anfasse17070"في الدين أودعت الشعوب أعز ما لديها."
هيغل.
الدين ظاهرة إنسانية أساسية في كل المجتمعات البشرية ،وكما يقول روني جيرو " لايوجد مجتمع بدون دين" ،فالدين ظاهرة قديمة قدم الإنسان إلا أن موضوع تفكيري سيدور حول فلسفة الدين باعتبارها مبحثا من مباحث الفلسفة ،أو فرعا من فروعها كفلسفة العلم ،وفلسفة الفن... ،وهي مبحث جديد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مع تلامذة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Kant  ،وهذا الظهور المتأخر له أسبابه نذكر منها: أن فلسفة الدين لا يمكن أن تنشأ في مجتمع بدين واحد ،فهي تفترض بالأساس تعدد الأديان ،كما أن فلسفة الدين أتت كتمرة لذلك الفشل الذي عرفته الحروب الصليبية في القرن السابع عشر بين الأرتوذكس والبروتستانت ،والكاتوليك ،وهذه الحرب الدينية عمرت مئة سنة وانتهت بتبادل الاعتراف ،إذ أصبحت الحقيقة الدينية نسبية وليست مطلقة ، عندها نشأت فلسفة الدين .وللاقتراب من هذا الموضوع يمكن التساؤل وطرح إشكالات جوهرية من قبيل: ما معنى فلسفة الدين؟ وما الفرق بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية؟ وكيف يمكن التحديد الدقيق لفلسفة الدين عما ليست فلسفة الدين؟ وهل ثمة تعريف جامع مانع للدين أم أن هنالك تعريفات متعددة بتعدد الحقول المعرفية؟ وهل يمكن الإستناد على تعريف ماهوي لفلسفة الدين؟وماهي ثوابت تحديد الفلاسفة المحدثين للدين؟
للإجابة على هذه الإشكالات يجدر بنا في المقام الأول تحديد فلسفة الدين بما ليست فلسفة للدين ،وكما يقول العرب " بأضدادها تعرف الأشياء" استنادا على هذا المبدأ حري بنا القول أولا: بأنه ليست فلسفة الدين من تاريخ الأديان في شيء لأن التفلسف في الدين شيء كما سنحدد لاحقا ،وتاريخ الأديان شيء آخر فتاريخ الأديان ما هو إلاَّ عبارة عن سجلٍ مسطور يتضمن جملة من الأفكار والتجارب العقدية التي اعتقدها الإنسان من غابر الأزمان. واقترنت بدايته بظهور الكتابة في ما يقارب ما قبل خمسة آلاف عام أي ما يوافق عام 3000 ق.م في الشرق الأدنى. أما فترة ما قبل تأريخ الديانات فهي تتعلق بدراسة العقائد الدينية التي وُجِدَت قبل ظهور سجلات مكتوبة. أما زمن الديانة فهو تاريخ متسلسل لتلك الديانة الواحدة... أن هدف الحوار الديني ليس تحويل من نحاوره الى ديننا بل هو "اكتشاف الدين في الأديان" أو "اكتشاف الوحدة في التنوع".

anfasse17067استهلال:
"لقد ظل الحذر ضحية حياة الكلمات وتنوع الفلسفات وبشكل عام الروح الجماعية. لقد كان ضحية للمذهب العقلاني في البداية وللمذهب الأخلاقي بعد ذلك. ولصلته ببعض من رؤى للعالم يجب أن يصير إلى أفوله" [1]. 
لطالما وقع الإنسان في وجوده الراهن ضحية الجهل والمغالطة وتصرف تحت تأثير صدمة الواقع ورزح لتضليل وسائل الاتصال وضغط الإعلام وتلاعبت الدعاية بعقله وعاش دون أن يدري في وضع مقلوب وخاضع للاغتراب الديني والاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي الناعم. ولطالما احتاج الإنسان دائما إلى توظيف ملكة الحذر بغية الاحتراس من الوقوع في الرذائل وتفادي المفاسد والابتعاد عن المضار وجلب المنافع وإتيان المحاسن وذلك بحسن توظيف المدارك والتسلح بالحيطة وتحقيق الاستفاقة وبلورة أدوات اليقظة واستعادة نعمة الوعي وتغليب روح الأنوار والاستقلالية على ظلمات التبعية والتقليد. لقد كان الحذر مستعملا بكثرة في الحياة الروحية وأوصت به الشرائع السماوية والمعتقدات والحكم التي وضعها البشر وأقبل عليه الحكماء منذ الإغريق والفرس والعرب والرومان واللاّتين إلى الأزمنة الحديثة.
ولقد تم الاستنجاد به في عمليات شحذ الذهن وتقوية البصيرة وترويض الإرادة وإعداد السلوك وتدبير الفعل وتوجيه العقل نحو غائية راقية ودفع الرغبة نحو مقاصد نبيلة وكان خير سند للمرء عند الحيرة وأفضل التجارب الممكنة التي تسهل للناس عملية التمييز بين الجيد والرديء وتجود ملكة الحكم والتعقل.لقد ربط الفلاسفة الحذر بالشجاعة وجعلوا الإنسان الحذر إنسانا متفوقا والقادر على إصدار أحكام صائبة.  لكن لماذا توقظ الفضائل والرذائل في الفكر وعلى حد السواء أحاسيس مبهمة بدل أفكار واضحة؟ وهل الحذر فضيلة أم رذيلة؟ وهل يوقظ في الذهن إحساسا مبهما أم فكرة واضحة؟ وماهي الدواعي التي جعلت التراث الأخلاقي الغربي يقوم بحجب وتغطية فضيلة الحذر؟ وما سر قيام الفلاسفة اليونان بتمجيد فضيلة الحذر ؟ وكيف تحول الحذر إلى ضحية فيما بعد؟ ومن يتحمل مسؤولية الاستعمال الانتفاعي للحذر؟ هل تتحمل السياسة الواقعية مسؤولية في هذا الاستخدام النفعي؟ وأي دور باتت تلعبه فضيلة الحذر في اللعبة السياسية الراهنة؟ وإلى ماذا يرجع هذا الاختلاف في الحكم عليه؟ هل يعود إلى هيمنة اللاهوت أم سيطرة الميتافيزيقا؟ بماذا يتعلق الحذر؟ وماهو مضوعه ومجالاته؟ هل يتنزل في نظام الغايات أم في نظام الوسائل؟ وأين يمكن إدراج فضيلة الحذر؟ هل ضمن إطار الحكمة النظرية أم في الحكمة العملية؟

anfasse10074استهلال:
" لا شك في أن ظاهرة الأفقHorizon  ذو أهمية رئيسية بالنسبة لبحث هوسرل الفنومينولوجي... إن الأفق ليس تخما صارما وإنما هو شيء يتحرك مع المرء ويدعوه إلى التقدم إلي الأمام "1[1].
لقد دشن الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني أودموند هوسرل 1859-1938 الحركة الفلسفية التي اصطلح على تسميتها فنومينولوجويا والتي ارتكز منهجها بالأساس على رد المعطيات إلى الوعي وعلى كذلك استخلاص الفلسفة من الميتافيزيقا التي أضاعت طريق الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها.
لقد بقيت هذه الفلسفة تمجد التمثل وتعرف الوعي بواسطة القصدية وتسعى لكي تشكل المنهج الوصفي الأكثر صرامة ودقة بالنسبة للظواهر. لقد أحدثت محاضرة هوسرل من على مدرج السوربون سنة 1929 والتي جاءت بعنوان تأملات ديكارتية رجة في صف الفلسفة الفرنسية وأثرت بصورة عميقة على أبحاث ليفيناس وسارتر وغاستون برجر. بيد أن طرافة الفنومينولوجيا في فرنسا أنها اصطبغت بالمنحى النفسي عند موريس مرلوبونتي وجسدت تأثير هوسرل من خلال هيدجر على ليفيناس وسارتر وبول ريكور.
احقاق للحق ينبغي القول بأن الفنومينولوجيا مثلت في بداية القرن العشرين وعيا جديدا بالأزمة التي يعاني منها العالم ودشنت محاولة جدية للتفكير في الأزمة والبحث عن مسارات مستحدثة تنشر الأمل والانعتاق.
لقد سعت الفنومينولوجيا الى تخطي العديد من الأزواج الميتافيزيقية ضمن تأليف جدلي بينهما على غرار ثنائيات الطبيعة والقانون ، وكذلك الجسد والنفس، ثم التجريبية والعقلانية، وأيضا الذات والعالم، ووجهت الأنظار الى الخبرة المعيشة والحياة اليومية وقضية المعنى وأعلنت الحرب على الوضعانية والعلموية.

anfasse10072يرتبط هاجس الكتابة حول مفهوم الحرية من منطق ملاحظة الخلط الواعي أو غير الواعي الذي يتم بين المستويات الدلالية لمفهوم الحرية، والتي تستند إلى المجال التداولي الذي يستعمل داخله المفهوم. وتتعقد درجة هذا الخلط في المجال المدرسي بالنظر لحضور المفهوم في مستويات ولحظات مختلفة في الكتاب المدرسي ، ما يجعل التلميذ مذهولا أمام هذا التكرار الذي لا يستطيع كشف جدواه، فيلجأ إلى تفسيره انطلاقا من الصورة العامة عن الفلسفة بكونها حشو للكلام، ويعظم سوء الفهم هذا إذا لم يستطع المدرس بدوره توضيح الغموض توضيحا معرفيا وابستيمولوجيا يتعالى عن لحظة محايثة المدرس لإيديولوجيته أو اختياراته النظرية. فهنا بالذات لا مكان للمحايثة، بل يلزم تبني الحياد المطلق الكفيل بتجلية مكامن اللبس في النظر للمفهوم.
من الحق في الحرية إلى فعل الحرية
إن أولى مستويات اللبس المشار إليه والذي يلزم التنبيه إليه هو ضرورة الفصل بين مجالات حديثنا عن الحرية، والمقصود هنا هل نتحدث في مجال النظر أم العمل؟ فمجال النظر العقلي لمفهوم الحرية يجعلنا نتحدث عن الحق في الحرية بكونه حق نظري لجميع الناس، إلا أن امتلاك هذا الحق لا يعني بالضرورة القدرة على ممارسته، وهو ما يحيل إلى المستوى الثاني للمفهوم، أي مستوى الحرية كفعل وممارسة. ذلك أن لجميع الناس الحق في التفكير والتعبير والنجاح والسفر... وكل هذه الحقوق لا يمكن الحد منها أو منعها نظريا، إلا أن المشكل المطروح هو هل يتوفر من لهم الحق في الحرية على القدرة على ممارسة هذا الحق وتحويله إلى فعل. الأكيد أن ذلك لا يمكن أن يتم بدون توفر من يمتلك الحق في الحرية على القدرة والطاقة التي تمكنه من التفكير والتعبير والنجاح والسفر في الواقع، وذلك بتوفر الوسائل الموضوعية لفعل ذلك. لهذا فليس معنى امتلاك الحق في الحرية كفكرة هو نفس معنى تملك الحرية كفعل وممارسة.

anfasse10070" لما كانت الحقيقة الالهية خافية علينا، فإن سؤالا يطرح عن كيفية معرفة ماهية الخير والصفات الأخرى في الاله؟ وكيف نعرف ماهية الحكمة وماهية الخير المطلق؟"[1]1
لقد أقامت التجربة الدينية منذ البدء علاقة مع أفكار المنح والتلقي والإرسال والاصطفاء والانتقاء والقبول والاختيار من جهة أولى ومتنت صلة شخصية بين الإنسان والله تتصف بالإلزام والخضوع من جهة ثانية.
لقد شهد المعطى الديني تاريخا متقلبا تميز بالمراوحة بين السقوط في الانحراف والهرطقات عن طريق الخروج والإلحاد والتمرد والعزم على التصحيح واستعادة الجوهر المكنون بالعودة إلى الطبيعة أو الوحي.
لقد جمع الديني بين الابتكار والكذب وبين تحقيق الوعي وتمثل الوهم وبين درك الواقع وإنتاج الاغتراب. ولقد ظل الديني حاضرا بشكل مستمر وكوني في الحياة الإنسانية وذلك لما يقوم به من وظائف حيوية للمجموعات البشرية ولما يوفره من حماية للأشكال الاجتماعية التي ظهرت في الحالة الطبيعية ، والتي تميزت بالنزاع والتناحر والدخول في حالة الحرب من أجل المحافظة على البقاء وخشية الموت العنيف.

anfasse27056"سيأتي الوقت الذي لا تشرق فيه الشمس إلّا على أحرار الرجال الذين لا يعرفون لهم سيداً غير العقل"
نيكولا دي كونْدرْسِيه
بات من المعلوم، عند العقلاء، أنّ حياة العظماء و إنجازاتهم، إن في الفكر والعلم أو في الفلسفة و السياسة ونحوها، لا تعني شخوصهم فحسب، بل قد تعني الكثيرين ممّن يستخلصون العبر من إنجازاتهم العلميّة و السياسيّة وإبداعاتهم الفكريّة والفلسفيّة لفائدة الانسانية جمعاء، في غير ما تمييز ولا استثناء. فحياة العظماء مصابيح تضيء دروب الشعوب في كل عصر ومصر. وفي هذا المعنى كتب ريمون تروسون(Raymond Trousson) مؤلّفا هامّا بعنوان (Denis Diderot: Ou le vrai Prométhée ) "دني ديدرو: أو بروميثيوس الحقيقي"، بما يعني المحرّر الحقيقي للفكر البشري، لأنّ بروميثيوس الذي يفيد إسمه باللاتينية، بعد النظر و امتلاك القدرة على التنبّؤ بالمستقبل، هو من سرق، وفق الأسطورة اليونانيّة، شعلة النار المقدّسة أو المعرفة من عند زيوس كبير الآلهة ليعطيها للبشر. لذلك فالعنوان اشارة رشيقة الى الأهميّة المعرفيّة و التنويريّة للمفكّر ديدرو، صاحب مشروع تأليف موسوعة العلوم، والفنون، والصناعات، والفلسفة، وهو-دون شك ولا ريب- أضخم مشروع تنويري فرنسي في القرن الثامن عشر. وقد أنجزه ديدرو، على مدى ربع قرن تقريبا، بمعيّة صفوة من النخبة في كل المجالات، من بينهم نيكولا دي كونْدرْسِيه Nicolas de Condorcet الذي كتب ضمنه مقالات في الاقتصاد السياسي. وكان لهذا المشروع أثر وأيّ أثر على تراجع الأصوليّة الكاثوليكيّة في فرنساالتي خرجت عقب ذلك من ظلمات العصور الوسطى إلى أضواء العصور الحديثة، لتغدو فضاءا للتنوير والأنوار يشعّ على العالم كلّه. لذلك نستشعر اليوم أمام خطر الوهابيّة الداهم، أنّ العالم العربي في حاجة إلى ''ديدرو عربي'' ليحدّ من تغوّل الوهابيين الذين يعيشون اليوم زمانهم الخصب، وهم الجهلة، السذّج والمتخلّفين، أعداء الحياة وأعداء الديمقراطيّة و التقدّم والتنوير والتحديث. أجل نستشعر الحاجة إلى "ديدرو عربي" لفكّ إسار المواطن العربي، من الخليج إلى المحيط، من قيود وأغلال هي ضدّ الطبيعة والعقل، تمارس عليه باسم الاسلام الذي هو منها براء، وتتحصّن بظلال المقدّس وتسعى لإيهامه أنّ مستقبله في ماضيه، وأنّه من المفترض أن يعيش الآني والراهن بفكر وأدوات الماضي 'المقدّس'. وهو لعمري عين الخور. لأنّ ذلك لا يعدو أن يكون مجرّد سباحة هواة ضد تيّار مجرى التاريخ وسيرورة التقدّم.

anfasse08063" أنا صديق سقراط وأفلاطون ولكن محبتي للحقيقة أكبر"
-  شيشرون -
من سلبيات الديمقراطية، حسب إشارة أفلاطون في كتاب الجمهورية، أنها تجعلنا نرضى بالاعتقادات بدل المعارف ونتأثر بقوة الاقتناع لدى خطيب بدل نور الحقيقة لدى فيلسوف. لهذا ينبغي ألا نخشى من حيازتنا لأقل قدر من المعلومات التي تدخل في توجيه رأينا حول المعارف التي حصلنا عليها وتحديد قيمتها بغض النظر عن مخاطر التقنية وذنوب المتهم والنظام الاقتصادي الأكثر نجاعة وعدالة والسياسي الأكثر كفاءة.
بناء على ذلك نحن نتمسك بالاعتقادات الموروثة والآراء الجاهزة بدل عزمنا على الخوض في المسائل والبحث عن الحقائق ونقلل من شأن الشكاك ومجهود الحيارى وتردد المرتابين بينما نعظم من قدر من يدافع بحماسة عن وجاهة قناعاته وصواب مسلماته. في حين أن الحق يمتلك ميلا فريدا نحو مواجهة الاعتقاد الأكثر صلابة ويسعى إلى تغيير الفكر على الرغم من عناده واستبساله في الدفاع عن وجوده. 

والحق أنه لا يوجد طاغية يفرض علينا التعامل مع الاعتقادات بوصفها حقائق وإنما نحن الذين نسلم بذلك لكونها دارجة في الحياة اليومية ومتعارف عليها في التفكير العمومي للبشر وتمثل قاعدة الحس المشترك. كما لا يتحلى المرء بالمرونة النقدية ولا يغادر الأرض الصلبة لليقين إلا إذا عزم يوما ما على تغيير القناعات الموروثة وتثوير الاعتقادات البالية والتخلي عن الآراء المتداولة والبحث الشخصي عن الحقيقة بممارسة التفكير واتخاذ قرار مضاد للسلطة المعرفية القائمة والذهاب في اتجاه معاكس لمتطلبات الرأي السائد.
من مفارقات الحقيقة يمكن ذكر ما يلي:

anfasse08062قبل كل شيء، "لا يوجد مفهوم بسيط، كل مفهوم يملك محددات ويكون محددا بها"([1]). إن الإعلان عن المفهوم على شكل لفظة يحيل إلى مرجعية معرفية (كيان علمي، نظري، مذهب، و يشير إلى موضوعات يفترض أنها قابلة للتعريف أو الوصف أو التمثل والإدراك  الخ...([2] ). إن المفهوم لا يتم الإعلان عليه من طرف الفيلسوف إلا بعد أن تكون قد اكتملت معالمه داخل النسق الفكري الذي يشتغل من داخله، وهذا ما نجد بعضه في القول التالي "إن انبثاق أو بناء المعنى يمر لذا الفيلسوف عبر مجهود تعريفي رصين أو صارم "للمفاهيم العامة" notion و تكونه أو إنشاء الإشكاليات التي تثيرها"([3])، و بذلك يكون الإعلان بمثابة تجميع و تنظيم للنظام الداخلي لخطاب الفيلسوف، كما أن الإعلان عن المفهوم لا يتم إلا بعد أن يكون الفيلسوف قد ضمن لمفهومه، بدرجة كبيرة، العيش خارج محيط الخاص الذي بني داخله.

فإذا كان إعلان الفيلسوف عن مفهوم ما هو بمثابة اختزال أو تركيب لقضية معينة داخل نظامه العام، من هنا تكون معرفة المفهوم و إدراك معناه، والإحاطة به، لن تتم إلا من خلال استيعاب النظام العام الذي نُحث من داخله، فالتعاريف القاموسية لا تعطي إلا المشترك، و ما يتقاسمه المفهوم مع غيره، أو في مقابلته مع غيره، أما إدراكه في حقيقته و دلالته العميقة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال معايشة المحيط الذي صنع من داخله ذلك المفهوم، ولعل هذا ما عبر عنه طه عبد الرحمان "فلا ينفهم المفهوم الفلسفي إلا ضمن مجال تداولي مخصوص"([4]). من هذا المنطق، تكون مهمة المفهوم وظيفية لا أقل ولا أكثر، ولا معنى له في حد ذاته كلفظة، إلا بالقدر الذي يحيل به إلى النظام الخاص بالفيلسوف.

anfasse01057يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.
إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة.

I – أواليات مفاهيمية:
1 – الحداثة: مفاهيم متعددة.
يمكن القول بداية إن الحداثة مفهوم يصعب تحديده بدقة, زمنيا ومفهوميا.
زمنيا أولا:
هناك من تحدث عن حداثة "الديمقراطية في أثينا" في التاريخ القديم(1) وهناك من قال بحداثة السفسطائيين وماثلها بالفكر الأنواري الذي برز فيما بعد(2)، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية متميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم اختفت في الفترات المتأزمة, تلك التي عرفت فيها أوربا تنامي حركات تنادي بالعدمية وبالقومية العرقية, وأفضت في آخر المطاف إلى النازية.
وطفت الحداثة على سطح الفكر, وتجلت على مستوى الواقع, بعد الحرب العالمية الثانية.

anfasse01055استهلال:
" الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية" - ألبرت أينشتاين-
لقد درجت الفلسفة منذ القديم على تهميش الخيال والنظر إليه بازدراء وتحقير على مستوى المعرفة وعلى مستوى الوجود. فقد وضع جنب إلى جنب مع الحس والظن واعتبرت المدركات الخيالية خالية من كل معنى ودلالة وقريبة من الوهم واللاّحقيقة والدرجة الصفر من المعرفة. كما وقع التعامل مع الوجود الخيالي بوصفه اللاّوجود وبصورة أخرى الوجود الشبهي وذلك لتضاده مع الوجود الحقيقي والواقعي.
هذه النظرة الميتافيزيقية للخيال ساهم في تشكلها تنزيل العقل منزلة السيد المطلق وتفضيل لغة المفهوم ومنزع التجريد على  الإنصات إلى دروس التجارب والرجوع إلى الوقائع الخام والاحتكام إلى لغة الحياة. كما نظر الحس المشترك إلى الإنسان المتخيل نظرة سلبية واعتبره غارقا في أوهامه تقوده تمثلاته وتهيئاته وخواطره ولا يقودها ويوجد دائما خارج ذاته وبعيدا عن الواقع ومبحرا في عوالم وبحار غريبة.
لئن أنهت الفلسفة النقدية عند عمونيال كانط رحلة العذاب الذي عاشتها ملكة الخيال طوال تاريخ الأنساق الأنطولوجية التقليدية وميزيت بين الخيال التكراري والخيال المبدع وأسندت إلى الخيال المتعالي مهمة التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة الحسية تحت توجيه أفكار العقل فإن المقاربة الفنومينولوجية قد أعادت الاعتبار لهذه التجربة الإدراكية وسلكت هذا السبيل  للإطلالة على الزمان والوجود في العالم.

anfasse01054خلص مشيل فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء) إلى نتيجة حزينة، يقول فيها: «ليس الإنسان هو أقدم مشكل طرح أمام المعرفة البشرية، وليس هو المشكل القائم باستمرار. فإذا ما قمنا بتحقيب زمني قصير نسبياً، وبتقطيع جغرافي محدود نقصد الثقافة الأوربية خلال القرن السادس عشر يمكن أن نجزم بيقين أن الإنسان هو ابتكار حديث. إذ لم تكن المعرفة تدور ولو بشكل غامض حول هذا الإنسان ولا حول أسراره، منذ أمد بعيد […] فحفريات فكرنا تظهر بأيسر تأمل أن الإنسان هو ابتكار يعود إلى تاريخ حديث، وقد تكون نهايته قريبة"[1]). فقبل نهاية القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان وجود، رغم أن علم النحو، والتاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات […] كانت كلها أشكالاً وصيغاً تعترف بالإنسان. بيد أن الوعي الإبستيمولوجي بالإنسان كموضوع للمعرفة، كان غائباً تماماً.

  في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، هيأت  علوم البيولوجيا واللغة والإقتصاد، التربة لطرح هذا السؤال: ما هو الإنسان؟ وفي الحركة العميقة لهذه الطفرة الأركيولوجية نشأ الوعي الحديث بالفرد الحي والمتكلم والعامل ، فكان ذلك إيذانا بميلاد الإنسان كذات عارفة وكموضوع للمعرفة.