كان صباحا مشرقا يعلن عن بداية صيف حار، رقصت كل الأجساد النائمة تحت أشعة شمس وهاجة مسحت بصفائها على كل الوجوه البئيسة والنعسانة. العم أحمد، يحب هذا اللقب كثيرا، يجعله يشعر بالفخر والهمة بين زملائه في العمل. استيقظ هذا الصباح وهو يبحث عن توازنه الذي افتقده بالأمس. طرد النوم من غرفته كالعادة واحتضن خيوط الشمس وسمح لها باختراق أعضائه النحيلة. التي قضى بها زمنا في وظيفته. هيأ فطوره، الذي رفض أن يغيره رغم نصائح ابنه الوحيد، الذي كان دائما يؤكد له على شرب الحليب حتى لا تصاب عظامه بالهشاشة. فطور بسيط لا يحتمل الجهد والعناء، يتكون من كسرة خبز وشاي محلى بشكل قوي. انه لا يتلذذ بشرب الشاي الا وهو يضيف القطعتين من السكر. كان دائما يقول لابنه الذي يعاتبه" المسافة التي أقطعها يوميا للعمل، تحتاج الى طاقة كبيرة."
فقد العم أحمد، في ذلك الصباح، بوصلته التي كانت تحركه بشكل آلي لكن بحماس. بوصلته التي كانت تدفعه الى الباب متوجها الى عمله. تعطلت هذا الصباح، وظل نظره الحزين متوجها صوب فطوره، ثم أشاح بوجهه عنه. ملأت الدموع مآقيه وهطلت كمطر مفاجئ في عز الخريف. ظل صامتا لا يتحرك حتى نسي الانتباه الى الساعة المعلقة على الحائط التي كانت اول من يستقبله لما يستيقظ وآخر من يودعه لما يطلب النوم. هذا الصباح، نسي وقته وهجر فطوره، واتجه صوب النافذة المطلة على الشارع الرئيسي، ووقف طويلا، ينظر الى فراغ ممتد أمامه كحية خرجت للتو من حجرها تزهو برقصتها السامة. أخذ رأسه يشتعل بأسئلة لم يطرحها يوما. سقطت دمعة هاربة من سجن عينيه على خده، حاول أن يبتسم وهو يتذكر الامس، وحفلة الأمس بين زملاءه. كانت حفلة تقاعده. أهدوه وسام الشرف والاستقامة، ومدوح بكلمات راقية. وصفقوا له حتى تورمت أديهم. ضجيج أصواتهم مازال عالقا بذاكرته. ابتعد خطوات الى الوراء والتفت صوب الباب كأنه يستنجد به ويطلب منه أن يفتح حتى يطرد هذا الأمس من سجنه الداخلي. همس "ماذا سأفعل الآن؟ ". دار حول نفسه كما تدور الساقية لجلب الماء.

لا أعرف لماذا ولا كيف فتحت عيني في الغرفة المظلمة لأجد رجلا قبالتي عند حافة الباب يرتدي قميصا أبيضا، مصفف الشعر بشكل لامع، ضامر البطن حاد الملامح ينظر إلي ويبتسم ابتسامة مريبة مفزعة تشل حركتي، وتجعلني مستسلمة تماما لما سيقع. يقترب مني قبل حتى أن أعي تماما ما يحصل، ثم يقترب ويقترب كشريط رعب الى أن يلصق وجهه بوجهي ويغرس أنفه بخدي ثم يعود منسحبا الى الوراء كشريط عكسي: كل الحركات السالفة الى الخلف ثم يختفي عند حافة الباب التي بدا في فيها أول وهلة.
أجمع قواي لأصرخ لا يوجد صوت.
أسعى جاهدة ثم يخرج الصوت فأصرخ ملء ما أستطيع، أستيقظ بخفقان رهيب في صدري مع إحساس بالاختناق ألتفت الى الساعة جانب السرير، الساعة تشير الى الثالثة ليلا أحس بارتياح على الأقل لم يكن الأمر سوى كابوس نجوت منه بمعجزة، الاستيقاظ من الكوابيس أشبه بفرصة للنجاة والظفر بحياة أخرى.
انهض من السرير، حلقي جاف أكثر من العادة مع إحساس بالغثيان أحاول التذكر إن كنت أخدت جرعة الدواء المسائية، أتجه إلى المطبخ يبدو ترتيب الأدراج غريبا عما أعرف لابد أني أعاني بعض التشويش بسبب النعاس، بحثت عن كأس ماء أجد واحدا بعد عناء أشرب واتجه الى المرحاض حافية.
شيء ما يلتصق بأسفل قدمي أمسح قدمي ببعضها أخطو فانزلق وأكاد أسقط. ليلة سيئة بكل المقاييس ولا أتمنى أن تسوء أكثر.
عند باب المرحاض تزيد الأرضية لزوجة وازعاجا، أبحث عن مقابس النور أتخبط بين الجدران أحاول ان لا أسقط من إثر المادة الملتصقة بقدمي لا أعرف مكان المقابس، أجد الواحد تلو الاخر صدفة، أنا الان وسط برك دماء عديدة.

أتت مقبلة علي بجسدها الكثيف و نظراتها الحادة، وقالت لي بصوتها القاسي:
ماذا تفعلين هنا؟
ارتبكت وارتجفت مفاصلي وطار الكلام. قمت بسرعة لا ألوي على شيء، أطرد كل ما علق بي من ورق وأقلام. كانت تحيط بي من كل جانب كطفلة بين لعبها. اقتربت مني أكثر وقالت بعنف وصرخت حتى ارتجفت أركان الغرفة:
-ساعة وأنا أنتظر في المطبخ لوحدي، من سيغسل تلك الأواني المرمية هناك؟
-في الحال ياخالتي، كنت فقط أرتب أوراق عملي للغد.
وتهت بين الأوراق التي انتشرت في الغرفة وبين صوتها الذي سلط علي كالسيف الحاد.
تابعت بنفس القوة التي تمتلكها:
-المرأة هي البيت أولا، هي صورتها أمام الأهل والجيران.

ربما ستظنُّ وأنت تقرأ هذه السطور أنَّ مجنونا ما في مصح نفسيٍّ قد كتبها، أو أنها تخاريف عابث، لا يا عزيزي ما أقوله لك هو عين الحقيقة، كل ما في الأمر أن الأحداث النادرة تصبح سهلة التكذيب.
لم أك مولعا لا بالنظر إلى المرايا، ولا الحديث إليها حتى وقت قريب، لكن صدفة حدثت غيرت فجأة كل قناعاتي.
أتى ساعي البريد يحمل صندوقا كبيرا، تحقق من الاسم المكتوب:
-هذا الطرد لك أستاذ سامي، توقيعك أسفل ويمين الورقة إن سمحت.
انتبهت إلى عدم شرائي أي شيء على الشبكة، ولكن اسم المرسل إليه، كان يشير إليَّ دون لبس ومعه النسبة والعنوان، الغرابة في اسم المرسل: نرجس للمرايا.
لم آبه بالموضوع كثيرا، سندت الطرد إلى الحائط ونسيت الموضوع برمته مدة.
مساء الجمعة الماضي، خطر ببالي أن أنزع الورق المقوى عن الإرسالية، كانت المرآة عادية المظهر ولا تختلف عن غيرها.
ثبتُّها على حائط غرفة النوم مقابل سريري، بادرتني بالحديث:
-سنقضي أوقاتا ممتعة معا يا سامي.

تمهيد: ذات صباح، إتجهّت صوب شاطئ البحر، والسماء إن غطّتها الغيوم، فأشعة الشمس لا تخذلها وهي لا تكذب عندما تشرق. جئت حزينا وقلقي مورّد كالشفق الأحمر يصارع زرقة آفاق البحر الفصيح، الرحب، الطليق. ولكن بعد سويعات هنيئا للسماء بالصفاء. هنيئا للبحر بموجه الجديد يلطم موجا قديما. وأنا التائه والشريد، أشته أن يخلصني نور من بقايا ليلتي الكئيبة وعبق الندى في دمي. وحلمي يغازل المدى لم أقدر أن أحدق في شعاع الشمس وهي آتية تخترق ضباب هواجسي كما أني لم أقدر أن أحدّق في جثّة نورس جميل كالزهرة البرية لم تواره بعد الرمال.
،،،
وحينما جئت أتمشى على شاطئ البحر لم يحتو حزني ولا الصخور الجلمودية. فصمدت أمام رغبتي في الامتلاء بالوجود الفياض فتخَيّلتُ النورس مجسدا رمزيا في هيئة تحليق دائم ففي التخييل فنّ يقاوم العدم وكانت الريح تجمع الألوان في ريشة العقل المتعب بالجنون لتراقصني على هذه الأرض التي تتسع للجميع وشاطئها الذي يستقبل الغرباء في كل وقت وحين.
،،،
ذات نهار
سقطوا من علياء المقت الى الموت غرقا
تمزّق الأفق الرحب في وجهوهم
وحدثني البحر عن عود الأطيار والنوارس
وعن أسماك تبحر وتعود

عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع. كنت أجلس قبالتها مباشرة، أصغي إلى وجيب قلبها فيتردد صداه في تلك الردهة الفسيحة في هذه البناية الصماء التي لا تستقبل إلا المواجع والآلام. تضيق وتتسع حسب انفعالات زائريها أو مغادريها، فتضج حتى لتخالها الآزفة قد أزفت، ثم تهدأ وتستكين وتصمت صمتا أشبه ما يكون بصمت المقابر وسكون القبور فيها.
وقع الأحذية فوق البلاط اللماع ذي الرائحة المقرفة الممزوجة بطعم الوجع والخوف والموت تقطع مساحات الصمت الذي يخيم بين الفينة والأخرى على هؤلاء القابعين المنتظرين في تهيب وتردد، فكل أزة باب قد تحمل خلفها وجعا، وكل صرخة مدوية تخترق الجدران قد تنبئ عن فجيعة.
في عينيها مساحة ممتدة من الحزن والألم اللذين يعتصران قلبها ويفتتان ما رُتق من بقايا روحها. حدقت في عينيها فإذا هما مثقلتان بهموم الدنيا، لم يكحلهما النعاس منذ دهر. وحيدة كانت تجلس رغم كثرة الجالسين يمينا وشمالا. تملأ رئتيها بين الفينة والأخرى هواء تسحبه بعمق وتنفثه آهات عنيفة. لم يكن يؤنسها سوى هاتفها الذي كانت تضاء شاشته لتقرأ رسالة أو تتفقد الوقت الذي أمعن في تعذيبها. هذا الزمن الذي يكاد يتوقف، تُشل حركته فيمعن في تعذيبنا ونمعن في تذكره وتتبع حركات عقارب ساعته الرتيبة.

قيل فى الآثر : " يظل الرجل الرجل حتى يقابل المرآة المرآة ويحبها .. "
ويحكى أن عنترة اصطدم يوما بحائط اليأس من وصل عبلة، فأخذ سيفه وفرسه وحزنه وأسرع فى الصحراء، لم يُعدّ النُهُر التى ظهر فى نهايتها القمر، ولا الليالى التى غابت فى بدايتها الشمس.. لكنه فجأة استشعر الجوع والعطش لجسد عبلة وقلبها، فنزل عن فرسه وألقى بسيفه على الأرض وبكى كما لم يبكِ يوما رجل، أو كما لم يبكِ يوما فارس، حتى توقف مطر قلبه وجفت عيونه، فصحب حزنه وعاد إلى خيام القبيلة فارسا من جديد.
لكن التاريخ يحفظ لنا – فى قلب الصحراء ورمالها- ذكرى ذاك اليوم البعيد.. عين ماء صافية رائقة كأنها عين من عيون الجنة.. كلما نزل عليها مسافر - أو مر بالقرب منها - اشتاق وحن حتى يتشقق قلبه ولو لم يكن محبا أو صاحب طريق.

طقس
ساعة العصر تزحف بطيئة، وآلة الحصاد تواصل دورانها بنفس الصخب تحت شمس حارقة. أما نوار الشمس المشرئبُّ من الحقل، ذاك، خلف الوادي، فقد كَلَّ من ليِّ عُنقه متابعا دورة الشمس، ولو علِمَ أنها ثابتة لاستراح ورفع رأسه أو ترَكَه يتدلّى.
لم ييأس الجُعل (بوجعران) من دفع كُرته التي اعتادَ تكويرها من روث البغل، ودسّ بيوضه فيها. يُبدع في دفعها بستة أرجل تتناوب فوق أرض غير مستوية نحو بيته الذي يُخفيه كما يُخفي جناحيه، ولا يشهرهما إلا للضرورة والبحث عن قوت إضافي.
عاد الْحَيْمر الراعي يروي على مسامعي أن ساعة هجرته قريبة، حتى وإنْ مات في البحر فليس له ما يخسره، عاش راعيا وقد تجاوز الثلاثين من عمره، وأقسم إنْ عَبَرَ حيّا سيعود بعد خمس سنوات في سيارة أوتوماتيك وزوجة نصرانية شقراء. يكره نساء البلد لأنه يعلم ما يجري في الدوار من أسرار عصية على الحكي. ثم يلتفتُ إلى هاتفه المذياع وقد حوّل الموجة إلى قناة شدى إف إم في برنامج " برلمان الشعب" مع مقدمه الإعلامي الحسين شهب الذي ينفحه حماسة وهو شارد.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة