anfasse03113فلسفياً، يمكن القول إن الإنسان منذ نشأته ينشد "الحقيقة المطلقة"، ولأن كانت هذه "الحقيقة المطلقة" هي من حكمت نزوع العقل البشري نحو "المعرفة"، نجد الكثير من النظريات والمدارس الفلسفية التي تناولت "المعرفة" مفهوماً وموضوعاً، بمجمل أبعاد شروطها أو تحديداتها، بل وحتى إمكانات وجودها أو قيامها، إلا أننا نعتقد بأنّ مجمل هذه "النظريات" و"المدارس" الفلسفية، بقيت تدور ـ  على كثرتهاـ   في فلكِ خلافٍ جوهريٍّ، تمثل بأهم منعطف تاريخي في حياة البشرية، وهو التطور الذي بدأ مع منتصف القرن الخامس عشر، الذي قسم الوجود الإنساني بين عالمين: (العالم القديم) و(العالم الحديث)، أي بين (الكوكبية) و (الكونية)، و بالتالي بين مفهومي "وحدة المعرفة" و "جزئية المعرفة"، والذي يعني بين "الدين" بمعناه الأعم "المفارق"، وهو القانون الذي يقضي بأنَّ "هذا الوجود غير مكتفٍ بذاته"، على خلاف "العلمانية" بمعناها الأعم "الموضوعي"، وهي القانون الذي يقضي بأنَّ "هذا الكون مكتفٍ بذاته"، وليس بحاجة للامتثال لأي مفهوم "مفارق"..
إنّ التطور الذي طرأ مع بداية منتصف القرن الخامس عشر، يمكن تلخيصه بثلاث محطات رئيسية، ساهمت بشكل رئيسي في إحداث القطيعة المعرفية الفلسفية مع "العالم القديم"، التي كانت قد حكمت الرؤية الإنسانية على مدى ألفي عام، وهي:
ـ أولا: "ثورة الأفلاك السماوية" التي نسف بها "نيكولاس كوبرنيكوس" الاعتقاد القديم عن مركزية الأرض.
ـ ثانياً: "ثورة الفيزياء الحديثة" التي دمر بها "جاليليو" المقولات القديمة للفيزياء.
ـ ثالثاً: وهي الثورة الأهم التي توّجها "إسحاق نيوتن" في وضعه لمبادئ الحركة وقانون الجاذبية الكونية.

anfasse03112تواجه الفلسفة في كل حقبة زمنية تخلو، امتحانا عسيرا من طرف أحداث العصر الذي تعايشه، بغية إثبات أحقّيتها التاريخية في التّقول حول الإنسان، هذا الكائن المسكون باللغة، المطارد بالزمن، المنفرد بالعقل، والمدفوع بالرغبة. ومن الأكيد أن الفكر الفلسفي لم ينضج بين ليلة وضحاها، كما أن روما لم تبن في يوم واحد، قائلا المثل. وإنما عرف تاريخ الفلسفة هو كذلك لحظات اتّسمت بالتّوهج و الانشراح الذهني و لهفة العقل للمعرفة و بلوغ الحقيقة، و أخرى لازمها الجمود وانشغال الفلاسفة بهموم سالفيهم، كالمرحلة القروسطية التي خيّم عليها مناخ مدرسي سكولائي، جعل منه ينعت »بعصر السبات الفلسفي « . ليعرف الفكر مجدّدا كل حديث مشرق، بداية مع عصر النهضة الذي استنهض معه بوادر سؤال الذات، مرورا  بالتّنوير الذي مّد جسوره الحديدية واصلا بشطر من التاريخ إلى حداثة، أقل ما يمكن القول حولها، أنها متاخمة عند الغرب ووافدة عند الشرق.
وما دامت الفلسفة ذات خصّيصة كونية، تخاطب المشترك الإنساني، فلا يجوز أن لا نستحضر ولو بالإشارة العابرة متون الفلاسفة المسلمين، انجلت في طيّاتها اشكالات حقبة برّمتها، لم يكتب لها هي كذلك أن تثمر وتطول، في بيئات يغمرها جنون السلاطين والحكام، وتهكّم لا مبرر من قبل العامة على الفلاسفة، بكلّ ما في ذلك من قذف وتسفيه وتكفير* . هذا بعد تفضيل النص الفقهي على النص القرآني على صعيد اجتماعيات التّدين، ليشهد العقل العربي سكونا وتعبدّا في محراب التراث، لا نحن متمسّكين به أو بتاركيه، مادام مفهوم القطيعة في مجتمعاتنا التراثية لم يثبت يوما أنه أنهى المعركة لصالحه. ليظل مجرد توصيف لحال عديم الشكل ليس إلا. مثيرا هذا الوضع من جهته، شكوكا وقلقا لدى مجموعة من المفكرين العرب، في مدى صلاحية ثنائية  »رسوخ/ قطيعة «  التي اعتمدوها منطلقا لتنظريهم حول المجتمعات العربية. ولهي خيبة أمل مريرة يكابدها العقل العربي في كل مرة يخوض فيها مسيرته المتدبدبة نحو الخروج من دوائر الارتهان اللاهوتي والانسداد التاريخي (1).

anfasse21096" لا حقيقة دون خطأ مصحح...ولا يتم الاعتراف بالخطأ إلا بعد حين. فالعقل هو الذي يعود إلى ماضيه في حد ذاته من أجل الحكم عليه"  - غاستون باشلار-
تعاني السياسة من تكاثر الأمراض وتزايد الآفات ويمكن ذكر رذائل الطغيان والاستبداد والشمولية من جهة ممارسة الحكم في علاقة بالمحكومين والعنصرية والاستبعاد والاحتكار والتمركز من جهة ذهنية الحكام وبنية السلطة القائمة وكذلك العنف والكذب والجهل في علاقة بأخلاقيات النظام السياسي الحاكم.
لقد دنّس التملق والطمع والنية السيئة  قداسة القيم المدنية وعفّن التسلق والأنانية والوصولية الجو السياسي وتم حشر الخطأ في دائرة الأمراض التي تعاني منها الحاضنة الشعبية وتم اعتباره أحد الرذائل التي عرقلت تقدم الحراك المواطني ووقع الاتفاق على تأثيمه واستبعاده من حيث هو عيب ونقص وارتجال وتعثر.
غير أن واقع الممارسة ومحمول النظرية يثبتان خلاف ذلك ويدعوان الذهن المتبصر إلى مراجعة هذا الموقف والكف عن إصدار الأحكام المسبقة على الأخطاء باعتبارها فرصة من أجل تربية الشعور السياسي ومناسبة للتمرين والاختبار والاستعداد والتدرب على الفعل وتكرار الممارسة ونيل الثقة والنجاح المتأني.
لو قام الفكر الحاذق بدراسة تحليلية نقدية لأشكال حضور الأخطاء في الحقل السياسي منقبا في رمزيتها ووظائفها وباحثا في دورها الإجرائي في تشكل السلطة وإعادة إنتاجها في صورة قوانين وتدابير وتوزيعها بطريقة منصفة على الأفراد والمجموعات فإنه يقر بصعوبة الظاهرة وواقع تعقد التكوين وطابعها الخلاق وصيرورتها المولدة ويستوجب السير في جملة من التمشيات التطهيرية ومعالجة استراتيجية للمشكل تميز بين العاجل والآجل وبين العلل المستعصية والعلل التي يمكن التخلص منها.

anfasse21092" بما أننا نرى أن الحياة ليست الا حركة للأطراف تكمن بدايتها في قسم رئيسي ما في داخلها، فلماذا لا يمكننا القول أن لكل الآلات (التي تتحرك ذاتيا...) حياة اصطناعية؟"1[1]
لقد تميز تعليم توماس هوبز (1588-1679) بالانجذاب إلى الدراسات الكلاسيكية والاهتمام بالرياضيات والفيزياء ولقد سافر إلى فرنسا وألمانيا وايطاليا وقام بقراءة وترجمة المؤلفات التاريخية لتوسديد وفي الأثناء فتح له الأب ميرسان الباب لكي يتعرف على مجتمع العلماء في القارة الأوربية وينشر كتاباته البسيكولوجية والفيزيائية.
في هذا الاطار يمكن التذكير بأن هوبز ألف مجموعة من الكتب ربما أشهرها  كتابي "اللويثان" (التنين) و"عناصر في القانون الطبيعي والسياسي" واللذان يتنزلان في الفلسفة السياسية والقانونية ، ودرس فيهما حالة الطبيعة والحالة المدنية والعقد الاجتماعي وأسس السلطة والجمهورية والعلمانية والمسألة الدينية وركز فيه على الحماية. ولقد طرح للنقاش عدة قضايا جديد تتنزل في إطار المذهب التجريبي مثل الحركة والفراغ واللانهائي والبصريات وفكر في علاقة الحرية والصدفة والضرورة واعتبر الحركة هي المبدأ الفيزيائي المولد للأشياء الطبيعية واستعمله في تأسيس نظرية جديدة في الأخلاق والسياسة. لقد تبني هوبز نظرة مادية حينما اختزل كلية العالم في مجموعة من الأجسام ولما جسد كل شيء بما في ذلك الله الذي اعتبره جسما كبير يحوي العالم والجمهورية التي اعتبرها جسما سياسيا وشبه هوية المجتمع بالعضوية الفردية.

anfasse21091*الذين يريدون البحث في أسباب المعجزات ولا يكتفون بالتحديق فيها في دهشة
 كما يفعل الأغبياء، سرعان ما نعتبرهم ملحدين كفرة - سبينوزا* لا يعرف
التاريخ فيلسوفا قاتل مثل سبينوزا من اجل حرية الرأي والتسامح الديني*

باروخ سبينوزا (1632 – 1677) يهودي هولندي يعتبر من أبرز فلاسفة القرن السابع عشر. تأثر سبينوزا في مطلع نشاطه بالفيلسوف، الرياضي والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت (1596– 1650) الملقب ب "أبو الفلسفة الحديثة"، كانت شهرة ديكارت خاصة بموضوع ثنائية الجسد والعقل باعتبارهما شيئين منفصلين ، فيما بعد غير سبينوزا وجهة نظره بتلك الفكرة واعتبر الجسد والعقل كيان واحد غير منفصل.
اختلف مع طائفته اليهودية التي اعتبرت فكره هداما وشتمته، تبرأت منه عائلته واعتبر زنديقا، ووصل الأمر الى محاولة اغتياله ، بسبب اقواله ان اليهودية والمسيحية تستندان على عقائد جامدة وطقوسهما فارغة من المضمون ولا معنى لها، ووجه نقده للتوراة اليهودية رافضا فكرة ان الله اوحى بكتابتها. قراءته النقدية للكتاب المقدس والإنجيل اعتمدت على الفترة التاريخية التي كتبا فيها، مبينا التناقضات في النصوص. أوضح مثلا ان المسيح الذي تكلم باسم الله ووصفه سبينوزا بأنه كان "الناطق الرسمي باسم الله"، دعا الى التخلي عن اليهودية، التي اصبحت محدودة ونقضها المسيح في مواعظه وأقواله.

anfasse11092" إن المشكلة الكبرى التي أقلقت البشر في جميع العصور وجرت عليهم معظم الويلات... لم تكن مشكلة قيام السلطة على الأرض أو مشكلة مصدرها بل مشكلة تعيين صاحب الحق بها" [1]

ولد جون لوك ( 1632- 1704) قرب بروستل من أنجلترا زمن الثورة الدامية وفي نفس السنة التي ولد فيها فيلسوف أمستردام سبينوزا ودرس في أكسفورد التي كان يسيطر عليها الأرسطيون بينما كانت كامبردج تحت هيمنة الأفلاطونيين. علاوة على ذلك عايش لوك الحرب الأهلية الأنجليزية بين الأرستقراطية المَلَكية والبرجوازية البرلمانية.
لقد حاول منذ البداية نشر أفكار المدنية والسلم والتسامح والتسوية والتضحية في سبيل الصالح العام وساند نظرية العقد الاجتماعي وسيادة الشعب والحكومة النيابية وتقلد العديد من المناصب بعد وصول مقربين منه إلى الحكم وحصل على ثروة كبيرة من تجارة العبيد وهي من الرذائل التي ارتكبها منظر الحقوق  والحريات التي وضع مبادئها في جملة من المؤلفات غلى غرار "رسالة في التسامح" و"رسالة في الحكم المدني". لقد تقابل مع مالبرنش وبل وسبينوزا ولايبنتز ولكنه تأثر بفرنسيس بيكون وطوماس هوبز ورونيه ديكارت. لقد ساعده السيد شافتسبري على الالتحاق بالتدريس في جامعة أوكسفورد بالرغم أن تيار السياسة قد قام بجرفه بعيدا عن مقاعد البحث الجامعي.

anfasse30089إذا ما كانت الفلسفة تقوم على جزء كبير من تاريخ الفكر والمعرفة و تضطلع بالأسئلة الكبرى التي يطرحها الوعي على نفسه أو يتلقاها ‘ فإنها وفي الحين الذي تطرح فيه نفسها كمعرفة نظرية تقارب حقيقة الأشياء والموضوعات من خلال التأمل والمفهوم ‘ و تحاول الوقوف على الأسئلة المتعلقة بـــ" الله والنفس والعالم " أي الأسئلة الميتافيزيقية التي كان يراها ( كانط ) متأصلة في الطبيعية البشرية ‘ وبقدر ما تسهم به من معرفة تبين حقيقة وعمق الروح الإنسانية ‘ فإننا نجدها تثير في الوقت ذاته السؤال والاستفهام حول نفسها ‘ وذلك ابتداء من تلك اللفظة الإغريقية المركبة " فيلو صوفيا " التي تفيد محبة الحكمة و يراها ( أفلاطون ) لفظة ( غامضة جداً )  من حيث الأصل والاشتقاق ‘[1] وصولاً إلى الزمن الذي انبثقت فيه لحظة التفلسف والفلسفة من حيث هي بالتعريف الأفلاطوني لحظة لنشاط معرفي متميز ومختلف , وليس انتهاءاً بالوقوف على السؤال المتعلق بأهمية الفلسفة التي سيبنها " أرسطو " في كتابه "  البرترويبتقيوس  " من خلال محاولة الإجابة على السؤالين الآتين : هل من واجب الإنسان أن يتفلسف ؟ وهل لنا أن نهب أنفسنا للفلسفة ؟ [2] هذين السؤالين اللذين سيخص بهم " أرسطو "  الشباب المقبلين على حياة التأمل والفلسفة والذي أراد من خلالهما أن يبين لهم ضرورتهما وما تنطوي عليه من عظيم خير ومنفعة سيوجهان بحث " أرسطو " في دعوته للفلسفة التي يقول فيها : إنها وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم (من الخطأ ) الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع . [3]

anfasse30087هل تتشكل الملامح من خلال الروح؟ هل تتغير وتتبدل انطلاقاً من هوية الروح؟ للإجابة عن هذه التساؤلات يجب أن نفهم علاقة الوجه بالروح عموماً.
لا يتوقف الجمال على المقاييس الرائجة والانطباعات العامة، فهناك مداخلات ومؤثرات عدة تشكل رؤانا نحو الجميل، الإنسان الجميل يخضع اعتيادياً لمواصفات نسبية، هو جميل كصورة، "لكن" هناك شيئاً يتجاوز الصور والمظاهر، ذلك ما ينطبع في عقول الناظرين.
هذا الشيء: هو الروح، تاريخاً ارتبط جمال المظهر بجمال الروح (الجوهر)، وكثيراً ما تناولت الأعمال الأدبية والفنية ثيمة تخفي قبح الروح في جمال المظهر، عنصر قد يكون سبب نجاح هذه الأعمال، فهناك خاطر يحذرنا من أن الجميل ليس جميلاً بشكل تام، هناك (قيمة) الروح!
الروح إجمالاً هي الشخصية وطريقة التفكير: مجموع السلوكات وردود الفعل والدوافع، وجمال الروح هو ما يُبرز جمال الصورة، ليس الجميل جميلاً في حد ذاته، إلا انطلاقاً من البعد الجوهري لهذا الجمال، أساس هذا الجمال الذي نسميه جمالاً.

anfasse30084استهلال:
" يفكر المرء في الحدث حتى لا يخضع لما يجري" - حنة أرندت –
 يرتد العنف على كل من يلتجئ إليه للدفاع عن نفسه أو لفرض رأيه على الآخرين دون إقناعهم ويرتد الإرهاب على صانعيه ومنفذيه ويفتك بالأدوات وكل متعاون ومسهل ومخطط ومبرمج ومدعم ومبيض.
ربما مثل هذه الدروس مستفادة من مجرى الأحداث التي ترجي في العالم عموما وفي الشرق الأوسط وفي الحالة العربية والإسلامية على وجه التحديد وما يلاحظ هو انقلاب السحر على الساحر واحتدام التوظيف.
بعض من الاعتداءات الإرهابية التي ترهب مدن الدول القوية والأنظمة السياسية الضعيفة تتنزل ضمن المعركة المعولمة على المصالح والنفوذ والمواقع وتهدف إلى الاختراق والاستقطاب والتوسع والهيمنة.
لقد استعملت الامبريالية في صورتها المعولمة التيار الديني لإخراج العديد من الدول والشعوب من الزمن السوفياتي وإدخالهم بطريقة طوعية من جهة وبشكل إكراهي من جهة أخرى في الزمن الليبرالي الجديد.
لقد ألصقت عمدا صفة الإرهاب بالإسلام واتهم العرب بالجمود العقائدي وتفريخ المتشددين والمحافظين وبات العالم في حاجة إلى الأمن والحماية من هؤلاء الانتحاريين وتحمل مسؤولية الوقاية من عدوانيتهم.
لقد تماثل الصبح مع المساء وصارت كل إشراقة نور تدل على الغروب والأفول وسقطت حضارة إقرأ في فخاخ لا تعلم من نصبها لها وباتت الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد شاردة في متاهة لا مخرج منها.
يصعب في زمن الحروب الأهلية تقديم جواب عن سؤال من هو العدو؟ وبشكل معكوس من هو الصديق؟، ويتعذر على كل فرد ومجموعة في وضعية التهجير القسري وتفاقم ظاهرة الهجرة السرية وغير الشرعية من ناحية القانون الدولي إعادة التسجيل ضمن أفق الحس السليم ومدار المواطنة العالمية لحقوق اللاجئين.

anfasse30083إننا نعيش في عالم دائم الحركة، والذي من خلاله اتكأ الأفق الإيديولوجي ووجد لنفسه تبريرا لمجتمع قاس، متناقض، وفاسد، على الرغم من أنه أنتج أكثر الخطابات روعة حول الجمال والعدالة والمعرفة، إن المجتمع كان قادرا على تدمير قرننا هذا، سواء في أوربا أو في جزء من آسيا حيث الحروب المتعاقبة التي تزداد قساوة منقطعة النظير في بعض الأحيان.
    إنه وعلى الرغم من محاولات السلام، فإن هاته الوضعية المعاشة المولعة بالقتال لم يتم تجاوزها قط، والشاهد على ذلك هو المظهر الذي طبع أنظمتنا الدولية بصيغة حذرة، حيث تبقى الحرب الباردة خير دليل على ذلك، والتي أثرت حتى على الوسط السياسي، بل إنها تركتنا في كل حال من الأحوال متوترين وحذرين، وبدون دفاع بخصوص توقع اندلاع ممكن لحرب جديدة.
    إن التعديلات الموجهة نحو عالمنا هذا، تروم تحقيق قواعد مجتمع صامت في كل مرة، ومنزوع السلاح من أجل التجابه ضد أغلب القوى الإرتكاسية التي تحيط به، هاته القوى التي تملك أسماء متعددة: رأسمالية، تكنوقراطية، متوسطة التواصل المراقب، فقيرة روحيا، خلاقة لضرورات مزيفة، استهلاكية... والتي توشك على إعلان الحرب ضد الطبيعة، وهو ما سيترتب عنه حربا ضد الحياة الإنسانية.
إن القتل المتواصل للوسط نعيش فيه، زيادة على تلوث البيئة، ناهيك عن الخبل الجماعي الذي يخضع إليه الكائن الإنساني بشكل متواصل، لهي أمثلة تكفي للبرهنة كون الإنسان يمكن أن يصبح سببا في تشويه ذكائه، إضافة إلى تحوله إلى عدو للحياة ونتيجة لذلك سيصبح عدوا لنفسه لا محالة.

anfasse14088نقدم فيما يلي ترجمة للحوار الذي أجراه ريتشارد فيسر مع هايدجر لفائدة إحدى قنوات التلفزة الألمانية ونشر في إطار مؤلف جماعي تحت إشراف ريتشارد فيسر عن دار النشر Karl Alber، فرايبورج، ميونيخ 1970، ص: 67-77. وقد ألحقنا بالنص عدة هوامش، إما لتفسير الترجمة العربية لبعض المصطلحات والتعابير أو لتوضيح بعض القضايا والأفكار التي وردت في الحوار. والحوار يتناول قضايا هامة مثل: الفلسفة والمجتمع والفلسفة والتقنية، والفلسفة والكائن الخ.
ـــــــــ
فيسر:
السيد الأستاذ هايدجر! هناك في زماننا أصوات ترى أن تغيير العلاقات الاجتماعية هو المهمة الحاسمة في الوقت الحاضر ونقطة الانطلاق الوحيدة الواعدة بالنسبة للمستقبل؛ هذه الأحداث يتكاثر عددها وتزداد قوتها باستمرار، ما هو موقفكم إزاء مثل هذا الاتجاه لما يسمى "بروح العصر"، مثلا فيما يخص إصلاح الجامعة؟
هايدجر:
سأجيب عن السؤال الأخير فقط؛ ذلك أن ما سألتم عنه قبل ذلك واسع جدا. والجواب الذي أعطيه لكم، هو نفس الجواب الذي أعطيته قبل أربعين سنة في محاضرتي الافتتاحية بجامعة فرايبورج سنة 1929.
أورد لكم جملة من محاضرة "ما هي الميتافيزيقا؟": "إن مجالات العلوم بعيدة جدا عن بعضها البعض، وأساليب معالجة موضوعاتها تختلف اختلافا أساسيا. هذه التعددية المتفتتة للشعب لا تتم المحافظة على تماسكها اليوم إلا بواسطة التنظيم التقني للجامعات والكليات، كما لا تتم المحافظة على دلالتها إلا بفضل توجيه المواد نحو غايات عملية، في حين أن تجذر العلوم في أساس ماهيتها قد اضمحل."
أعتقد أن هذا الجواب يجب أن يكون كافيا.