Venise bleueاختلف الباحثون في إعطاء معنى للدين ووجدوا صعوبة في تحديد منشئه لدى المجتمعات البدائية .فاعتبره البعض نمطا من التفكير الذي توافق مع خبرة ومعرفة الإنسان المحدودة أنداك وهناك من اعتبره ذلك الملجأ الآمن للإنسان الذي يخاف تناقضات الكون وجبروت الطبيعة.
وفي هذا الإطار يعرف برجسون في كتابه منبعا الأخلاق و الدين كما يلي :" الدين البدائي هو وقاية من الخطر الذي يتعرض له الإنسان "[1] و على ذلك "فالدين إنما هو رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة قول العقل باستحالة اجتناب الموت"[2] وقد تساءل  سيجموند فرويد حول الدافع الذي جعل الإنسان يؤمن  في مرحلة من مراحل تطوره بالأرواحية كتصور ديني وبهذا الصدد يقول "ويبدو أن مشكلة الموت كانت هي قبل كل شيء، منطلق التنظير فبالنسبة للبدائيين كان استمرار الحياة –الخلود- هو الشيء البديهي، أما تصور الموت فجاء بعدئذ ولم يتم تقبله إلا بتردد بل إنه حتى بالنسبة لنا مازال خالي المضمون و صعب الاستيعاب "[3]  فيمكن القول إن الخوف كان عاملا مهما في تشكل المعتقدات البدائية كما أن عدم فهمه لمجموعة من الظواهر الطبيعية ورغبته الأكيدة في تجاوز خوفه من هذه الظواهر، جعله يختلق مجموعة من الآلهة اعتقادا منه أنها تستطيع حماية تواجده وبقائه على قيد الحياة إن هو عمل على استرضائها بمجموعة من الطقوس و العادات وقد لعب الخوف من الموت دورا أساسا في هذا الأمر فالموت الذي شكل و لازال هاجس الإنسان الأول لذا اعتقد بأن هناك عالما آخر سيواصل فيه الفرد حياة أخرى لدا جاء الاهتمام بالمقابر عند المجتمعات القديمة فهو مرحلة عبور نحو عالم أخروي لذا زود الميت بأدواته الخاصة كي يستعملها في حياته الثانية .

le chant223يعود الحضور اليهودي في الشمال الإفريقي لماض سحيق، منذ ما يناهز 28 قرنا، حيث تشير بعض المصادر التاريخية أن هدم الهيكل الأول المنسوب للنبي سليمان سنة 586 ق.م، نتج عنها لجوء عدد كبير من اليهود، وتؤكد  أيضا بعض المصادر الأثرية المتمثلة في العثور على حجارة كانت قد وضعت من طرف يواب بن سرويا (قائد جيش الملك داوود)، كعلامات حدود في كل من جربة وطنجة وفاس ووادي درعة والتخوم الصحراوية المغربية، ليقتفي أثر سكان فلسطين الأصليين[1]، وكان مجيؤهم مع البحارة الفينيقيين[2] ، وتمركز حضور هذه المجموعات العبرية خصوصا في منطقتي وليلي وشالة، حسب ما تؤكده الآثار والنقوش في هذا الصدد بالإضافة إلى أخبار التلمود وبعض الأحبار.

وقد عرف الوجود الروماني في موريطانيا الطنجية نشاطا دينيا مكثفا، خصوصا في منطقتي سوس ودرعة، حيث تمكن اليهود من معايشة البربر بل تمكنوا بجميع الطـرق بإقناع عدد كبير منهم باعتناق الديانة اليهودية [3]، إلا أن الرومان كانوا لهم بالمرصاد، وعملوا بدورهم على قدم وساق على القيام بعملية تبشير بالدين المسيحي في صفوف اليهود والبربر على السواء، واعتبارها ديانة رسمية تندرج ضمن مقاليد حكم الروم في موريطانيا الطنجية. وقد ذكر حاييم الزعفراني أن الرومان كانوا متسامحين مع اليهود ومنحوهم حقوقهم المدنية، بل وازدادت وتيرة الدخول في اليهودية بين السكان المحليين والأجانب.[4] إلا أن اكتساح الوندال للمنطقة في ق 5 ق.م أي 430 ق.م، أدى إلى طرد الرومان من أرجاء المعمور، وعاش اليهود من أكثر العهود استقرارا وتسامحا وعادوا لممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، إلا أن الأوضاع تأزمت مع دخول البيزنطيين سنة 533 ق.م الذين قاموا بمناهضة اليهود واستلموا بذلك مشعل روما وذلك يعود لتحالفهم مع الوندال، وعادت المسيحية من جديد تخترق البنيات الاجتماعية، وتم غلق المدارس والبيع[5] ،إلا أن محاولات بيزنطة لتمسيح البرابرة ومحق دابر اليهودية لم يكتب له النجاح.

abstract-anfasse2333عندما نتصفح الفهارس واللوائح البيبليوغرافية، فإننا نلاحظ أن الكتب المصنفة في خانة "التاريخ" تتوزع على عدد كبير من الفروع والأصناف. فما هي يا ترى، في وقتنا الراهن، الانتماءات المهنية للمؤلفين الذين وضعوا كل هذه الكتب التي يتم إحصاؤها؟ إن غالبيتهم تنتمي إلى أوساط الأساتذة، والباحثين، ومحافظي الخزانات ودور الأرشيف، وكلها فـئات تشغل مهنا لها صلة بعمليات تحقيق المصادر، ونشر المقالات، والمونوغرافيات، والدراسات التركيبية، والمؤلفات المدرسية، والكتب التعميمية التي تتحدث عن الماضي البعيد أو القريب، وتتناول أحيانا قضايا الحاضر. وقد ينتمي المؤلفون إلى عالم الصحافة، فيتناولون في كتبهم أحداثا راهنة، أو أحوال الأحزاب السياسية، أو وقائع الحملات الانتخابية، وقد يحكون حياة شخصيات بارزة على الساحة العمومية. وهناك أيضا الأدباء الذي تستهويهم بشكل خاص الكتابة البيوغرافية أو التأليف حول بعض الحقب أو الأحداث المثيرة التي شهدها الماضي. وفي الأخير، هناك الهواة الذين يؤثثون أوقات فراغهم بدراسة مواضيع مثيرة مثل أسرار طائفة الهيكل[1]، أو ألغاز الحرب العالمية الثانية، أو قضايا التجسس، أو  بعض القصص الغرامية من الماضي، أو بعض القضايا الشهيرة.. التاريخ، الصحافة، والأدب.
من السهل على المرء أن يتذرع بمقتضيات الاحتراف، فيعلن أن كتابات المؤرخين الجامعيين تنتمي دون غيرها إلى مجال التاريخ، وأن ما عداها مجرد كتابات صحفية أو أدبية لا تستحق الاحترام، وتجوز الاستهانة بها، بل وربما جاز احتقارها. لكن هذا الموقف لا يخلو في الواقع من تعسف، وهو يفتقر إلى الفعالية. ففي مجتمعاتنا المعاصرة، لا يحتكر المؤرخ المحترف مهمة تحديد مضمون التاريخ ورسم حدوده. فالرأي العام يدلي هو كذلك بمواقفه في هذا الميدان. فهو يقيم علاقة تفاوض دائم مع المؤرخين المحترفين، ويمارس عليهم مختلف أشكال الضغط، كي يوجههم الوجهة التي توافق ميوله. وفي المقابل، يضطر المؤرخون إلى إقناع الرأي العام بمشروعية التصورات التي ينطلقون منها لإنجاز أبحاثهم. ومن المستبعد أن يجمع المؤرخون المحترفون أنفسهم على إقصاء الكتابة الصحفية والأدبية من مجال التاريخ، بل إن كثيرا منهم على وعي بأن إقصاء غير المحترفين موقف يتسم بالتعسف.

3L00043من الممكن أن نضطر، بداية، إلى حذف كل دروس الأخلاق من برامج التاريخ.
 ما يمكن لكل واحد أن يعتقده حول الحروب الدينية والرأسمالية والشيوعية والفاشية والرخص المؤدى عنها أو حول البنك المركزي الأوربي، يرتبط بالنقاش السياسي وبالاختيارات التي يقوم بها المواطن ، بشكل أكبر أو أقل، بحرية في ارتباط بمعارفه واعتقاداته وأهدافه وأصوله واغتراباته . يساعده المؤرخ على أن يتحدًدَ وأعينُه مفتوحة،ليس لأنه سيصدر حكمه على أحداث الماضي بشكل قبلي- وهو حكم تكَونَ لديه في رَوية وهدوء- ولكن لأنه يعرف بأن غالبية تشييدات التاريخ قد طبعت /ووسمت حساسياتنا الحالية .إنه لا يعتقد، إذن، بوجود إنسانية في الماضي آهلة بضواري /وحوش لم يكن لها أن تحمل صفتها المتحضرة سوى عندما أخذت ملامحا تشبه ملامحنا نحن.
المغامرات الأكثر هَولا حظيت بالتباري النشِط أو المحايد بين الشعوب قاطبة. يصف شارل دوغول Ch.deGaulle في مذكرات الحرب ،مثلا،دولة ألمانيا،والتي إلى غاية 08 ماي 1945 ،بأنها ظلت في خدمة زعيمها الفهررfuhrer ″ بجهد أكبر لم يمنحه أي شعب أبدا لأي قائد ″،هذا البلد الذي كان ينتظر في المرحلة فرق الاحتلال المتحالفة،″ في صمت وسط خرابه ″ . هل يمكن أن نتنبأ بأنه ،وخلال أزيد من اثنتى عشرة سنة، كان بمقدوره أن يعيش مرحلةَ وظاهرةَ إغواءٍ )مهولة( جماعية؟ وأن الحقد تجاه اليهودية والبلشفية لن تشكل شيئا آخر عدا نزوة جنون عظمة لبعض العقول غير السليمة؟.
إن الاحتلال،والكولونياليةالجديدةوالستالينية،والأبارتهايد،والمَكارثية،والجنرال Pinochet ثم مارغاريت تاتشرM.Thatcher ،وبدرجات متباينة،كلها تثير نفس الأسئلة . لقد كان بالاستطاعة الاعتماد على قاعدة اجتماعية تسندها، وعلى محاربين يُضحون بأنفسهم من أجلها،فكيف نفسر ذلك ببساطة؟ تلك هي غاية مؤلف التاريخ .

khetarateالمقدمة:
يندرج الاهتمام بموضوع "حرفة الخطاطري" في إطار البحث التراثي، الذي يستمد أهميته و صعوبته من طابع الجدة و الأصالة التي أخرجت هذا النوع من المواضيع من خانة الترف الفكري إلى دائرة البحث العلمي الرصين، بالنظر لما يفرضه من تجنيد لمقاربات علمية قد تسعف في فهم الظاهرة الحرفية في أبعادها المختلفة.
و لما كانت المعاينة المباشرة -حسب تقديرنا- المسلك الأمثل للبحث في هذا النوع من الموضوعات، فإن تراجع هذه الممارسة الحرفية من جهة، و اقتصارها على الترميم دون البناء في الزمن الراهنمن جهة ثانية، يحول دون رسم معالمها الأساس؛ و عليه فإن التعويل على المادة  المكتوبة باختلاف مضانها لاسترداد صورة عن هذه الممارسة الحرفية يطرح بعض الصعوبات لا يمكن تجاوزها إلا من خلال الأخذ بالاعتبارات المنهجية الآتية:
-   أن الفصل بين تقنية الخطارة و ما ارتبط بها من إشكالات [ الأصل – التسمية] من جهة، و بناء الخطارة باعتبارها حرفة وممارسة علمية هندسية قائمة على المعرفة العلمية و الحيلة و التجريب من جهة ثانية، يعتبر اقتضاءً منهجياً ليس إلا.
-   أن بناء ملامح هذه الممارسة الحرفية يوجب افتراض نوع من الثبات في المناشط الرئيسة دونما حاجة للخوض في جزئيات تكتسي طابع الخصوصية.

-   أن التحقيب التاريخي الذي اعتمدناه هو للاستئناس ليس إلا.
-   أن الانفتاح على نماذج متعددة لحرفة الخطاطري، يعد ضرورة ملحة للوقوف على     دقائق هذه الممارسة الحرفية.

الفصل الأول:إقامة الخطارة بين المهندس والخطاطري

نفضل الانطلاق في رصد إشارات أولية وأساس حول حرفة "بناء الخطارة"[1]، من المادة العلمية التي يحويها النص الفريد للشريف الإدريسي ( قVI الهجري/ XII الميلادي)[2]،  بالرغم من تأخره الزمني قياسا مع ظهور تقنية الخطارة[3] ، وعليه فإننا نؤشر - في مرحلة أولى من تفاعلنا مع النص - على العبارات المفتاح التالية:

-         "الصنعة الهندسية الحسنة" ثم "عبد الله بن يونس المهندس"، فنتساءل: ما العلاقة بين امتهان بناء الخطارة ونعت "الهندسية" وتسمية "المهندس" الواردتين في النص؟، أو على الأقل ما الذي جعل هذه العلاقة ممكنة في العصر الوسيط؟.

نقرا في لسان العرب في مادة "هندز" ما يلي:

-         "الهنداز: معرب، وأصله بالفارسية أندازه، ويقال أعطاه بلا حساب ولا هنذاز، ومنه المهنذز الذي يقدر مجاري القني و الأبنية إلا أنهم صيروا الزاي سينا فقالوا مهندس، لأنه ليس في كلام العرب زاي قبلها ذال.
-         "هندس": ومنها المهندس، المقدر لمجاري المياه والقني واحتفارها حيث تحفر وهو مشتق من الهنداز وهي فارسية أصلها أنداز، فصيرت الزاي سينا لأنه ليس في كلام العرب زاي بعد الدال. ويقال فلان هندوس هذا الأمر وهم هنادسة هذا الأمر أي العلماء به ورجل هندوس إذا كان جيد النظر مجربا."[4].

يبدوا أن هذه التعاريف المعجمية لم تقف عند حدود تأكيد العلاقة بين لفظ المهندس وامتهان بناء الخطارة عبر مناشط من صميم هذه الحرفة (احتفار القني وتقدير مجاريها)، بل جعلتها مشروطة بالنظر والتجريب. و يشدد أحد المهتمين بالتراث المائي على أهمية مقارنة مدلول كلمة المهندس العربية بمقابلتها Engigneur في العصر الوسيط وعصر النهضة، حيث يحمل الأصل اللاتيني لكلمة Ingenium مدلولات الحيلة والصناعة والإبداع[5].

ومن ثمة فهل لهذه الكفايات ما يبررها في ممارسات المهندس منشئ الخطارة في العصر الوسيط؟ وما التغيرات التي طالتها مع الخطاطري في الفترة الحديثة والمعاصرة؟.

المبحث الأول: المعارف النظرية

من المحقق أن كل ممارسة عملية تستند على معرفة نظرية، يعد دليل صحة على رقي هذه الممارسة، وهذا أمر ينسحب على مهنة بناء الخطارات في العصر الوسيط، التي حضيت بكبير اهتمام قبل أحد المتقدمين[6]، حيث شكلت موضوع تأليف نظري، يسمح بالقول ابتداء أننا لسنا أمام حرفة بالمفهوم المعاصر، مكتسبة بالدربة والممارسة والمراس، دفعت البعض إلى القول بثباتها منذ قرون[7]، بل أمام "صنعة هندسية" في عصرها الذهبي، فرضت على المهدنس الوعي أساسا بالمعارف النظرية اللازمة قبل مباشرة الحفر ومنها:

أ‌-       المؤشرات الدالة على وجود الماء: ذلك أن تحديد موضع الخطارة يلتزم مبدئيا الحسم في وجود الماء به، وهنا يفرض الكرجي في ممارس هذه الصنعة الوعي بعلم تركيب الأرض للاستدلال على وجود الماء من خلال لون الصخور وطبيعتها (الصلابة والسمك) وأيضا بالاعتماد على بعض النبات.

ب‌- تصنيف المياه وجودتها: يميز الكرجي بين ثلاثة أنواع من المياه: مياه أصلية أو متحجرة، ومياه ناجمة عن ظاهرة التكاثف، ومياه غازية.[8]

قد يستصعب البعض هذه المعارف النظرية، ويقول البعض الآخر بعدم جدواها في الفترة المعاصرة على الأقل، خاصة وأن الخطاطري أمسى لا يمارس حرفته في المجالات البعيدة، كأهل تودغة الذين أقاموا خطارات مراكش لاحقا[9]، وخطارات تافيلالت[10]، ولكنها معارف كانت أساسا في العصر الوسيط، حيث كان المهندس ممتهن بناء الخطارة يجوب البلدان البعيدة لنقل خبرته إلى المجالات التي لم يكن لأهلها سابق عهد بالخطارة، كما هو الحال بالنسبة لعبيد الله بن يونس الأندلسي في مراكش عند إنشائها زمن حكم المرابطين (قV هـ/ XI م)، والزناتين الذين أدخلوا التقنية إلى تافيلالت في القرن (VIIم/ Iهـ) إذا صحافتراض كوتيه F.Gouthier[11].

المبحث الثاني: الخطوات العملية المعتمدة في بناء الخطارة

يجمل بنا قبل التفصيل في الخطوات العملية التي يسلكها ممتهنو"بناء الخطارة"،التنبيه إلى ان انتقال هذه التقنية من موطنها الأصلي بإيران منذ 3.000 سنة إلى جهات أخرى من المعمور، ساهم في رسم خارطة جغرافية واسميةلهذه التقنية[12]. وعلى الرغم مما يوحي به ظاهر هذا الاتساع المجالي من اختلاف في التسميات بشكل خاص، إلا أن الشروط الجغرافية التي فرضت اعتماد هذه التقنية، تعكس في الواقع الشروط العامة التي يأخذها حافر الخطارة بعين الاعتبار عند التخطيط لمشروع الخطارة كخطوة أولى:

ـ  اختيار الموقع والموضع:

 يقصد بالأول حفر الخطارة غير بعيدة عن قدم سلسلة جبلية ممتدة، تفصل بينها أودية وتتميز برطوبتها التي تستمدها من الثلوج المستمرة إلى غاية فصلي الربيع والصيف[13]. وقد تقام الخطارة بعيدة عن الجبال أو في البلاد الصحراوية، كما هو الحال في توات والأزواد[14]، أو بعمان[15]، شريطة الاستجابة لشروط أخرى.

أما الموضع فيقصد به توفر شرط الانحدار الخفيف باعتباره معطى طبغرافيا تتأسس عليه التقنية أولا، ويجعل المياه قريبة من السطح سواء في المناطق الجافة المشار إليها سلفا، أو في المناطق الشبه جافة، كما هو الحال بمراكش حيث أن " ماءها ليس ببعيد الغور موجود إذا احتفر قريبا من وجه الأرض"[16]، كما عبر عن ذلك الإدريسي في النص منطلق حديثنا[17]. فضلا عن ذلك يفترض وجود طبقات كتومة تشكل حاجرا مانعا لاستمرار تسرب المياه من نوع الطين مثلا، أي وجود ركائز جيولوجية غير نافذة أسفل الفرشاة المائية .

ـ اختيار أرضية الخطارة ومسارها:

نعتبره شرطا خاصا بالنظر لتعدد أنواع الأتربة وخاصياتها التي تجعل عملية الحفر تختلف حسب كل نوع، ويعتبر الكرجي "الطين الحر" الذي يحتوي على نسبة قليلة من الرمل ويتميز برطوبة أصلية،أحسن أنواع الأتربة التي يمكن إقامة الخطارة عليها، لأن رطوبته الأصلية تمنع ذوبانه في الماء، عكس الطين الجاف الذي ينهار مباشرة بعد مرور المياه، لذلك يقترح الكرجي على منشئ الخطارة في هذه الحالة الإبقاء على خيط مائي رفيع للحفاظ على الرطوبة الأصلية للطين، وحتى لا يعرقل هذا الخيط عملية الحفر، أما إذا كانت الأرضية صلبة فلا حاجة لهذا الإجراء لأن وجود الحجارة يجعل القناة في منأى عن الانهيار[18].
ويتم اختيار مسار الخطارة بناءا على طبيعة الأرض، ثم باعتبار ملكيتها[19].

ـ   الخطوة الثانية: بناء الخطارة

ننبه ابتداء إلى أنه عكس ما تفيد به كلمات خطارة أو فجارة أو فقارة أو فلج من معاني، جعلت البعض يقول خطأ "بحفر الخطارة"[20]، كمهنة أساس للخطاطري، بيد أن الأمر يتعلق "ببناء الخطارة"، حيث لا يشكل الحفر سوى جزء منها، وهي عملية جعلتها مراجعنا في منتهى الدقة ومشقة العمل[21].
ولعل ما نعضد به رأينا هو كون الأمر يتعلق بورش حقيقي يروم بناء مختلف الأجزاء المكونة للخطارة والتي حددها أحد المهتمين فيما يلي[22]:

-   جزء في العالية: يضم قناة لتصريف المياه وعلى مستواها يتم حفر الآبار.
-  جزء في السافلة: يضم قناة لنقل المياه.
- حوض تجميع المياه[23].
- شبكة لتوزيع المياه في السافلة[24].

تتمة المقال ........ تحميل كامل المقال من هنا

[1] نتحفظ ابتداء عن صفة "الخطاطري" المتداولة اليوم، ونعتمد مؤقتا نعت "المهندس" التي ارتبطت بممتهن حفر الخطارة في العصر الوسيط حسبما وقفنا عليه.

[2]« وماؤها (أي مراكش)الذي تُسقى به البساتين مُستخرج بصنعة هندسية حسنة استخرج ذلك عبيد الله بن يونس المهندس ،وسبب ذلك أن ماءهم ليس ببعيد الغور موجود إذا احتُفر قريباً من وجه الأرض، وذلك أن هذا الرجل المذكور وهو عبيد الله بن يونس جاء إلى مراكش في صدر بنائها وليس بها إلا بستان واحد لأبي الفضل مولى أمير المسلمين فقصد إلى أعلى الأرض مما يلي البستان فاحتفر فيه بئراً مربعة كبيرة التربيع ثم احتفر منها ساقية متصلة الحفر على وجه الأرض ومرَّ يحفر بتدرج من أرفع إلى أخفض متدرجا إلى أسفله بميزان حتى وصل الماء إلى البستان وهو منسكب مع وجه الأرض يصب فيه فهو جار مع الأيام لا يفتر، وإذا نظر الناظر إلى مسطح الأرض لم ير بها كبير ارتفاع يوجب خروج الماء من قعرها إلى وجهها،وإنما يميز ذلك عالم بالسبب الذي به استُخرج ذلك الماء والسبب هو الوزن للأرض...ثم إن الناس نظروا إلى ذلك ولم يزالوا يحفرون الأرض ويستخرجون مياهها إلى البساتين حتى كثرت البساتين والجنات واتصلت بذلك عمارات مراكش وحَسُن قطرها ومنظرها »،يراجعالإدريسي الشريف، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المجلد الثاني، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص ص: 43-44.
[3]نسجل تضاربا فيما يتعلق بتاريخ ظهور التقنية بين الدارسين، حيث يشير البعض إلى ظهور هذه التقنية بأرمينيا في القرن الثامن قبل الميلاد: يراجع  في هذا الصدد: دونالدر. هيل، العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية: لبنات أساسية في صرح الحضارة الإنسانية، ترجمة أحمد فؤاد باشا، منشورات عالم المعرفة، عدد 305، الكويت، 2004، ص 238.، في حين يرى البعض أن التقنية ظهرت عند الآشوريين منذ ما يزيد 3.000 سنة، ثم عند الفرس، واستعملها الرومان عند احتلالهم لسوريا، وعرفة انتشارا في الشرق الأوسط وأفغانستان والصين واليابان وأمريكا اللاتينية وإسبانيا، يراجع بهذا الصدد:

-          Ben Brahim Mohammed : ¨ Les Khettaras du Tafilalet (S..E.Maroc) Passé, Présent et Futur¨ in internationales frontinus  symprosium, 2-5 Octobre, 2003, wolferdange, Luxemburg, nom publié.
[4] ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة 1191 هـ، المجلد السادس، ص 4710.
[5] El faiz, Mohammed ; Les maîtres de l’eau, Histoire de l’hydraulique arabe, acte sud, 2005, p 97.
[6] القصد هنا كتاب: "إنباط المياه الخفية" لمؤلفه أبو بكر محمد بن الحسن الكرجي (ت 1019م)، وقد ترجمه ابن وحشية إلى العربية، وعنوانه الأصل هو :" كتاب في علل المياه وكيفية استخراجها واستنباطها من الأرض المجهولة الأصل"، يضم الكتاب فصولا في صورة معارف نظرية وعملية على ممتهن إقامة الخطارات الوعي بها: عرض نظري حول الماء في الأرض ( I وII وIII) وصف علامات المياه ( IV, V,VI ;VII)، أنواعها (VIII. IX ,X) فوائد عن المناخ والشروط المناسبة لحفر القنوات الباطنية لتصريف المياه (XI,XII,XIII)، إشارات عن التشريع المائي (XIV,XV,XVI)، جر المياه (XVII, XIX, XX)، معطيات طبوغرافية (XXI, XXII, XXIII, XXIV)، تقنيات التصريف الباطنية (XXV, XXX). نشير إلى أنه تعدر علينا قراءة الصور الرقمية للمخطوط الذي بحوزتنا فاعتمدنا أساسا على ما أورده الأستاذ محمد الفايز من مادة علمية واردة في مخطوطة الكرجي، وذلك في كتابه:
-          Les maîtres de l’eau, Histoire de l’hydraulique arabe, acte sud, 2005.
[7]Ben Brahim Mohammed, Op. Cit, P 15.
[8] El Faiz Mohammed, Les maîtres de l’eau…, op.cit, p 150.
[9]Deverdun Gaston, Marrakech des Originesa 1912, Rabat, 1956, p 87.
[10] يشير الأستاذ الفايز أن اتساع رقعة العالم الإسلامي جعل من مهندس الماء أشبه بالرحالة يتنقل بين الشرق والغرب الإسلاميين، وهو ما فرض عليهم التسلح بالمعارف الضرورية لتجاوز الصعوبات المناخية والطبوغرافية، يراجع:

-          El Faiz Mohammed, Les maîtres de l’eau…, op.cit, p 99.

[11]Ben Brahim Mohammed, Op. Cit, P 15.
[12] يمكن الحديث عن جغرافية للتسمية Géolinguistique تعكس الحدود الجغرافية التي تسود بها كل تسمية: قناة(qanat) عند الفرس  والكاريز عند الأفغان (karez) والفقارةfoggara)(عند التونسيين والجزائريين و الخطارةkhettara)( عند المغاربة....
يراجع: الموقع الإلكتروني waterhistory.org بتاريخ 7-01-2014.
[13] أورده الفايز محمد نقلا عن الكرجي في كتابه:
-          Les maîtres de l’eau…, op.cit, pp 148-162.
[14] حوتية محمد صالح، توات والأزواد، الجزائر، 2007، الجزء الأول، ص 79.
[15] العيدروس محمد حسن، الأفلاج في مدينة العين، أبو ظبي، ص ص: 45-48.
[16]الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، م.س، ص ص: 43-44.
[17] من المعلوم أن مستوى الفرشاة المائية بالحوز تتناقص من الجنوب في اتجاه الشمال، حيث تنتقل من 60 متر في الجنوب إلى 10 أمتار في الشمال، حوالي 40% من السهل تتموضع قريبة من الفرشاة المائية بعمق لا يتعدى 10 أمتار، يراجع:
-          El Faiz Mohammed, Les maîtres de l’eau…, op.cit, p 119.
[18]op.cit, p p : 154-156.
[19]دونالدر. هيل، العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية...، م.س، ص ، 236.
[20]  نقرأ في لسان العرب لابن منظور في مادة "الفلج" ما يلي:
•         "فلج": فلج كل شيء نصفه وفلج الشيء يفلجه بالكسر فلجا: قسمه نصفين، وفلجت الشيء بينهم أفلجه إذا قسمته.
يشير العيدروس محمد الحسن إلى أن كلمة الأفلاج لها عدة معان منها شق الأرض والجدول المائي القصير، والقناة التي تروي المياه، وكذلك تعني الظفر والفوز، مرجع مذكور، ص 11.
•         "الفجارة": جمع فجارات وهي من التفجر، وهي تقابل الاسم المحلي "فقارة" بتوات، يراجع جوتيه محمد الصالح، مرجع مذكور، ص 84.
•         "الخطارة من خطر أي تدبدب وتحرك" أورده محمد لمراني علوي في : "تاريخ الخطارة ببلاد المغرب الأقصى، الإشكالية الاقتصادية للمياه ببلاد المغرب الأقصى"، ضمن أعمال ندوة الخطارة واقع وآفاق، أرفود 16-17أبريل، 2001، غير منشورة.
[21] سنركز أساسا على الخطارة الاعتيادية وليس على خطارة الوادي.
[22]Pascon Paul, Le Haouz de Marrakech, Tom premier, Rabat, 1977, p 105.
[23] تعرف هذه القناة في التوات، ب" أنفاذ"، وحوض تجميع المياه يسمى "القصري الكبير"، يراجع، حوتية محمد صالح، توات والأزواد، م .س، ص 90.
[24] لا يسمح المجال لتناول المناشط التي يعتمدها الخطاطري لإقامة كل الأجزاء المكونة للخطارة، لذلك سنركز على إنشاء قناة التصريف الباطنية، بالنظر لمركزيتها، حيث يعتبرها دوفردان Deverdan "روح الخطارة"، يراجع:
-          Deverdun Gaston ; Marrakech des Origines a 1912, Rabat, 1959, 15.

oeuvre-d-art-zdz393تتطلَّب حاجتنا لتراث إنساني رديفٍ في عصر مظلم إحياءَ المجتمعات الشرقيّة في أعلامها وممارساتها ووعودها بفلسفة اللاعنف التي أكدت حقيقتَها الثوراتُ العربية السّلمية في بداية العام 2011، والتي استمرت في السودان والبحرين والسعودية الى اليوم في حلّةٍ لاعنفية لافتة، وإن تردّت في سوريا ومصر تاركةً الساحة للغلوّ على أنواعه: إسلامي وعسكري، تمرّدي وحكومي. وبغضّ النظر عن اليوميات السياسيّة المتقلّبة، نحن بصدد إعادةِ قراءةٍ لتراثٍ يرافق اللاعنف الثوري، أشار الى ضرورتها عالم اجتماع فرنسي كبير في العام 2004:
وبعبارة أخرى، الإفادة كبيرة للشرق الأدنى والأوسط إذا كان أشباه لوثر Luther في النجف وقم، وأشباه كلفن Calvin في المدن/الإمارات، ونظائر جان هوس Jean Hus في كل مكان، مسموعين في ندائهم الإصلاحي، في حين يتم تشجيع صنو فولتير في التصدي للمغالاة الوهابية وفي فضح جميع قضايا كالاس Calas الجائرة، أكان ضحاياها أعياناً أو فلاحين، نساءً أو صحافيين. وفي الموازاة، علينا أن نشدّ آمالنا في أصحاب اراسمس Erasmus بحملهم هذا الجنون المعروف بالفكر الحرّ، وفي تكاثرهم وامتدادهم على قوس من التقدم يتنامى من المكتبة الكبرى في الإسكندرية، الى بيروت الصحافة الحرة، والى فضائيات بحرينية وقطرية تسلك طرقاً متجددة على هذا القوس التاريخي. وغيري ممن يولي اهتماماً أكبر للتاريخ العربي والهندي قادر على توسيع اللائحة الى أبناء خلدون جدد يجاهرون بالإصلاح والتجديد الذي تحتاج اليه ديانة كبرى للتخلي عن رسوبات القرون الغابرة فتحيي شباباً ملائماً لحاجات العصر الراهن.

taha-hussein-3أيها الأزهري،يا سارق النار
ويا كاسرا حدود الثـــــواني
عد إلينا، فإن عصرك عصر
عصر ذهبي ونحن عصر ثان
ارم نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميــــــان
سقط الفكر في النفاق السيـاسي
وصار الأديب كالبهلـــــوان
يتعاطى التبخير ،يحترف الرقص
ويدعو بالنصر للسلطــــان
نزار قباني في رثاء طه حسين
احتل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين(1889/1973) مركز الصدارة في العالم العربي في القرن العشرين، فقد كان بحق مالئ الدنيا وشاغل الناس.ويرجع ذلك لأسباب عدة لعل أهمها انه هتك حجب الممنوع وأشرف على مساحات في الوعي العربي ظلت من المسلمات أو المسكوت عنها تحت هيمنة السلطتين السياسية والدينية، وهما تسوغان ما يحفظ مصالحهما البحتة،إضافة إلى قدرة لا حدود لها على المواجهة والمناورة بأسلوب ساحر مشوق يجمع بين عمق الفكرة ونصاعة البيان وقدرة على حشد الأشياع والمريدين.

lecture[أ]‬
«يَا أُمَّةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهْلِهَا الأُمَمُ» [أبو الطيب المتنبي]
‫[ب]‬
«وليس يكفي أن يُقالَ للنَّاس كُلوا ليأكُلوا ويأْمَنُوا شرَّ الجوع، وليس يكفي أنْ يُقالَ للنَّاس تعلَّمُوا ليتعلَّمُوا ويَأْمَنُوا شَرَّ الجَهْل، وإنَّما ينْبَغِي أنّ يُهَيَّأَ الطَّعامُ على قَدْر الطَّاعِمِينَ وأنْ يُهَيَّأَ العِلم على قدر المُتَعَلِّمِين، فإن لم نفْعَل كانتْ دَعْوَتُنا إلى الطَّعام وإلى العِلْم أشْبَه بِعَبَث جُحا حين أرادَ أن يُقَسِّمَ تسع عشرة إوَزَّةً على عشرين رَجُلاً قِسْمَةً سواء» [طه حسين]
‫[ج]‬
لعل من بين المُعْضَلات الكبرى التي حَاَقَتْ بنا، وأصبحنا فريسةً لها، ولِما يترتَّبُ عنها من نتائج خطيرة، هي أنَّنا أمُّةٌ لا تقرأ. وما يزيدُ من ثقل هذه المُعْضِلَة علينا، هو أنَّنا لم نَسْتَجِب حتى للقرآن الذي بات اليوم ذريعةً، في يَدِ الكثيرين لتبرير القَتْل والجَهْل والنُّكوص، في أمره، ليس للرسول، فقط، بل لجميع من آمَنّوا برسالته «اقرأ». ففعل القراءة، لا يقتصر على قراءة القرآن وحده، أو الاكتفاء بكتب العبادات والمعاملات، أو ما له صلة بشأن الدِّين. هذه أمور تدخل في سياق العلاقة بالله، أو هي في جوهرها، تدخل في سياق علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون أو بالوجود. ففهم القرآن وتَدَبُّر ما فيه من أسرار، يكفي، بالنسبة لمن آمَنَ واقْتَنَع، ليفهم معنى الرسالة، وما تحمله من مضامين، دون إفراط في الشرح والتأويل، أو في تهويل الوُجود مقابل العَدَم، إلى الدرجة التي تصير معها «الحياة الدنيا» شَرّاً، أو هي قَبْرٌ لا معنى للحياة فيه، ووجود الإنسان، في الحياة، هو وجود بلا قيمة، وبلا طائِل.