تمهيد عن المفهوم الأولي للخيال:
على الرغم من أن الشعراء في الجاهلية وما بعدها، كانوا يعزون مصادر إبداعهم إلى كائنات غير إنسية (جن، شياطين) توحي لهم بالكلام الشعري، فإنهم لم يكونوا ليركزوا على هذه المظاهر وتنظيرها. لم تكن إشاراتهم تلك، سوى محاولة لتفسير غوامض التكوينية الإبداعية الخيالية لديهم بنفس مقاييس الذوق السائد على مستوى بنيات التلقي وتناولية الخطاب الشعري. بل إن ذلك قد يدخل، فقط، في باب "الميتولوجيا الشخصية" للشاعر؛ لم يكن هو ذاته ليحفل بها ويتأملها أكثر من الإشارة إليها عابرا؛ أمام سيادة الوظيفة الاجتماعية والثقافية للشعر ومقتضيات الإنتماء القبلي للشاعر.
لذلك، لم يتبلور التفكير النظري في الخيال بما هو آلية اشتغال للخطاب الشعري. ولم يكن للفظ "الخيال" سوى معناه المعجمي المتداول؛ والذي يدل على توهم شيء غير موجود أصلا. أما الشعر، فإن له وضعه المعرفي المتميز ولم يكن ممكنا ربطه بالخيال كوهم لأن الشعر كان "علم قوم لم يكن لهم علم غيره" كما يتواتر عن عمر بن الخطاب.
مقابل الإنصراف عن الاهتمام بالجانب التخيلي الذي يحيل مباشرة على إنتاج خطاب ما وراء إبداعي؛ أي ميتافيزيقا للخطاب الشعري، انصب التركيز في المراحل الأولى للشعرية العربية القديمة، على المعطى المادي والحسي والمعيش للنص الشعري؛ أي صنعته وبناءه ودرجة تأثيره في المتلقي وكذا قدرته على تبليغ رسالته ضمن الشروط المتحكمة في المجال الذهني والثقافي للإنسان العربي، ذي البناء القبلي أساسا.
ونجد استعمال كلمة "خيال" في بعض نصوص الشعراء الجاهليين، بمعنى الشيء المدرك في غيابه وخاصة في المقاطع الغزلية حيث يشير إلى "طيف" المحبوبة يقول طرفة بن العبد(1):
فقل لخيال الحنظلية ينقلــــب إليها، فإني واصل حبل من وصل
سما لك من سلمى خيلا ودونها سواد كثيب، عرضه فامايلـــــــه
شعر الأطفال في التّراث العربي القديم : الترقيص والهدهدة ـ يوسف عمر
مدخل:
يكاد يجمع الباحثون على أنّه لا وجود لشعر مكتوب للأطفال في تراثنا العربي فليس فيه ''ما يمكن أن نسمّيه: أدب أطفال. ويبدو أنّ الصّغار كانوا يتداولون القصص والحكايات الشّعبية التي يتناقلها الكبار، وما (ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة) إلّا حكايات وضعتها مخيّلة القصّاصين لأبناء الشّعب في عهود كان فيها الشّعب قليل المعرفة، يؤمن بوجود الجنّ والعفاريت ويجد متعة في أخبار الكنوز المطمورة والقصور المسحورة، التي تنقله إلى عالم خيالي رحيب ينسيه مرارة الواقع ومتاعب العيش''[1] غير أنّ هذا التّراث يحتوي على ما سمّي ''بشعر ترقيص الأطفال، وهو ليس مكتوبا من أجل أن ينشده أو يحفظه الأطفال بل هو شعر مكتوب بإيقاع راقص، يناسب من يرقِّص الطّفل، فيعبّر عن عاطفته من ناحية، ويؤثّر في الطّفل بالصّوت والحركة المرافقة للغناء''[2] حيثّ صُبّ هذا النّوع الشعري في قالب الرّجز، وتشكّلت نواته شفويا على ألسنة الجدّات والأمّهات في الأدب الشّعبي، فكان له ''دوره الحيوي في تكوين الشّعور الوجداني للطّفل. إذ إنّ تأصيل العلاقة المميّزة بين الأدب والطّفل تقوم على مدى قدرة الفنون الأدبية في التأثير على الطّفولة كوسيلة وغاية''[3] لذلك جاءت أدبيات الطّفل المتناثرة في كتب التّراث العربي أجل تحقيق الوظائف التربوية والجمالية واللّغوية لهذا اللون الشّعري. وقد تفطّن القدامى إلى أنّ الطّفل يجد راحته مع الأناشيد والأغاني الخفيفة، فيطرب ويهتزّ مع وقع صوت الجدّة أو الأم وهي تلقي تلك المقطوعات الخفيفة.
تودوروف أو الدفاع عن الأدب إلى أبعد مدى ! ـ الصادق بنعلال
" إن معرفة الأدب ليست غاية لذاتها ، و إنما هي إحدى السبل الأكيدة التي تقود إلى اكتمال الإنسان . و الطريق الذي يسلكه اليوم التعليم الادبي الذي يدير ظهره لهذا الأفق ، يجازف بأن يسوقنا نحو طريق مسدود " : تزفيتان تودوروف ( 1.3.1939 / 7.2.2017 )
ما فتئ المؤلف النقدي “الأدب في خطر ” للكاتب الفرنسي” تزفيتان تودوروف “يثير اهتماما ملحوظا وملفتا، لدى المشتغلين في المجال الأدبي والمعرفي على وجه العموم، وذلك لما استعرضه من قضايا محورية ذات الصلة بالشأن الثقافي والبيداغوجي، وللنظرة المتجددة التي حملها كاتب طالما أغنى المكتبة الأدبية العالمية بدراسات نقدية بالغة الأهمية، اتخذت من البنيوية والمقاربة الشكلانية منطلقا لمساءلة منطوق النص الإبداعي، واستجلاء محدداته الأدبية المخصوصة. وعلى الرغم من صغر حجم المؤلف قيد المعاينة “الأدب في خطر” الصادر سنة 2007 عن دار فلاماريون، إلا أنه أحدث رجة غير منتظرة في ميدان الإبداع والنقد الأدبيين، أعادت الاعتبار من جديد للقول الأدبي المسكون بهاجس البحث والسؤال عن الإنسان في الأدب بحصر المعنى!
1- ماهية الأدب و ... رسالته :
ومهما تنوعت تعريفات الأدب عبر مختلف العصور والثقافات الإنسانية المتنوعة ، يظل في المحصلة الأخيرة ذلك التعبير اللغوي الجمالي عن جوهر الإنسان وتطلعاته وأحلامه وحقيقته الأزلية ، إنه بوتقة تنصهر فيها مختلف المعارف البشرية الحاملة للقيم المثلى من خير وحق وجمال.. مما يستدعي في أي مقاربة نقدية للنصوص النثرية والشعرية إطارا مرجعيا ومفاهيميا ، يؤلف بين الجديد في عالم الألسنية والمناهج الأدبية الحديثة، وبين الرؤية الإنسانية العميقة، والمدركة للرسالة الأدبية الرفيعة للأدب؛ رسالة البوح بكينونة الإنسان في الزمان والمكان. وما من شك في أن الأعمال الأدبية العظيمة منذ اليونان فد لعبت دورا مفصليا في التمهيد لبناء الحضارات والرقي بالأفراد والمجتمعات.. فكيف يجوز الاقتصار على النظر إلى المنجز الأدبي العظيم داخل “محبس″ شكلاني محكم الانغلاق، وإهمال إيحاءاته اللامتناهية ومحتوياته الرؤيوية غير المحدودة!؟
مملكة الإسلام من خلال الأدب الجغرافي العربي ـ عبد الحق بلقيدوم
مقدمة:
احتلت الحضارة الإسلامية(*) مكانة مرموقة بين الحضارات العديدة التي عرفتها البشرية، تبوأتها بما أسهمت به على مدى تاريخها الطويل في تطوير الفكر والعلوم والآداب، وكل النشاطات الإنسانية التي أدت إلى تحسين حياة الإنسان. ومثَّل هذا الإسهام نصيبا وافرا وأساسيا في تراث الإنسانية، كان إشعاعه في بيئته العربية الإسلامية، وامتد تأثيره إلى غيرها من البيئات الأخرى(1).
لم تبلغ هذه الحضارة ما بلغته من المجد إلا بمجيء الإسلام، بمبعث النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) سنة (622م) في قلب الصحراء العربية(2)؛ إذ لم يكن للعرب قبل هذا الحدث ذكر ذو شأن في التاريخ، أو موطئ قدم بين الأمم المتحضرة آنذاك؛ من حيث القوة والنفوذ كالروم والفرس، أو من حيث الفكر والعلوم كاليونان والهنود، بل كانوا بدوًا رُحَّلا، يتتبعون منازل المطر ومنابت الكلأ لرعي مواشيهم وسقايتها. أما أهل القرى منهم كأهل مكة، فكان مَبْلغ مجدهم تجارة يزجونها شمالا إلى الشام، أو جنوبا إلى اليمن، في رحلتَيْ الشتاء والصيف(3) التقليديتين. أما ملوكهم فكانوا أتباعا لأقوى الدول في ذلكم العصر؛ فولاء أهل الحيرة من المناذرة للفرس، وولاء أهل الشام من الغساسنة للروم(4).
فلما بعث الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بدين الإسلام، اعتنقه الناس وتـحلَّــــوا بتعاليمه، فبث فـــيهم روحا جديدة، روح الأخوة في الإسلام(5)، التي ترقى فوق أخوة النسب؛ قال الله تعالى:﴿ وَاعْتَصِمُوا بِـحَبْلِ اللهِ جَـمِيعًا وَلَا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُـنْـتُـمْ أَعْـدَاءً فَـأَلَّـفَ بَـيْـنَ قُـلُـوبِـكُـمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْـوَانَـا وَكُـنْـتُـمْ عَـلَى شَـفَـا حُـفْـرَةٍ مِـنَ الـنَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونْ﴾(6).
جون ماري لوكليزيو: حينما تصير الرواية مصدرا أنثروبولوجيا ـ مولاي عبد الحكيم الزاوي
ينطبع التفكير في كتابات الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو بمفترضات شكية غارقة في متاهات أسئلة الوجود الانساني، كاشفا لمضمونات وترميزات الحياة المعقدة، ممخوضة بتساؤلات وبلاغات الوجوديين، راسمة لإسهاماته الروائية وراثة شرعية لعرش أب الوجودية الأدبية ألبير كامو، كتابات تنهجس بالخوف والمعاناة والألم، تعانق لقاء عالم الواقع بعالم الطبيعة، تحكي عن اللغة والموسيقى، عن الأنا والآخر البدائي، تصير اللغة عند لوكليزيو موسيقى عليها أن تلتحق بأغنية الريح والبحر والعالم، وتغدو جزءا من مملكة الصمت.
سَتَعْبر رواية المحضر le procès-verbal بلوكليزيو نحو علياء الأدب العالمي وقمته، لتنال حظا من الشهرة والألق ضمن خارطة الإبداع العالمي، جعلته ينال جائزة نوبل للآداب سنة 2008، باعتباره كاتبا مُجددا، يقتحم عالم الرواية بنفس شاعري متدفق من عمق الطبيعة، مُبتعدا بتخييله عن فلكية الحضارة الغربية وهيمنتها، ولسوف يعتبر النقاد رواية المحضر أقرب رواية كتبت إلى رواية الغريب لألبير كامو، وهي التي كتبها وهو في ريعان الشباب، لم يتعدى سنه وقتئذ 23 سنة. وتظل اللحظة الفارقة من مساره الروائي، وفي حمأة اكتشاف القراء لجون ماري لوكليزيو سيتزامن حصوله على جائزة نوبل للآداب مع صدور رواية غاية في الإبداع بعنوان لازمة الجوع Ritournelle de la faim
سيكتشف القراء روائيا من دفق مغاير، يكتب عن الوجودية بعد أن تخلى عنها الرفاق، ولم يعد أحد بمقدوره أن يحشر اسمه في فلكها، ففي روايتي الصحراء le désert والباحث عن الذهب le chercheur d’or ترتدي الرواية لحاف الأسطورة والهذيان، وتضحي أفصل وسيلة لفهم العالم المعاصر، وفي رواية l’africain، تلبس الرواية رداء السيرة والذات، إذ يقول "عندما تكتب وأنت تنظر إلى الآخرين، وهم يعيشون تستطيع بقوة الأشياء أن تأتي من جديد".
الفضاءالطقوسي في القصة القصيرة المغربية ـ د. فاطمة تامر
يتشكل الفضاء السردي من مجموع المكونات والعناصر التي تنضاف إلى الأمكنة ،مساهمة بذلك في بناء النص وتلوين أجوائه ،وتخطيط مسار أحداثه ، ورسم شخصياته وأبعاده الدلالية والجمالية.
وبما إن الإنسان -كما تحدد هويته الانثروبولوجية الانكليزية ماري دوكلاس - كائن طقوسي بامتياز فإننا سننطلق من المعنى العام للطقوس باعتبارها أنشطة عفوية أو شعائر مناسباتية،وإجراءات منظمة وفق ضوابط مكانية وزمانية،فردية وجماعية، ذات بعد احتفالي رمزي لغايات معينة(دينية-نفسية-روحية-اجتماعية-الخ)-
وسنقف عند تجليات الفضاء(1) الطقوسي (2)في بعض القصص المغربية القصيرة التي وفرت لنا مجالا خصبا لاستجلاء هذا البعد -من خلال مظاهر وحالات تتجاوز حد المألوف لتجاور الخارق و لتتاخم أحيانا الغرائبية(3)و حتى العجائبية (4).وذلك من خلال العوالم الآتية:
-1-عالم الإبداع:
ايكاروس: لمحمد زهير
حكاية ا لشاعر فاضل المطري ،الناسك المعتكف في محراب القراءة والكتابة، يرويها صديقه/السارد:
(هناك أكثر من علاقة تجمع بين فاضل المطري والشموع ) بهذا الاستهلال وقبله العنوان(ايكاروس) يثير النص فضولنا لنلج عالمه المثير، الحافل بأسرار الكتابة وحالات الإبداع، وما يكتنفها من طقوس.
يضعنا المشهد القصصي العام والذي يضم شخصية السارد/الصديق، والشاعر فاضل المطري مدار الحكاية أمام أربع لحظات:
استراتيجية الموقف السخري عند أبي نواس ـ علي كرزازي
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا، ما ضرّ لو كان جلس؟!
أبو نواس (الديوان، تحقيق الغزالي، ص 134)
تعود السخرية في معناها العام إلى العصور القديمة، أي منذ أن تنامى لدى الإنسان/المبدع، الإحساس بذاتيته، فتبين عيوب خصمه وصب عليها جام نقده، وهي غالبا ما تقترن بظاهرة الهزل والعبث لذلك حفلت الآداب القديمة بأنواع مختلفة من السخرية،منها الكوميديا والهجاء الانتقادي (Satire).
وفي الثقافة العربية ترد لفظة السخرية في القرآن الكريم غير ما مرة، وهي غالبا ما تأتي في سياق استهزاء الكفار بالمقدسات الدينية سواء كانت معجزات أو أنبياء أو مومنين. أما في لسان العرب فتأتي مرادفة للهزء والضحك والاستخفاف(1).
ومن الشعرية الحديثة ننتخب التعريف التالي لهنري موريي (H.Morier) :
"السخرية هي تعبير ضمير مأخوذ بالنظام والعدل عن سخطه إزاء انقلاب وضع يخاله طبيعيا، عاديا، واضحا ومعقولا. وقوام هذا التعبير هو الضحك باستخفاف من مظهر الخلل أو الضعف هذا، عن طريق التنديد به وفضحه بطريقة انتقامية ترتكز بدورها على قلب دلالة الكلمات (Antiphrase) أو على وصف لوضعية متعارضة كلية مع الوضعية الواقعية (Anticatstase) وبذلك تتم إعادة الأمور إلى نصابها"(2).
تتلبس السخرية بالعديد من المفاهيم التي تقوم مقامها أحيانا مثل الفكاهة (Humour) أو المحاكاة الساخرة (Paradie)، أو تلك التي تعين درجة من درجاتها مثل الضحك والابتسامة أو الفكاهة السوداء، وهي كلها شكلت مركز جذب للعديد من الدراسات، بحيث تمت مقاربتها من وجهات نظر متعددة: فلسفية، بلاغية، لسانية وتداولية وتأويلية.
وسنعمل من جانبنا ضمن هذه الدراسة على الإفادة من بعض وجهات النظر هاته في تناولنا لبنية السخرية وأبعادها داخل المتن الشعري لأبي نواس، ونحب أن نصرح مبدئيا، أن السخرية لدى أبي نواس(3)، لا تقف عند حدود كونها صورة بلاغية أو تنميقا أسلوبيا، وإنما هي في الحقيقة عكس لموقف الشاعر من مجتمعه، ذلك الموقف الذي وصل فيه الشاعر جمالية الشعر بمغامرة الفكر، مما جعل السخرية عند أبي نواس "تصبح مفهوما للعالم ونظرة، كأنما أراد لها أن تحل محل الفلسفة والأخلاق"(4).
ضَمِيمَةُ الإيقاعِ في شرح الزوزني للمعلقات السبع ـ د. يماني مبيريك
ملخص:
بعد قراءتي شرح الزوزني للمعلقات السبع، تبين أنه تعرض إلى توضيح ما علق في هذه القصائد من مغلق اللفظ ومبهم المعنى ، من حيث مستوياتها اللسانية سواء أكانت تركيبية ، دلالية ،معجمية أم صوتية،وكان اختياري لهذا الأخير ، وفقا لما احتوى عليه من ظواهر صوتية تقارب الدراسة اللسانية المعاصرة.
الكلمات المفتاحية: اللفظ ، المعنى ، اللسانيات ، التركيب ، الدلالة ، المعجمية، الصوتيات...الخ
مقدمة
قال ابن فارس في لفظة "الصوت" والصوت من الصاد والواو والتاء أصل صحيح وهو الصوت وهو جنس لكل ما وقر في أذن السامع[1]
ونحن حينما نتناول عنصر الصوت فإنما نتناوله في ظل الشعر وبالخصوص الشعر العمودي،ومن نماذجه البدائية وصوره الإبداعية الأولى متمثلا في الشعر الجاهلي وقصائده الغر الطوال،فاكتسب ذلك الشموخ الفني الذي أشار إليه عز الدين منصور بقوله:(و ظل الشعر العربي العمودي شامخا يؤدي رسالة بأنماطه القديمة والجديدة التي لها أصالتها في الأداء الشعري)[2] ،وهذه الأصالة نابعة من العلاقة بين الشعر وموسيقاه.
اقترن الشعر في العصر الجاهلي بإيقاع خطوات الإبل وبخاصة إيقاع بحر الرجز وأصله(مأخوذ من البعير إذا شدت إحدى يديه فبقي على ثلاث قوائم،وأجود منه أن يقال مأخوذ من قولهم ناقة رجزاء .
لذلك فان أوزان الشعر التي نظمت فيها الأعاريض جميعا مع حركة من حركات الإبل في السرعة والأناة،ومما جاء من الحركات المتمهلة قولهم: ارتعشت عند قيامها لضعف يلحقها أو داء)[3]
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدا أجنْدلًا يَحمِلْن أَمْ حَدِيدا.
إذا كانت الأصوات ظاهرة كونية تتآلف وتتخالف تسرع وتتئد،فان ما بهمنا منها مسألة الإيقاع فحاجتنا إلى الموسيقى تجعل أرواحنا تميل ميلا عجيبا إلى الأصوات والألحان دون إدراك كنهها،وهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء،ولحفيف الأوراق، لكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتنبسط بما تآلف منها[4]