استهلال:
" الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية" - ألبرت أينشتاين-
لقد درجت الفلسفة منذ القديم على تهميش الخيال والنظر إليه بازدراء وتحقير على مستوى المعرفة وعلى مستوى الوجود. فقد وضع جنب إلى جنب مع الحس والظن واعتبرت المدركات الخيالية خالية من كل معنى ودلالة وقريبة من الوهم واللاّحقيقة والدرجة الصفر من المعرفة. كما وقع التعامل مع الوجود الخيالي بوصفه اللاّوجود وبصورة أخرى الوجود الشبهي وذلك لتضاده مع الوجود الحقيقي والواقعي.
هذه النظرة الميتافيزيقية للخيال ساهم في تشكلها تنزيل العقل منزلة السيد المطلق وتفضيل لغة المفهوم ومنزع التجريد على الإنصات إلى دروس التجارب والرجوع إلى الوقائع الخام والاحتكام إلى لغة الحياة. كما نظر الحس المشترك إلى الإنسان المتخيل نظرة سلبية واعتبره غارقا في أوهامه تقوده تمثلاته وتهيئاته وخواطره ولا يقودها ويوجد دائما خارج ذاته وبعيدا عن الواقع ومبحرا في عوالم وبحار غريبة.
لئن أنهت الفلسفة النقدية عند عمونيال كانط رحلة العذاب الذي عاشتها ملكة الخيال طوال تاريخ الأنساق الأنطولوجية التقليدية وميزيت بين الخيال التكراري والخيال المبدع وأسندت إلى الخيال المتعالي مهمة التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة الحسية تحت توجيه أفكار العقل فإن المقاربة الفنومينولوجية قد أعادت الاعتبار لهذه التجربة الإدراكية وسلكت هذا السبيل للإطلالة على الزمان والوجود في العالم.
العلوم الإنسانية بنظرات فوكو ـ جواد اكريعة
خلص مشيل فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء) إلى نتيجة حزينة، يقول فيها: «ليس الإنسان هو أقدم مشكل طرح أمام المعرفة البشرية، وليس هو المشكل القائم باستمرار. فإذا ما قمنا بتحقيب زمني قصير نسبياً، وبتقطيع جغرافي محدود نقصد الثقافة الأوربية خلال القرن السادس عشر يمكن أن نجزم بيقين أن الإنسان هو ابتكار حديث. إذ لم تكن المعرفة تدور ولو بشكل غامض حول هذا الإنسان ولا حول أسراره، منذ أمد بعيد […] فحفريات فكرنا تظهر بأيسر تأمل أن الإنسان هو ابتكار يعود إلى تاريخ حديث، وقد تكون نهايته قريبة"[1]). فقبل نهاية القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان وجود، رغم أن علم النحو، والتاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات […] كانت كلها أشكالاً وصيغاً تعترف بالإنسان. بيد أن الوعي الإبستيمولوجي بالإنسان كموضوع للمعرفة، كان غائباً تماماً.
في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، هيأت علوم البيولوجيا واللغة والإقتصاد، التربة لطرح هذا السؤال: ما هو الإنسان؟ وفي الحركة العميقة لهذه الطفرة الأركيولوجية نشأ الوعي الحديث بالفرد الحي والمتكلم والعامل ، فكان ذلك إيذانا بميلاد الإنسان كذات عارفة وكموضوع للمعرفة.
الإرهاب من تعفّنات الهويّة إلى فخاخ العولمة ـ الصّحبي بوقرّة
"إنهم يخرقون قواعد اللعبة عندما يصبح الموت هو رهان اللعبة، وبذلك فالقواعد الجديدة للعبة ليست ملكنا.إننا نسعى الى أن نحمّل الإرهاب أي معنى، وأن نعثر له على أي تأويل، لكنه خلو من المعنى، ووحدها جذرية المشهد، ووحدها قساوة المشهد هي المبتكرة، والمتعذر تبسيطها. إن مشهد الإرهاب يفرض إرهاب المشهد "
جان بودريار: ذهنية الإرهاب- لوموند 3 نوفمبر2001
مقدّمة: الإرهاب مفهوم خارج السياق:
ارتبطت دلالة الإرهاب بسياقات ومعاني مختلفة إلى حدّ التناقض، الأمر الذي دفع البعض لاعتباره فعلا مُقاوما أو شكلا من أشكال النضال، إذ هو عندهم فعلٌ جهاديّ أصيل" يُرهبون به عدوّ اللّه وعدوّهم"، الأمر الذّي دفعهم للتعامل معه كاستراتيجيا دفاع تنتصر للحقّ والمُقدسّ وتدافع عن الحقيقة والدين. وهو عند البعض الآخر فعل إجراميّ يحيل على همجيّة وبربريّة ثقافة ما، الشيء الذّي دفعهم للتشكيك في إمكانيّة الحديث عن انتساب القائمين بهذه الأفعال لما يسمّى ثقافة. الشيء الذّي دفع البقيّة الباقية تلافيا لاستفزاز هذا البعض أو لإحراج البعض الآخر، إلى اعتماد إهمال التعريف كاستراتيجيا وقائيّة، والاكتفاء بتفسير هذه الظّاهرة أو التفكير في مسوّغاتها، بدعوى الموضوعيّة والحياديّة. في حين أنّ الاشتغال على المفهوم أمر لا مفرّ منه إذا كنّا فعلا نطلب الموضوعيّة والحياد، بل تجنّب الخوض في مسألة التعريف هو في الجوهر موقف موغل في الذّاتيّة والانحياز.
سلافوي جيجيك والميثاق الليبرالي ـ ادريس شرود
"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.
اللغة بيت الوجود: تصور مارتن هيدجر للغة ـ رشيد إيهُــومْ
يعتبر تصور مارتن هيدجر للغة من بين أهم وأعمق التصورات التي اهتمت بمفهوم اللغة وحاولت الكشف عن ماهيتها ،بعيدا عن التأويلات الميتافزيقية التي سادت التفكير الغربي منذ أفلاطون .وبدأ اهتمام هذا الفيلسوف باللغة منذ سنة 1916 ضمن أطروحته للدكتوراه حيث تناولها في الإطار العام لمشكل المقولات المنطقية التقليدية.سيستأنف هيدجر مقاربته للغة في مؤلفه الأهم الوجود والزمان الصادر سنة 1927حيث سيعتبرها كنمط من أنماط وجود الدازين. وفي مرحلته الأخيرة أي بعد المنطعفKehre فكر أكثر في ماهية اللغة. ولنرى كيف قاربها في كتابه الوجود والزمان:
إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة أو القول الذي هو تحديد عيني للكلام وبه يعبر عادة. وبدون اللغة لن تكون الأشياء أبدا هي ما هي عليه، ذلك أن اللغة هي التي تستدعيها وتعطينا القدرة على استدعائها كما يوضح ذلك هايدجر في كتابه الوجود والزمان"إن الكلام ينبغي أيضا ان تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم عل نحو مخصوص.إن مفهومية الكينونة-في-العالم- وفق وجدان ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام" (1). وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح لنا العالم،لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وأن نتوجه بالخطاب إلى الموجود بما هو موجود. وكل ماهو كائن لايمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة". وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأن هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبر عن نفسه." إن اللغة هي بيت الوجود" الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه.
والحوار هو الكلام الذي يتم فيه التعبير باشتراك الغير.وبالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية.أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا. يقول هيدجر: " ينبغي أن تفهم ظاهرة التواصل، كما قد أشير بعد إلى ذلك أثناء التحليل، في معنى أنطولوجي واسع. إن التواصل بالقول، البلاغ مثلا، هو حالة خاصة من التواصل المدرك في أساسه على نحو وجوداني. ففي هذا الأخير يتشكل تمفصل الكينونة- الواحد-مع- الآخر الفاهمة. وإنما هو الذي ينجز "اقتسام" الوجدان- معا وفهم الكينونة-معا. ليس التواصل أبدا شيئا من قبيل نقل التجارب المعيشة، مثلا نقل آراء وأماني من باطن ذات ما إلى باطن ذات أخرى." (2)
مواقف من الترجمة ـ ادريس شرود
تقديم
هناك إجماع حول أهمية الترجمة في حياة الشعوب والأمم، ودورها في التقريب بين الحضارات والثقافات وتفاهمها. لذلك نلاحظ تزايد الإهتمام بالترجمة، سواء من طرف أفراد ذاتيين أو مؤسسات رسمية. لكن عملية الترجمة تطرح إشكالات حقيقية حول دوافعها ومقتضياتها وغاياتها، الشيء الذي جعل منها قضية فلسفية. تجلى ذلك في النقاشات والجدالات التي ركزت حول أسئلة الأمانة والخيانة أثناء الترجمة، و الترجمة النهائية والنسخة طبق الأصل، واستعداد لغات لاستضافة نصوص ومتون لغات أجنبية متعددة ومختلفة. لكن ما يثير في قضية الترجمة، هو الهوة الفاصلة بين إعداد نصوص وكتب، وطبيعة التفاعل معها والتفكير بها، لا أقصد هنا القارئ فقط، بل المترجم ذاته. لهذا لا أستسيغ مقدمات وإهداءات وتعليقات عدد من المترجمين، التي تستبق عزيمة القارئ، لتذكره بهويته وثقافته وأخلاقه، وبتفوق حضارته وأبطالها، وبالتالي تقطع الطريق أمام قيام أي تفاعل أو توظيف أو إعمال فكر.
سأحاول في مقالتي هذه، إثارة ثلاث مواقف من الترجمة، وهي كالتالي: موقف الكاتب المترجم عبد السلام بنعبد العالي من المغرب، وموقف الأستاذ المترجم فتحي المسكيني من تونس، وموقف الأديب المترجم فيليكس فارس من لبنان.
عبد السلام بنعبد العالي: زهو الفكر في ازدهار الترجمة
في كل مرة يتناول فيها عبد السلام بعبد العالي قضية الترجمة، تجده متحمسا لسرد فضائلها البيداغوجية والتربوية والفلسفية، بل يجعل من الترجمة قضية الفلسفة. ففي كتابه "في الترجمة"، يؤكد على أن قضية الترجمة هي بلا منازع قضية الفلسفة...، هي هم الفكر في محاولته لإعادة قراءة تراثه وتجاوزه(1). فبالترجمة يتم تحويل النصوص والمتون، الشئ الذي يضمن حياتها وحياة اللغة والفكر في نفس الآن. وهي ما ينفخ الحياة في النصوص وينقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغة إلى أخرى(2). وبهذا المعنى، تصير الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق، وإقحام الآخر في الذات، ووسيلة انفتاح وتحرر(3).
موت الفلسفة وحياتها ـ هادي معزوز
ليست الفلسفة ترفا كما يعتقد عامة القوم، بقدر ما أنها ليست فكرا أضحى من التراث الإنساني كما يرى بعض النقاد، لا وليس الفكر الفلسفي أداة نستعملها متى شئنا ثم نرفضها عندما نريد... إن أول إساءة للفلسفة كفكر تتجلى في اعتبارها تطاحنات فكرية أو عبارة عن أقاويل تسبح في بحر من المتناقضات التجريدية المحضة، بينما اعتبرت الفلسفة وعلى مر العصور تثمينا لمجهودات فكرية وعلمية وأدبية، وتتويجا لعصارة حضارة بعينها، الفكر الفلسفي فكر راق جدا، من ثمة كان من الصعب استيعابه لدى الحضارات التي لا تؤمن بتحرير العقل، ومنه فثقافة العبيد هي من عملت دوما على الحط من قيمة الفلسفة، هذا وإنه ليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بقدر ما أنها تصور واقع ونمط وبنية تفكير كل ثقافة وكل فرد.
إن كل رافض للفلسفة إنما يرفض ضمنيا روح النقد، وحس المغامرة الفكرية، وتحرير العقل من التبعية والقصور الفكري، هذا علما أن نفس الفكر ليس بمثابة بضاعة قد نختارها أو نرفضها وفق اختياراتنا، ومنه فبدل أن تضعنا الفلسفة بين الرفض والقبول، يمكن أن تسقطنا في ثنائية الخوف والإقدام، الفلسفة إقدام وشجاعة، إنها انفلاتات الفكر نحو التأسيس لفكر آخر، وبناء للهوية كاختلاف وليس كثبات، وتقويض للنموذج الواحد لصالح النماذج المتعددة، وخلخلة للمركز نحو العودة إلى الهامش، ودحض للخطاب الوحيد نحو الخطابات المتعددة، وتفكيك للنص المستبد لصالح النص المنفتح المتغير، وهدم للطمأنينة إرساءً لمنطق الانتقال والترحال نحو المجهول، ربما لهذا الأمر يخاف منها المفكر التوتاليتاري، مثلما يتوجس منها العاجز عن التفكير، وبقدر ما يرتعب منها حارس وقاضي الفكر، بقدر ما توقظ مضجع الجاهل فكريا، ومنه فقد توجب التذكير بأنه كلما عم الجهل غابت الفلسفة، وكلما ساد التخلف كنا بحاجة إليها، وكلما حلمنا أكثر كلما كان حضورها أكبر.
العدالة عند باسكال: القوة (ملكة العالم)، و المخيلة ، و العادة ـ حميد الساكر
من النافل القول بادئ ذي بدئ، أنه لا يمكن أن نفصل الآراء السياسية لباسكال عن سياقها التاريخي_السياسي الذي أنشأها، و تأسيسا على ذلك، سنعمل في الجملة الأولى من هذا القول على استعراض هذا السياق، على أن نتحرى في ذلك أوجز القول و أخصره، لنصرف الاهتمام في الجملة الثانية لاستعراض آراء باسكال السياسية من خلال "الخواطر"، و المرتبطة هاهنا بالمفاهيم السالفة الذكر، على أن نعمل في الجملة الأخيرة على بلورة خلاصة ممكنة لهذا القول.
إذا كانت الحرب المدنية هي أسوء المآسي بالنسبة لباسكال، فذلك يمكن أن يرد ، بشكل جزئي، إلى أن أحزمة البنادق قد احتدمت ما بين (1648-1652 ) ،كما أنه إن كان يدافع بمرارة عن الأخلاق المسيحية، فلأن " لويس 14" ، بدعم اليسوعيينJésuites، حارب "بوررويال" الذي كان يُتصور كمكان للنقاد وللعداء، و للاستقلال المطلوب ضدا على سلطته الشخصية المطلقة.[1]
من جهة أخرى، هناك كتابين اثنين أثرا بشكل كبير في باسكال: " المحاولات"Essais" لمونتين، و بالخصوص[ " الدفاع عن "وريمون سبوند"Raymond Sebond ]، و" مدينة الله" للقديس أوغسطين. الأول، يذهب إلى أن القوانين و العادات هي نسبية و مستقلة عن كل عقلانية، ذلك أن " مونتين" يندرج ضمن تيار الشكوكيين الجدد « Néosceptique »لعصره، الذي يعيد التساؤل حول الوصية الأرسطية، المتمثلة في اكتشاف عالم جديد و حروب الأديان[2]، أما الثاني؛ فيعيد فكرة أن المدينة الحقيقية الوحيدة هي المدينة المسيحية، أي مدينة الله.
مفهوم الحقيقة عند تشالز ساندرس برس : الحقيقة المجتمعية ـ مفتاح محمد
تمهيد :
حينما يريد الباحث أن يشخص مفهوم الحقيقة عند ش. س. برس فإنه يقع في مسالك ضيقة نظرا لأن هذا المنطقي والرياضي والميتافيزيقي متعدد الأبعاد متنوع التفكير كثير الكتابة، فإذا أجمع الباحثون على أنه أهـم فلاسفة أمريكا في العصر الحديث، أو على الأقـل من أهمهم فإنـهم لا يتفقون في تشخيص آرائه وإثبات تماسكها وانسجامها.
إلا أن ما كاد الرأي يستقر عليه هو أن برس تَبَنَّـى موقفا نقديا مناوئا للميتافيزيقا التقليدية، وأنه هو مؤسس المذهب الذرائعي أو الذرائعاني، وخصوصا في أعماله الأخيرة، مع التنبيه إلى أن تحقيب تفكيره يختلف من باحث إلى آخر. على أن كثيرا من الآراء تميل إلى أن برس يتميز تفكيره الذي صاغـه فيما بعد 11907عما قبل هذا التاريخ، وما دام إشكالنـا هو البحث عن الموقف من ميتافيزيقيا الحقيقة فإننا سنَتَبَنَّـى هذا التقسيم. وسندعو المرحلة الأولى بالاسمية، والمرحلة الثانية بالواقعية مع التسليم بامتداد تفكير المرحلة الأولى في المرحلة الثانية.
I ـ المرحلة الاسمية
يمكن اعتبار هذا التحقيب قسمة كبرى يحتوي كل طرف منها على حقب صغرى. وهذا ما فعله كثير من الباحثين. ولـهذا رصدت ثلاث حقب أساسية :
1 ـ الحقبة الأولى:
الحقبة الأولى هي الكانتية (1855 ـ 1870) حيث راجع فيها المقولات الكانتية مثل العلاقة والكمية والكيفية، والجهة، وهي مقولات مستمدة من المنطق الأرسطي القديم، وهي تتشاكل مع الكلية، والإثبات، والجزم، والإمكان. ولكن مراجعته بقيت ضمن الإطار المنطقي الأرسطي فأبقى على مقولة العلاقة ومقولتي جهتي الإمكان والضرورة، ومقولة الشـيء في ذاته، ولكنه رفض مقولة الجزم، ومهما يكن فإن "كانت" مـن أهم المؤثرين في برس الذي كان يخصص ساعات عديدة مدة سنـوات لمدارسة نقد العقل الخالص، حتى كاد يحفظه2.وتبنى أطروحة "كانت" المركزية التي تدعي: أن "وظيفة الوعي هي اختزال تعدد الانطباعات الحسية إلى وحدة"3.
عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21 ـ عبد الرزاق الدواي
يا "إلهي، ما أروع هذا القرن الذي أراه ينفتح
أمامنا،كم أتمنى فيه لو يعود إلي شبابي… !".[1]
إنـها صيحة إعجاب بالقرن الجديد أطلقها المفكر الإنساني الهولندي إرازم (Erasme, 1469-1536)، في مستهل القرن السادس عشر. وهي تعـبّر بوضوح عن مدى افتتان المفكرين في عصر النهضة بعصرهم وشعورهم بأنـهم يشاركون بالفعل في مغامرة مثيرة وفريدة من نوعها تقدم عليها البشرية بفضل ما تحقق من تقدم آنذاك على صعيد الفكر والفن والثقافة والمعارف. ترى هل يستقبل المفكرون والفلاسفة اليوم تباشير القـرن الجديـد الذي ينفتح أمامنا بنفس الحماس والإعجاب والتفاؤل ؟
ولا نظن أن حالة إرازم تشكل حالة استثنائية فقد وجد في جميع العصور مفكرون وفلاسفة آمنوا بأن حكمة جديدة ستنبثق في الفكر الفلسفي للمستقبل، وتنبأوا باحتمال حدوث "انطلاقة جديدة" للفكر وللفلسفة استنادا على ما حدسوه من خلال استقراء وتشخيص نقدي لحـال الفلسفة في عصورهم، ذلك الحال الذي غالبا ما يكون من ثوابته بداية ظهور علامات تصدع في المنظومات الفلسفية الكبرى المهيمنة. ويمكن أن نذكر في هـذا السياق مثلا الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ (1804 ـ 1872) الذي كتب سنة 1843 "مبادئ فلسفة المستقبل"، ويتعلق الأمر بكتاب يضم خلاصة مصاغة على شكل مبادئ لأهم المآخذ والإنتقادات التي وجهت إلى المذهب الفلسفي المثالي عند هيجل، وكانت قد بدأت تظهر عليه أعراض التفكك. والفكرة الناظمة للكتاب هي أن الفلسفة الجديدة ستجدد المذهب المادي وتغنيه؛ وستجعل من الإنسان والطبيعة الموضوع الوحيد والكلي والأسمى للفلسفة؛ وإنـها ستنظر إلى الإنسان لا باعتباره كائنا عاقلا ومفكرا فحسب بل باعتباره أيضا كائنا طبيعيا وحسيا ؛ كما أنـها ستعلي من قيمة المحبة والمشاعر والعواطف الإنسانية وستكون نزعة إنسانية جديدة.[2]
مفهوم الجسد وانفعالاته في فلسفة سبينوزا ـ ادريس شرود
يحتل الجسد في فلسفة باروخ سبينوزا موقعا مركزيا، فرغبته في تكوين فكرة عن الطبيعة البشرية، دفعته إلى الإنخراط في عمل فلسفي رائد يهم معرفة الجسد وما يقدر عليه. فالإنسان حسب سبينوزا، يتكون من نفس وجسم، وهو موجود كما نحس به، كما يتعذر علينا الحصول على فكرة تامة ومتميزة عن هذا الإتحاد إذا لم نعرف قبل ذلك طبيعة جسمنا(1). لذلك دعا سبينوزا إلى ضرورة السعي إلى المعرفة الدقيقة بتركيب الجسد، واكتساب معرفة تامة وكاملة بانفعالاته، وتنظيمها وترتيبها وفق نظام ملائم للذهن.
طبيعة الجسم البشري
يعرف سبينوزا الجسم بمقدرته على التأثر بعدد أكبر من الأوجه، وبالتأثير في الأجسام الخارجية بعدد أكبر من الأوجة...، وكلما كان للجسم قابلية من هذا النوع، كانت النفس أقدر على الإدراك(2). تشير عملية التأثير والتأثر إلى طبيعة الجسد من حيث مقدار قوته وكمية شدته، وإلى خاصية الحركة أو السكون والسرعة أو البطء التي تميزه، ومدى استعداده لإقامة علاقات ممتدة في الزمان مع الأجسام الأخرى.
يشدد سبينوزا على كل ما يحافظ على نسبة الحركة والسكون والسرعة والبطء التي تربط بين أجزاء الجسم البشري، في علاقته بذاته وبالأجسام الخارجية. فكل ما يحافظ على نسبة الحركة والسكون التي تربط بين أجزاء الجسم البشري إنما هو حسن، وكل ما يغير من نسبة الحركة والسكون بين أجزاء الجسم إنما هو سيء(3). ويترتب عن هذا التحديد السبينوزي للجسم البشري، استبعاد تميز الأجسام من حيث الجوهر. فالجسم البشري، يقول جيل دولوز بصدد سبينوزا، لا يتحدد بواسطة جنسه أو نوعه، أو بواسطة أعضائه ووظائفها، وإنما بواسطة ما يكون قادرا عليه، وبواسطة العواطف التي يكون قادرا عليها، سواء كان ذلك في الإنفعال أو في الفعل. لهذا ينبغي، جعل الجسد قوة لا تختزل في الجهاز العضوي، وجعل الفكر قوة لا تختزل في الوعي(4).