وتعود تسقط فوق رأسها وهي في غاية الفرح والسعادة. كان أخوها الصغير يشاركها في اللعب. يرفع بدوره لعبا أخرى ويرميها أيضا الى أعلى ولما تسقط بسرعة يختبئ وراء أخته خوفا منها. فجأة سمع انفجار غير بعيد من البيت، تزعزعت أركان الغرفة الصغيرة ورمى الطفل الصغير بجسمه الطري بين أحضان أخته وهو يصرخ: أنا خائف. أنا خائف.
احتضنته أخته زينة واختبآ تحت السرير، وهمست له:
-لا تخف. ماما تقول لي دائما، لما تسمعي صوت الانفجار، اختبئي تحت السرير ولن يصيبك مكروه.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة