anfasse16050فجأة سقطنا في أطوار المدارات المبهمة، فبعد الإعلانات العلمية الكبرى من كوبرنيكوس وغاليلي والمعرفية من بيكون وديكارت ولوك دخلنا مرحلة جديدة تنزع إلى العودة لأزمنة ما قبل الإنفجار العقلي والعلمي الحديثين، وعلى حد وصف الفذ الفلسفي نيتشه "العائد الأبدي" فهي تكرر صورة من شكلها الماضي في الحاضر والمستقبل، وبالرغم من أن قول نيتشه يصب في تأويل الوجود والكون إلى أنه يرتقي لتفسير حركة التاريخ فيم هو قائم من صراع حاد حول مرجعية البُنى العلمية التي قَدِمت في إعطاء صورة مطلقة صدقتها كل المؤسسات العلمية والدينية حول شكلية الوجود الكوني.
    لحد الآن؛ كل ما وردنا من تفسيرات فيزيائية حول الوجود الأول وطرق تكوّنه انطلق من أزمة برهنة علمية وانتهى إلى مواقف فلسفية وفي أحيان كثيرة تخفى وراء معاني لغوية تنشد التعميم لا التجزيء بخلاف ما يريد العلم أن يصل إليه؛ أي تفتيت المشكلة وإدراك أجزائها ثم تركيبها على نحو الكشف الكلّي لها مضيفا لها الأحكام العامة والخاصة لتشكيل نتائج واضحة غير مبهمة أو غامضة.
    وحريٌّ –بنا- أن نتساءل بدئيًا وبصدق قبل تسليمنا المطلق والمتراخي بشدة حول ماهية النموذج الذي اعتمده الفيزيائيون في استوضاع مجال للمقارنة الرياضية؟ وبشكل أكثر وضوحًا ما الذي يجعلنا نُسلم بدقة الكون محل مجال البحث والإثبات؟
تقول الأصول العلمية لنظرية "الإنفجار العظيم" مثلاً أن السؤال القديم لا يزال مطروحا وهو ذلك المتعلق بالمادة والدائرية المحدودة والانكماش الحاصل لهذا الكون، ويذهب منظرو هذا الموقف إلى إقراره بالسؤال الحقيقي حول "المادة اللامتناهية في كتلتها وعمل الزمن عليها" فهل هي محدودة الكتلة ولها منطلق زمني؟ وفي إجابتهم على هذا يتصورون أن الكون دائري الشكل بطريقة واسعة لأن به مادة محدودة، فلو كان سطحيا لتصوره العقل على أنه لا متناهي زمنيا، وكتلته غير محدودة، لكن دائريته هي التي تفرض السرعة القصوى لحركة الأجرام السماوية بسرعة الضوء. وعلى هذا النحو -حسب اعتقادهم- فإن هناك مادة أولية نشأ منها هذا الكون، وبداية زمنية محددة.

anfasse02045" كل سبل الحياة الفلسفية هي أنماط حياة طباع متعددة حددها العقل والعادة وكلها منعطفة نحو ملذات الحياة ونحو تحقيق الكينونة"1[1]
في البدء تبدو الفلسفة philosophie على خلاف تام مع الحياة، فهي تمكن المرء من الانتماء إلى دائرة التفكير وترتبط بحب الحكمة وتحتل مكانة بارزة في نطاق المعرفة وتشتغل على الاستدلال البرهاني، في حين ظل المرء يتحرك ضمن غريزة الحياة وينتج تصورا للعالم وينمي مقدرة ذاتية للتصرف وفق جملة من التوجيهات الحياتية ويرهن التقدم الاجتماعي بالمعرفة العلمية ضمن رؤية علمانية للوجود تعتمد على الإنسانوية ومبادئ الأنوار وتناهض الدين. ترتبط الفلسفة بمحب الحكمة الذي يظل في مرتبة وسطى بين الجاهل الذي يعتقد في المعرفة والحكيم الذي يمتلك علم المطلق ويدرك الغايات النهائية والعلل القصوى.
كما يمكن التمييز بين الحياة البديهية التي تمثل ميدان عمل رغبات الجسد وتحقق الحاجات المادية والمصالح الدنيوية والحياة الفكرية التي تتغذى من استعمال العقل والتدرب على طرح الأسئلة وتتحول إلى مغامرة فكرية ورحلة وجودية تبحث من خلالها عن المعنى والقيمة وتراجع البديهيات وتحرك السواكن.

anfasse26039لم يحظ أي مشروع فكري أو ثقافي مُعرب أو عربي ببلوغ القدر الكافي من الوصول إلى العقل والتعمّق فيه ودراسة أشكال السيطرة عليه ومحاولة تحريره منها؛ بل إن أغلب المساع غرقت في التنظير لأسئلة القيم ومجارات الحركة العلمية الغربية أو الحديث عن الثقافة بمنظور شاحب لا يعطي ملامح التفكير والبناء.
    إنّي على قدر من القول: "بأن كل محاولاتنا لم تخرج عن أحاديث السوق الشعبية" والذي يسميه البعض مشروعات ومشاريع فكرية وفلسفية وثقافية هو مجرد تنظيم للأفكار البدائية المستمدة من العقل المجتمعي واستوضاعها في الكتب تحت طائلة مجموعة من المفاهيم المقتبسة عن الثقافة الغربية أو التفلسف بطريقة غربية في أفكار جماعية معروفة ومدركة سلفا.
    بالأساس لم نكلف أنفسنا عناء خوض غمار مشكلتي المعرفة والوعي، فمن اللامعقول أن نُشرّح مشكلة نكوصنا الحضاري من منظورات الثقافة والقيم، بل أن نعود للأقسومية البدئية "حالنا مع المعرفة"، و"تقدمنا في مراحل الوعي" وما الثقافة والقيم إلا نتاج تقدم الحركتين الأوليتين لإدراك الإنسان "ذاته" بوصفها عارفة ثم واعية.
    وهذه الغفلة التي تطال من يسمُّون أنفسهم "مفكرينا" أي أولئك الذين يعتقدون أو يعتقد المتأثرون بهم أنهم -حاملو لواء الصراع الحضاري- ما بعد الفترات الاستعمارية الكبرى، بدأت من حيث أن هؤلاء حاولوا تأسيس نصوص فكرية انطلاقا من المقدمات الغربية وفي الغالب هو ذلك "الاندهاش" بما قدمته المذاهب الغربية الكبرى من فلسفات ومناهج ومفاهيم ورؤى غيرت مجرى تاريخ بيئتهم نحو مستقبل جديد مستقل عن الماضي الفوضوي الذي غمر أعمار كبرى من أزمنتهم السابقة. 

anfasse17037"لو لم تكن هناك موسيقى لكانت الحياة خطأ"
 نيتشه: "غسق الأوثان"
-----
"وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق"
أبو حامد الغزالي: "كتاب السماع والوجد"

من الصوت إلى الموسيقى
1-
ثمة لغز عصي على التأمل في طبيعة "ما هو موسيقى"، ذلك الذي يقدم نفسه بوصفه تلك الساحة التي يمكن أن ينفلت فيها الصوت دائما من كل ما يعود إلى المعنى أو الدلالة (بطبعاتها المختلفة)، ومن كل ما يمكن العودة به إلى ما هو متعين أمام الوعي، بحيث سيبدو وكأنه ذلك الفضاء الذي يتجاوز فيه الصوت أي ترابطات ضرورية يمكن افتراضها، أو أي ترابط مستقر ومتكرر مع ما هو خارجه.
ما هو موسيقى إذا هو فضاء تحليق الصوت المنفرد بذاته، والذي يمكنه أن يستقطب التفات العالم إلى حيث يذهب.
وبرغم أن الصوت الموسيقي هو في النهاية مجرد "حدث معاش على نحو مباشر"، إلا أنه يبدو نمطا فريدا للغاية في إطار كل ما هو معاش.
2-
كل "حدث مباشر" هو "ظهور" مصمت وممتلئ بذاته، ومنقضي في الزمان على نحو لا يسمح باستعادته، بحيث إنه ما إن يظهر حتى يتلاشى تجاه ما هو عدم، وبالتالي فلا سبيل لحفظه أو استبقائه معرفيا إلا عبر دمج تكرارات حدوثه -غير المتجانسة بطبيعتها- في ترابطات أوسع نطاقا، وأكثر تنوعا، مما يفضي إلى ظهور ما يمكن النظر إليه بوصفه "مكون معرفي كنائي" *، أي ذلك المكون الذي يضم سلسلة الوقائع المتكررة لظهور "الحدث المباشر" في كتلة مصمتة تتبدى وكأنها وحدة واحدة.

anfasse17035" الذكاء هو القدرة على الاستفادة من الخبرات السابقة في حل المشكلات الحاضرة والتنبؤ بالمشكلات السابقة" – جودارد godard
لم يقتصر التفكير الذي ينخرط ضمنه الإنسان على أدوات الإدراك وسبل المعرفة ولم ينحصر على الحواس والخيال والذاكرة والموروث بل شمل أيضا تحليل قدرات الذكاء وطرق استعمال اللغة ووظيفة الإرادة والميول والدوافع في توجيه الأفعال وتجسيم الأفكار والانتقال بها من حقل النظر إلى حقل العمل.
في هذا الصدد أين تناقش قضية صناعة الذكاء؟ هل ضمن دائرة البيولوجيا الموروثة أم ضمن التجربة الإدراكية المكتسبة؟ وهل الذكاء وظيفة نفسية أم مهارة عرفانية تتكون من تفاعل جملة من العناصر؟
إذا كانت الثقافة هي بنية مادية ومعنوية في نفس الوقت تسعى إلى السيطرة على الطبيعة وتغييرها المفيد من اجل مصلحة الإنسان عامة وإذا كانت تمثل طريقة حياة متميزة تحتوي على مجموعة من الأنماط السلوكية والمنتجات المادية والفنية فإن الحضارة هي حكم تفضيلي يرتبط بالتقدم التقني والعلمي ويقوم على نكران الغرائز والإكراه على العمل وتعمل على ضمان بقاء المجتمع واستمرار ازدهاره.
اذا كان مجتمع الوفرة يتميز بقدرة صناعية وتقنية هائلة ومستوى مرتفع من المعيشة وتركيز على القوة الاقتصادية وتحكم في السلوك الفردي والجماعي في أوقات الفراغ ضمن أداء وظيفي موحد فإن مجتمع المعرفة يتصف بالقدرة على الإنتاج باستخدام الذكاء الاصطناعي وتحول المؤسسات الحكومية إلى هيئات ذكية تعتمد على رقمنة نظم المعلومات وتمارس ديمقراطية الكترونية والتواصل الافتراضي.

anfasse11033كرس الجهد الفلسفي عبر تاريخه عملية تثمين جهود اللاإنقياد لفلسفات الشمول والركوع للفرد أو المجموعات التي تسيطر عليه تحت ظلال الدوافع الدينية أو النظرية الإنسانية؛ وأخذ هذا المسلك في التقادم عبر العديد من المفكرين الذين أسهموا بالتنظير لنزوع الفرد نحو استقلاليته الذاتية في إطار مسؤولياته الاجتماعية بحيث لا تبعثه على التصادم والاحتدام بل تقوي فعله الحرياتي في اختيار أنماط الحياة بمستوياتها المختلفة.
    يتمظهر الفرد بوصفه كائنا حرّا بأنه يحمل مشروعات حضارية وتاريخية تبعثه على التطور في الإبداع ولا يتحقق هذا إلا من خلال النظر في حالة الفرد داخل منظومة المجتمع وعلاقاته الموسعة فيه وكذا من خلال علاقته بالنظام السياسي في شكله الديمقراطي أو الشوري الذي يبدأ بأول ركيزة مهمة هي دوره في الاختيار الخادم لطموحاته المتعددة وفق ما يخدم كينونته ومستقبله.
    وهذا الحديث عن الفرد يتجاوز كينونته البيولوجية بحيث يتعمق الطرح في تباحث روابط الفرد مع الأنماط البشرية أو الأنماط الاجتماعية أين يسائل حول وجوده وقيمه وأُفقه وبأي معايير يمكن له الانخراط في المنظومة في شكلها بتركيباتها المختلفة. ومن خلال هذا نتوجه لطرح السؤال التالي: كيف يفصل الفرد بين سلطة التاريخ وذاته المستقلة؟

20170221 233343الحديث عن أقسام الوجودية يضعنا أمام مجموعة من الاعتبارات التي على أساسها نميز هذا القسم عن ذاك و هي اعتبارات عدة منها العلاقة مع الوجود الإلهي فنتحدث بذلك من جهة عن اتجاه الوجودية المؤمنة التي تضع الإنسان في علاقة مباشرة مع الله كما ذهب Karl Jaspers (1883/1969)، الفيلسوف الألماني من التيار المؤمن في الوجودية. و كذا الأديب الفرنسي Gabriel Marcel (1889/ 1973) الذي أضفى على الوجودية طابعا مسيحيا تفاؤليا. و من جهة أخرى اتجاه الوجودية الملحدة التي ترى الإنسان وحيدا مهجورا، و التي بدأت مع إعلان Nietzscheعن موت الإله ممتدة إلى Heidegger و منه إلى Sartre. و يمكن بهذا الصدد اعتبار الاتجاهين السابقين  اتجاها واحدا ضمن تقسيم آخر يعتمد معطى التأثر بالدين، فيكونان اتجاها أولا متأثرا بالدين سواء بالسلب (الوجودية الملحدة) أو بالإيجاب (الوجودية المؤمنة)، في مقابل اتجاه ثان يتحدد بمعزل مطلق عن الدين و هو اتجاه أغلب الوجوديين الفرنسيين مثل Maurice Merleau-Ponty  (1908/1961) الفيلسوف الفرنسي المتأثر بفينومينولوجيا Husserl. التي تسعى إلى تحقيق الرجوع إلى عالم الحياة الأصلي والبدئي و "العودة إلى الأشياء ذاتها".
 
تقسيم كذلك نورده له علاقة بالمنهج المعتمد للتعاطي مع الوجودية و نجد ضمنه اتجاها يقتصر على التجربة الإنسانية كما فعل "كيركجرد" حيث الوجود واقعة زمانية بعيدة عن المطلق، دون السقوط في التقوقع داخل مذهب جامد. و نجد فيه اتجاها آخر  يرمي إلى إقامة انطولوجيا وجودية من أجل بلوغ المطلق كما عند "هيدجر"  و "سارتر". و هناك تصنيف آخر باعتبار الموقف من الماهيات و الطبائع؛ فيه فلسفات تؤكد على أولوية الوجود مع حذف الماهيات و الطبائع كما يرى "سارتر"، و فيه كذلك بالمقابل فلسفات تؤكد على أولوية الوجود و لكن مع إبقاء الماهيات و الطبائع. إلا أنه رغم كل هذه الاعتبارات في تقسيم الوجودية يبقى الموقف من الدين حجر الزاوية في تصنيف الوجودية و الوجوديين.
 

anfasse24029"الوجود في العالم هو وجود من أجل-الموت، أما الوجود مع العالم فهو وجود من أجل-الحياة"
تقديم
    راهن مفكرو الحداثة وما بعدها على تحرير الإنسان، وتحقيقه ل"الرضا" بما هو صار مواطنا رضيا؛ أي بما هو صار يحيا في دولة كاملة سماها كوجيف أحيانا "الدولة المطلقة" أو "الدولة المثالية"، كما دعاها أحيانا :"دولة ما بعد الثورة" أو "الدولة النهائية"، أو كما سماها أخيرا "الدولة الكونية المنسجمة"(1). وقد نتجJ عن هذه التسمية تأويلات، انتظمت في إطار تيارات ونزعات إيديولوجية وفكرية حاولت رسم لوحة نهائية لمسيرة الكائن البشري على الأرض. الآن أخذت ألوان وخطوط هذه اللوحة تفقد نورها وحركاتها ومؤثراتها، خاصة مع الإنحطاط المتواصل للحياة، وتزايد خطر التدهور البيئي، وانتشار مرض الحقد والكراهية، أي تحول الكائن البشري إلى "مرض جلد" الأرض. لا يتعلق الأمر فقط بالإنهيار البيولوجي والإيكولوجي، بل بعلامات الإنحدار التي تتبدى في عدم الرغبة في التوافق مع الطبيعة والكون. لهذا وجب حمل هذه العلامات محمل الجد، حتى نعيد لهذا الكائن "المخيف والمقرف" ثقته بالحياة وننسج معه الإيمان بهذا العالم.

1-مهمة الفكر في عصر انتصار كوجيطو التواصل
    تنتظم ماهية الفكر في العلاقة الممكنة مع العالم وأشيائه، أي في الإرتباطات والقرانات التي تنشأ بين قوى الأرض والكون، والتي تمكن من بناء وسط  أو محيط. إن أمر التفكير لا يتعلق بأصل أو معجزة أو تعال ما، أو تاريخ خاص، بل بمجموع الشروط التي تسمح بإمكانية إبداع شيء جديد. لهذا وجب الأخذ بعين الإعتبار الشروط الحالية لإمكانية التفكير، حتى لا تتكرر تجربة مارتن هايدغر الذي أخطأ الشعب والأرض والعنصر(2). فأن نفكر يقول جيل دولوز، معناه أن نجرب، لكن التجريب يفيد دائما ما هو في طور الإنجاز، أي الجديد والمهم والمثير، تلك الصفات التي تأتي بديلا عن ظاهر الحقيقة وتعتبر أكثر تطلبا منها(3). فالتجريب له علاقة قوية بالراهن، لكن الراهن لا يتحدد بما نحن عليه وإنما بالأحرى بما نصيره، أو نحن بصدد صيرورته، أي الآخر، أي صيرورتنا-آخر، على حد تعبيرميشيل فوكو. لذلك يصير موضوع  التفكير ليس هو التأمل في الأبدي، ولا في تفكر التاريخ، ولكن في فحص الصيرورات الراهنة، وفي القدرة على قلب الصورة التقليدية للفكر، وابتكار أنماط وجود جديدة ومحايثة. إن التفكير يهتم بالأمور المهمة والبارزة والمثيرة التي تحدث فعلا، فيصير الإبداع أهم بكثير من المعرفة والتواصل. يبدو أن اكتساح ظاهرة العولمة للأرض وإلغاء الحدود، جعل "آثينا القديمة" تتحول من "سوق عالمية" في ضواحي الشرق، إلى سوق عالمية تتميز بالشمولية، الشيء الذي ألحق انقلابا بمعنى الفكر والتفكير. لهذا أكد دولوز وبلانشو وماسكولو على أهمية التغير الذي أصاب الفكر؛ إذ لم نعد إغريقيين أبدا ولم تعد الصداقة تفيد الشيء ذاته الذي كانت تفيده عند الإغريق.

anfasse24023سنحاول الحديث عن مفهوم الإرادة عند أبي نصر الفارابي، حيث شكل مفهوم الإرادة موضوعا للنظر الفلسفي من أجل فهمه وتسليط الضوء عليه، وتعتبر مساهمة المعلم الثاني (275-339هــ) في هذا السياق من المساهمات البارزة في الفلسفة الإسلامية، ولقد جاء تصوره لمفهوم الإرادة عبر استلهامه للتراث الفلسفي الإسلامي، وكذا عبر معايشته لواقعه. وسنقسم عملنا هذا إلى قسمين: في القسم الأول سنقف عند التحديدات الفلسفية التي قدمها الفارابي لمفهوم الإرادة. كما سنخصص القسم الثاني للبحث في العلاقة القائمة بين الإرادة والقوى الإنسانية الأخرى.

إن مفهوم الإرادة لم يحظ، في تقديرينا، بالرغم من أهميته، بعناية المشتغلين في حقل الفلسفة الإسلامية، بحيث لم تنشر، في حدود علمنا، أي دراسة متخصصة، تحمل مباشرة مفهوم الإرادة عند أبي نصر الفارابي، باستثناء العمل الذي قام به الدكتور سعيد البسكلاوي، والذي تناول من خلاله مفهوم الإرادة في الفلسفة العربية المشائية، وقد عالج في هذا العمل مفهوم الإرادة، كما تصوره الفلاسفة المحسوبون على التيار المشائي، ولن يعالج المفهوم عند فيلسوف بعينه.

إن غياب الدراسات التي تصب في الموضوع الذي حاولنا الاشتغال عليه، كان من جهة معينة عاملا إيجابيا مكننا من التحرر من آراء الدارسين ومباشرة نصوص الفارابي وآراءه المنبثة في ثنايا أقيسته المنطقية المتماسكة والمنسجمة  والنسقية، والتي تحتاج إلى بذل جهد حقيقي للكشف عنها وإخراجها إلى دائرة الضوء، لكن في ثوب محيطها النظري حتى لا تعزل عن سياقها الأصلي.

anfasse17023الترجمة:
" يتعارض العلم ، في حاجته للاكتمال مثلما في مبدئه، بشكل مطلق مع الرأي.لو يتأتى له ، في نقطة معينة ، أن يُضفي المشروعية على الرأي ، فإنه سيكون من أجل أسباب أخرى غير تلك التي تؤسس الرأي: بحيث يظل الرأي دائما، من جهة الحق، على باطل. الرأي يفكر بشكل سيئ ، انه لا يفكر بتاتا: انه يترجم حاجات إلى معارف.  بالنظر إلى تعيينه المواضيع من جهة فائدتها يمنع نفسه عن معرفتها. لا يمكن للمرء أن يؤسس أي شيء على الرأي ، يجب في البداية أن يحطمه. انه العائق الأول الذي يجب تخطيه. فقد لا يكون كافيا مثلا إصلاحه في نقاط محددة،  مع المحافظة على معرفة مبتذلة ومؤقتة، مثل نوع من الأخلاق المؤقتة. تمنعنا الروح العلمية من أن يكون لنا رأيا حول الأسئلة التي لا نفهمها، حول الأسئلة التي لم نتمكن من صياغتها بشكل واضح. قبل كل شيء ينبغي أن نعرف طرح المشكلات. ومهما يقولون، لا تطرح المشاكل، في الحياة العلمية، من تلقاء ذاتها. انه بالتحديد هذا المعنى من المشكل الذي يوفر علامة حقيقي بالنسبة للفكر العلمي. كل معرفة، بالنسبة للروح العلمية، هي جواب على سؤال. لو لم يوجد سؤال، فإنه لا يمكن الحصول على معرفة علمية. لا شيء واضح. لا شيء معطى. كل شيء مبني."
 (غاستون باشلار ، تكوين الروح العلمي، 1938، طبعة فران، باريس، 1969،ص14.)

anfasse02031تمهيد:
" من المفيد جدا ، بالنسبة لمن يريد بلوغ الحكمة، أن يكون عقله قد انشغل لبعض الوقت بصورة الانسان الشرير والفاسد بشكل جذري"1[1]
لقد ارتبط السؤال عن المنزلة التي تحتلها الحقيقة في المعرفة العلمية في معظم الأوقات بالتصور العام للواقع الذي يتم التعارف عليه من طرف العقل من ناحية والتفسير المنهجي للطبيعة من ناحية أخرى.
لهذا السبب يبدي التساؤل عن الحقيقة الكثير من التحفظ ويضع جملة من المحاذير أمام كل تعميم متسرع وضد الأحكام الفضفاضة والمواقف الإطلاقية ويحصر اهتمامه بالأطر المختصة وضمن الميادين الدقيقة.
لقد ألهم التفكير في الحقيقة العديد من التأملات الفلسفية، وذلك لالتباس هذا المفهوم وعسر التعرف على ماهيتها وكثرة المناهج التي تزعم البحث عنها. إذ يمكن من جهة الحديث عن قضية صحيحة ولكن يمكن في المقابل الحديث عن صدق مضمونها في إشارة إلى صلة المعرفة بين الأشياء والمثل التي تتجه نحوها.
مفارقة الكذاب الذي عندما يقول : أنا أكذب ، يكون قد قال الحقيقة ، وعندما يقول الحقيقة فإنه يكذب.
لقد تعارض اتجاهان حول تحديد طبيعة الحقيقة ، الأول هو الاتجاه الواقعي الذي يعرف الحقيقة بوصفها تطابق الفكر مع الشيء وذلك بوساطة العقل الإلهي بين العقل البشري والعالم الطبيعي، الثاني هو الاتجاه المثالي الذي يعرف الحقيقة سواء من خلال اتفاق العقول أو بواسطة معيار داخلي يوجد فيها ويسمح بأن تكون عنصرا ضمن مجموع من الحقائق الأخرى في علاقة نسقية على المستوى المعرفي والأنطولوجي2[2].