يصر على الموت واقفا، كما قرأ يوما في أخبار النبي سليمان. أن تموت واقفا معناه أن تُطمئن الحياة بأنك عائد مرة أخرى. وحدها النفوس الضعيفة تستلقي معلنة عن نهايتها.
بعد كل صلاة عصر يؤكد لهم أنه لا يخاف الموت. كيف يخافه وهو الذي بارك حضوره الغليظ والقاسي في لاندوشين(*). حرب بلا مجد أو هوية. قاتلوا إلى جانب محتل ضد أبناء الأرض، ثم استسلموا لحقيقة مرة.
كيف يخافه وهو الذي عاين بقلب متحجر تطاير أحشاء رفاقه، فتلاشت قدسية هذا الإهاب الرباني، الذي تلُفّه منذ الطفولة جلابيب صوف في أعالي الأطلس. هناك وُلد، وهناك تبرعمت أحلامه بالزواج، وزعامة القبيلة، ثم الفرار من إدانة بالحبس سنة ونصف بعد اتهامه بسرقة المواشي.
لا مشكلة لديه في الإقرار بأنه تاجَر بأحلام البسطاء أمثاله. ما الذي تتوقعه من جبل لا يلد إلا الحجارة؟ عشرون سنة وهو ينحت أمنية الثراء، فوجدها يوما في الاحتيال على رعاة الجبل.

قيل فى الأثر : يموت الإنسان واقفا إن لم يجد ما يضع خده عليه أو فقده..
ويحكى أن رجلا حمل يوما بؤجة طعامه فى يد وفأسه على كتفه وجر خلفه حماره وشمسه التى كانت لا تشرق حتى يجرها بحبل الحمار، وذهب إلى حقله ليسقى زرعته ويراقب نموها.. فوجد مكان حقله/ حصاد عمره.. كمبوند بعمارات شاهقة وفيلات عامرة وحمامات سباحة وملاعب جولف تسر الناظرين، أخذه الذهول فظل واقفا فى مكانه كعمود من الصوان..

قال لي ذلك الرجل الذي وجده الناس فجر ذات يوم شتوي مستلقيًا في باحة التكية إنه يريد أن يلتقيني بعد انصراف الناس وإغلاق الأبواب بين انتهاء صلاة العشاء وصلاة الصبح.
لم يكن أحد يعرف من أين أتى، وفشلت كل محاولات استنطاقه، وعزف المحاولون لما أصابهم اليأس من جدواها.
لا أدري لماذا اختارني وأسرّ إلي برغبته في مجالستي، وقد مرت لحظات التردد سريعة لمّا غالبتها فغلبتها رغبة اكتناه السر وفضّ المغاليق.
قصدت مأواه في الغرفة الصغيرة التي كنت أخشى دخولها منذ طفولتي في التكية بسبب توسط جدارها لوحة كتب عليها لفظ الجلالة، وقد كان من تعهدوني في صغري بالوعظ قد أدخلوا في روعي أن الله جبار يسوم من يتنكبون عن جادة التقوى عذابًا لا يطيقه بشر.

اعتادت أمي زهيرو أن تكنس باحة الفيلا كل صباح. تتخلص من أوراق الشجر اليابسة، ثم تلقي بالمقشة جانبا وتسرع الخطى نحو المخبزة قبل وصول الأجواد. لم تكن لي معها قصة بالتحديد، سوى أني توليت مراقبة الشارع ظهر كل سبت. حتى إذا لمحت سيارة النصراني، هرولت مسرعا إلى السوق المركزي لإخبارها.
الطبيعة تكره الفراغ، وكذلك أمي زهيرو. يمتد شغلها الإضافي من الزوال حتى آذان العشاء. تحصي الدريهمات، ثم تحمل أقراص الخبز إلى محل وجبات سريعة. تفاوض حول السعر بإلحاح من يصر على العيش لسنوات عديدة. قدّرت السن بالثمانين أو يزيد، لكنها، رغم انحناء الظهر وضعف السمع والبصر، تحمل على أكتافها شموخا يليق بالمحارب.
-جاء النصراني؟
- نعم!

كلما تزايد ضيقها تقيدت حركته أكثر أو تكاد تُشلّ، حتى سماء التحليق ضاقت رحابتها بعد أن تقلص المكان وحتى الزمان. لا يرى أي صورة مماثلة تكشف حقيقته الآن، غير تلك التي يظهر فيها قابعا في جوف كرسي بعجلتين لامعتين تقتضيان طاقة لتحريكهما. طاقة مفقودة يعني حركة مفقودة تلزمه المكوث في الدائرة حتى آخر نفس متصاعد، لكن لمسة بخفة ريشة قد تقفز به خارج حدود هذه الدائرة التي أفاق من شبه غفوة ليدرك أنه في بطنها. حلمه نافذة، وفي أقصى تقتير كوّة يتسلل منها هواء يمنحه بعض الطاقة وأملا ولو ضئيلا في استنشاق حياة جديدة.
الحركة دائبة والعيون التي لا تبرح المرور بجانبه عمياء لا تلتفت إليه أو قل لا تراه، هي مبصرة في الحقيقة، تحدّق في كل الأمكنة والأشياء هنا وهناك، لكن إبصارها يبدو أنه لا يخترق الدائرة، أو ربما يخترقها لكن دون التقاطه، هل أصبح غير مرئي؟ يحاول التململ مرات ومرات لكنه لا يستطيع، فالدائرة ليلة دكناء تخنق نبضه وتكسر كل المحاولات.

كل البشر رحالة
كل البشر رحالة، فهم يرحلون من العدم إلى الوجود، ويرحلون من العالم إلى ما وراء العالم. وبين هذه الرحلة وتلك يتساءل الإنسان عن ترحاله أكان بيده وبرغبته؟ أكانت رحلته غاية أم غواية؟ وبين الرحلة الأولى والأخيرة، نعيش ما لا نهاية من الترحال المونادولوجي (الذاتي)، والزمكاني. أحيانا، يكون أهم رحيل في حياتنا عندما نرحل فقط دون أن نرحل، عندما نرحل بكل شيء وفي كل شيء، دون مراوحة مكاننا، الترحال عذابات و أشواق، أفراح اٌجلة و عاجلة، قد يكون خلاصنا هو أن نرحل فقط، ليس المهم إلى أين.
أوهام السيادة
الإنسان كائن غريب، يمنح وجوده معنى لا يفهمه، معنى السيادة والإحساس بالتفوق، يقول لنفسه: " أنا سيد كل الموجودات " يتنفس أوهام العظمة بشغف، سمى نفسه " حيوان عاقل " مدعيا أن جهازه العصبي متفوق وليس كمثله شيء، متناسيا أنه كتلة من المتناقضات الأبدية، جعلته كائنا يخاف من ضياع المعنى الذي أمن به في حياته. نعم الإنسان سيد، لكن سيد ماذا؟

عج المقهى بالرواد وغطى دخان السجائر الوجوه الكالحة المتحفزة التي هدها التعب والإرهاق وأعيتها الحركة الدائمة، فقد بحّت الأصوات وتشققت الحناجر من الصراخ الذي لم ينقطع طوال اليوم، الكل قدم إلى هذا المقهى ليريح النفس مما كابدته وليلتقي بالأحباب، ففي مثل هذه الأمكنة يبقى العالم في الخارج وتبقى ضغوط الحياة في الخارج، فتتعالى القهقهات وتطيب الجلسات بالأحاديث الحلوة المؤنسة، وخلال هذه الأوقات تتجدد خلايا النشاط ليستقبل الكل يوما جديدا لا مجال فيه للخمول والسكينة.
وقف نزار في باب المقهى يتفرس الوجوه، فقد خاب ظنه، إذ لم ير أحدا من الذين كانوا يجوبون الأزقة بسيارات الجيب العسكرية، يلهبون أجساد المتظاهرين بالعصي والهراوات غير آبهين بالدماء المثناثرة والتي غطت الوجوه وصبغت الملابس بلونها الأحمر القاني، تقودهم عيون مبثوثة بين الصفوف فتنبئهم عن المخابئ السرية وعن مراكز القيادة وجهات الدعم. كان يوما مجنونا، وبلغ الإصرار أقصاه، فلا المتظاهرين قبلوا بالتراجع ولا رجال البوليس رضوا بالانسحاب، كانت معركة عنيفة، وعندما احتدم الموقف، لعلع الرصاص وغطى دخان القنابل المسيلة للدموع الممتزج بالدخان المتصاعد من العجلات المطاطية سماء المدينة، تناثرت الأجساد بين مغمى عليها وجريح، وعلا الصراخ بين نائحة فقدت إلفها وبين شاتم وساب في الذين تسببوا في ما حدث، عفّرت الوجوه بالتراب، ناب صوت الرصاص عن الكلام، فلا أحد يجيبك عما حل بالمدينة سوى الهراوات وعلب الغاز الموقعة باللونين الأبيض والأزرق.

احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.
- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.
شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة