anfasseتـــــــوطـــــــئة :
تعتبر إشكالية المنهج من الإشكاليات الشائكة في النقد المعاصر،كما لعبت دور المحرك المعرفي في الساحة النقدية العربية. و لعل نظرة خاطفة لتاريخ الثقافة العربية منذ عصر النهضة إلى يومنا الحالي، ترصد لنا ذلك الانشطار المعرفي الرهيب الحاصل على مستوى تبني الموروث العربي أو نبذه لصالح الفكر الغربي، مما دفع مجموعة من النقاد المتمرسين إلى إعادة قراءة الخطاب الثقافي العام قراءة جديدة تتجاوز القراءة التلفيقية أو الإقحامية.
فالمنهج بوصفه إطارا علميا يساعد على كشف جماليات النصوص و فهم مكوناته و أبعاده الدلالية هو : '' طريقة في البحث توصلنا إلى نتائج مضمونة أو شبه مضمونة في أقصر وقت ممكن، كما أنه وسيلة تحصن الباحث من أن يتيه في دروب ملتوية من التفكير النظري''[1].
فالمنهج بهذه الوجهة هو المفتاح الإجرائي الذي يساعدنا على  كشف بواطن النصوص وحقائقها، لأنه ليس مجرد أداة منهجية فحسب، وإنما يختزل رؤية خاصة للعالم شارك في تفعيلها مجموعة الخلفيات السوسيو ثقافية وغيرها التي أدت إلى ظهوره،و بالتالي فهو يساعدنا على رصد أبعاد النص الإبداعية.
ويعد ''ناصف'' من أهـم النقاد الدين حاولوا قراءة التراث قراءة واعية، تعتمد النظرة الموضوعية أساسا لها. و قد انطلق هذا الناقد في معالجة النصوص- خصوصا - الـتراثية من إطار منهجي ثري، حيث اعتمد على مجموعة من المناهج الغربية، التي حاول تطويعها بما يخدم النص التراثي, دون انتهاك خصوصيته الثقافية، أو وضعه على كرسي الاعتراف كما فعل غيره من النقاد....
ويعتبر المنهج اللغوي الجمالي من أهم المناهج التي وظفها هذا الناقد، حيث يـدعو إلى قــــراءة الموروث قراءة ثانية تكسر حواجز صمت النصوص ''حتى تنطق  و تبوح و يتاح لها قلق صحي عظيم"[2].
لـــــقــد وظف المنهج اللغوي، كأداة تساعده على إكتناه جماليات النصوص في حدود لغتها و نقصد به: ''المنهج الذي ينطلق من الرؤية النصية في دراسة العمل الأدبي, و يتعامل مع مفاهيم الرمــوز والأساطير المبثوثة في السياق اللغوي''[3].
ويندرج المنهج اللغوي في إطار النقد الجديد [4]،الذي ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين،و هذا النوع من النقد يأخذ مقولة '' ملارميه الشهــــيرة أن الشعر لا يكـتـب بالأفكار وإنما يكتب بالكلمات مأخذ الجد "[5] ، لدرجة أنهم وضعوها شعارا ومبدأ ثابتا في منهجهم. و قد ظهر هذا النقد في: روسيا و ألمانيا و فرنسا و إيطاليا...إلخ و غيرها من الدول الأوروبية، و تختلف أسسه المنهجية من منطقة إلى أخرى، إلا أنها تتفق على اتخاذ اللغة مبدأ رئيسا ينطلق منه الناقد و ينتهي عنده.

لقد ظهرت اللسانيات النصية تجاوزا للدراسات اللسانية الجملية بمختلف توجهاتها (البنيوية، التوزيعية، والسلوكية، والوظيفية، التوليدية التحويلية..)، ولا يعني التجاوز هنا القطيعة العلمية بين تلك التوجهات واللسانيات النصية، وإنما تطور العلوم يفترض استفادة اللسانيات النصية من كل معطيات اللسانيات الجملية، وتجاوز قصور هذه الأخيرة من حيث أن الجملة لم تعد كافية لكل مسائل الوصف اللغوي من حيث الدلالة والتداول والسياق الثقافي العام، وكل ذلك له دور حاسم في التواصل اللغوي، وقد أخرجت لسانيات النصية علوم اللسان من «مأزق الدراسات البنيوية التركيبة التي عجزت في الربط بين مختلف أبعاد الظاهرة اللغوية»(1).
 وقد اتخذت اللسانيات النصية هدفا رئيسيا ترمي الوصول إليه؛ وهو الوصف والتحليل والدراسة اللغوية للأبنية النصية، وتحليل المظاهر المتنوعة لأشكال التواصل النصي(2).
 ذلك أن النص ليس بناء لغويا فحسب وإنما يدخل ذلك البناء في سياق تفاعلي بين مخاطِب ومخاطَب، تفاعل لا يتم بجمل متراكم بعضها فوق بعض كيفما اتفق غير متماسكة ولا يربطها رابط، ولا تدرك النصوص بوصفها أفعال تواصل فردية بل بوصفها نتائج متجاوزة الافراد، ومن هذا المنطلق يجب أن يتخذ التحليل اللغوي النص مبتغاه النهائي في الدراسة، وهذا ما دعا إليه (فاينريش 1927م)، و(ب.هارتمان 1968م)(3).
 ويُعَدّ الأمريكي (هاريس 1952م) أول من استخدم التحليل النصي الشامل من خلال دراسته الموسومة بـ(تحليل الخطاب Discours Analysis)، وه وبحث قيم بدأت معه بوادر الاهتمام بالنص، والنص وسياقه الاجتماعي، وقدم في بحثه أول تحليل منهجي لنصوص بعينها(4).

serghini.jpgبالأمس القريب، كان يتحلق حول طلعتك البهية طلبتك ومريدوك يا شيخنا الوقور مقدرين أياديك البيض التي فتحت لهم بها سراديب ودهاليز مجهولة كانوا يرومون خوض غمارها، فكنت المرشد الناصح والأستاذ الموجه والهادي المشير والراعي الأمين، وهاهم اليوم أنفسهم مزهوين بحفل تكريمك ليردوا لك بسيطا من الدين الذي طوقت به أعناقكم يا من عانق الفسحة سابحا في ملكوت البهاء، وتوله في عشقه بأرضه الفيحاء، مثوى العلماء والفقهاء والأدباء والأولياء والأصفياء.
أجملت خبرات الحياة في دواوين أشعارك، وكحلت رموش لواحظك بنبل السهر لتحرق أسماءك وترتل غبطة الخضراء "من أعلى جبل قاف" وتمسك بشهوة" الكائن السبإي"، تخوض تراب الأرض وتعانق الكلمات الشاردة تطوف أوابدها لتخلق الدهشة، وتسافر من الألف إلى الياء لتحلق باللغة في آفاق رحبة وأنت المترع بحبك الصوفي للبلاد المنيعة.
آليت على نفسك إلا أن تتورط في قافية الحروف، تنذر عمرك لبقية العشق تطفىء جمر التوجع على حال هذا الوطن الذي آواك، تستصيخ السمع لصبر التراب ورسوخ الأشجار المباركة وهدير الأمواج المائجة، وتنخطف لنشوة الدهشة العالية، تطرق باب الرهبان والأنبياء والمبشرين بحلم البشرية.
فهل تكريمك اليوم هو تكريم للأستاذ المحنك،
أم- للشاعر المبدع،
أم- للناقد المتمرس،
أم- للباحث الأكاديمي،
أم- للمفكر المتأمل،
أم- للغوي الفذ

chawi.jpgتقديم:
صدرت رواية "كائنات من غبار" للكاتب المغربي هشام بن الشاوي، عن "مطابع الأنوار المغاربية"، وهي العمل الثالث للكاتب بعد مجموعتين قصصيتين: "روتانا سينما... وهلوسات أخرى"، و"بيت لا تفتح نوافذه". تبلغ صفحات الرواية حوالي مائة وعشرين صفحة، موزعة إلى عشرة فصول، وعلى ظهر الغلاف كلمة للكاتب المصري "منتصر القفاش"، تلخص مناخ الرواية، بعوالمه المتقاطعة بين عالم افتراضي، وعالم واقعي، يتناول تفاصيل من الحياة اليومية، ترصد حياة الشخوص في رغباتها وأحلامها وعذاباتها، كاشفة عن صور متعددة للمرأة.
     
العنوان والمتن الروائي:

يحيل العنوان، في المستوى الأول إلى هوية الشخوص، وهم عمّال بناء مرتبطون بالأرض والتراب والإسمنت والكدح. في المستوى الثاني، يحيل إلى فكرة الخلق، متناصًا مع علامات تراثية، دينية وأسطورية، كصورة التجدد والانبعاث. يتعزز هذا المنظور ببحث الشخوص عن فرص للحياة في تفاصيلها وبساطتها. يتمثل ذلك أساسًا في التعلق العاطفي والبوح، والبحث عن تحقيق الرغبات، بتحدي كل الحواجز والموانع. في هذا الإطار، يبدو عالم المرأة هو البوابة التي تنفتح على شساعة الحياة المأمولة، وهو عالم مليء بالأسرار، واعد بالمتع والدفء الوجداني والعاطفي، من خلاله تبحث الشخوص عن تحقيق ذواتها. لكن هذا العالم، من جهة أخرى، مهدد بالعذابات والمخاطرة واقتراف المحرم، وهو يتطلب معرفة خاصة بفك شفراته، ووعيه في سياقه الاجتماعي والإنساني. تبحث الشخوص في الرواية عن تجدد دائم، ومجابهة لما تتعرض له من إفقار عاطفي، وسط حياة الكدح والتهميش والرتابة، من خلال أحلام ورؤى وممارسات يومية تنفلت من رقابة الرسمي (يطلق العمال على بعضهم ألقابًا: بعية، كبالا، قبقب، عبيقة...). يخلقون متعًا يومية صغيرة: أغانٍ، مقالب، نكات، سهرات... وتكون المرأة هي المركز الجاذب، بجمالها، وإغراءاتها الجسدية، وأسرارها، وسخائها العاطفي.

الزمن النفسي وكرونولوجيا السرد:

سرعان ما يتبدد تتابع السرد في وضعيات أفقية، أهمها الاسترجاع. نلاحظ ذلك منذ بداية الرواية: "والحافلة تمخر عباب الإسفلت.. تنتبه إلى أن تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك ذات شقاء.. كانت أجمل ما أبصرت عيناك يومها..."، ثم يستدير السرد للحديث عن امرأة أخرى، كان البطل يطاردها "بكل الضعف الإنساني الذي يختزله الحب اليائس. ص5". هنا يفتح السرد نافذة صغيرة على أحداث ومواقف مرتبطة بالسياق ذاته، وهي لا تستغرق إلا حيزًا صغيرًا. هذا الامتداد الأفقي الاسترجاعي، ينتهي إلى خلاصة وحكم، يكون سببًا لبعث تداعيات أخرى، على سبيل الاختبار والنقد :" لاتستغرب، حتى مشاعر النساء تتبخر، كتلك التي كتبت إليك في بداية غرقكما العاطفي... ص4".

 نستنتج من هذه العينة من الشواهد أن السرد لا يجد سنده (الوجودي) إلا في هذا التداعي، وليس في تسلسل الأحداث، بالصيغة المألوفة. إن المقصود إذًا هو كينونة الشخصية/ البطل، وهو يبحث عن تأسيس وعي بالذات والآخر/ المرأة والمجتمع. يغدو السرد سيرورة للوعي، يشق طريقًا وعرًا، يقتضي اقتحام المسكوت عنه والمكبوت والطابو. إنه الدفع بمغامرة الوعي إلى حدود فضح الرغبات المحرمة، والكشف عن النزوات الإنسانية المتسترة تحت أقنعة الاتزان والاستقامة.. هكذا تصبح سطرية السرد وجهًا آخر لهذه الحياة المقنعة، يبرع السارد في الكشف عن مكامن هشاشتها "صديقك الكهل.. أوهمك بأنه بطل من أبطال الميلودراما الهندية... فكرت في ما يقال عنه، وهو يسلم راتبه الشهري لزوجته... ص4).

يبحث السرد إذًا عن سيولة الحياة، التي تغذيها الرغبات الإنسانية الخفية والظاهرة، وراء الصلابة الخادعة لقيم ومسلكيات الواجهة. هذه السيرورة الباطنية النفسية، هي أيضًا معارضة لمطلب فني، يتمثل في سيولة السرد الخطية، وكأن هذه الخاصية مهددة بالكبت ومجاراة الوجه الخادع المطمئن، وبما أن القدر الخطي هو قدر اللغة، يعمل السرد من حين لآخر على انتهاك "نبلها"، بلغة يومية دارجة دون تهذيب أو تجميل :"صرخ بعية في هياج: أححححااااحححح ص43/ وابااااغي اللحم م م م ص76/ راه كايبات يتشارجا في الليل ص38".

السرد بضمير المخاطب والغائب:

 يستغرق السرد بضمير المخاطب الصفحات العشرين الأولى من الرواية. هذه الصيغة غير معتادة كثيرًا في سرد بنفس طويل. في هذا النص، يمكن اعتبارها استراتيجية مركبة: أولا : لردم الهوة بين الذات (السارد) والموضوع، على مستوى الزمان والمكان و(المعرفة). ثانيًا : إنتاج سرد محايث، ولا يتورط في ملابسات (السيرة الذاتية). ثالثًا : اعتبار هذه الشحنة الأولية رصيدًا مرجعيًا يملأ مسافة الغياب في السرد بضمير الغائب، الذي يبدأ عمليًا من الفصل الثالث. رابعًا: تعزيز لازمنية الرواية، بخلق بعد تراكمي. خامسًا: الذات من منظور نقدي، متعددة ومتناقضة، ولا تؤخذ كبُعد  واحد.

الغياب والحضور:العالم الافتراضي والعالم الواقعي:

تنبش الرواية في مواقف وأحداث تكشف عن تدفق الرغبات، وكسرها للحواجز الأخلاقية و(الثقافية)، وهو اختيار سردي يندرج ضمن رؤية للإنسان، في تعدده وتناقضه، ومهمة الرواية هي التنبيه إلى هذه الأبعاد السيكولوجية المكبوتة والمسكوت عنها، لتحريرها ووعيها. نلمس ذلك في بعض لحظات الصراع بين الرغبة والعقل:  " ودّ لو يعتذر عن كل ما دار في عقله الباطن/ تبًّا لهذا الجسد الذي يجرنا دومًا إلى الخطايا/ يهتف قلبك: ما أغرب الطبيعة الإنسانية/ تخيل نفسك مكان ابنها أيها الحيوان...".

هذا العالم "الغائب" أو "المغيب" من الرغبات الإنسانية، يفتح له السرد قنوات للتوصيل والإظهار، تمامًا مثلما يفتح البطل قنوات للتواصل، عبر الشات والهاتف، مع عشيقات في العالم الافتراضي. إن الذي يجمع بين العالمين، هو أن كليهما "غائب"، لكنه موجود، يتحكم في اختيارات الشخوص ومواقفهم.

التعدد اللغوي:

 تتعدد لغات الرواية، وتتجاور لتعطي أبعادًا جديدة للمعنى، وهكذا تتعايش الفصحى والدارجة اليومية، ولغة الأمثال والنكتة، وألقاب الشخوص، وأسماء الأشياء وبعض الأفعال الخاصة بفئة البنائين، كل ذلك إلى جانب لغة الرسائل الالكترونية والشات ورسائل الهاتف.

وهذا الخطاب الالكتروني أخذ يغزو الرواية في السنوات الأخيرة، بخصائصه التواصلية، سواء كخطاب يتسم بالسرعة والاقتصاد، أو كعلاقات إنسانية تبحث عن حرارة المشاعر ودفء الأحاسيس، وحرية الكلام والبوح، مكملا أو معوضًا  للعالم الواقعي.

خاتمة:

 تدخل هذه الرواية ضمن المشروع السردي للكاتب المغربي هشام بن الشاوي، وهو مشروع يتميز بالتقاط تفاصيل حياة المهمشين، في طموحهم للعيش والحياة، كما يتميز بالكشف عن تناقضات الإنسان بين الظاهر والخفي الذي تحركه الرغبات، مما يشكل عوالم سرية، مكبوتة ومسكوت عنها، ويتواصل في هذه الرواية ذلك العمل على تكسير سطرية السرد، بفتح مساحات واسعة من البوح والتعبير عن المشاعر والأحاسيس الدفينة، حتى ليغدو التتابع، في كثير من الأحيان هو الاستثناء.


------------------------------------------------------------------------------

  - "كائنات من غبار"، هشام بن الشاوي، مطابع الأنوار المغاربية/وجدة، ط.1، 2010.
* قاص وروائي مغربي

music.pngإن جميع التحسينات التي أصابتها الموسيقا خلال تطورها لم يكن الدافع إليها إلا الرغبة في التقدم بهذا الفن، ومضاعفة المتعة منه. ولهذا فعلى المستمع عند وقوعه تحت تأثير الموسيقا أن يكون واسع الأفق ساعياً إلى اكتساب القدرة على الاستماع. فالموسيقا هي الحركة في الزمن، وتعتبر لغة النغم، وأية لغة لابد من أن يكون لها حروف هجائية وقواعد منطقية تساعد على استخدامها وفهمها، حروف الموسيقا الهجائية هي (دو-ري-مي-فا-صول-لا-سي) والكونترابونط Counterpointعلم بناء التآلفات المتعددة على أساس من الانسجام في لحن واحد- وما عدا ذلك من فروع هي بمثابة البديع والبيان.
وأنغام الموسيقا هي عبارات لحنية لها من المعنى ما لكلمات اللغات المنطوقة أو المكتوبة من دلالات مع فارق أن فهم لغة الموسيقا من نصيب الوجدان ويؤكد هذا القول الفيلسوف شوبنهاور عندما قال (الموسيقى لغة الشعور والكلام لغة العقل). وهنا يأتي دور التذوق الموسيقي وما يحمل من معاني خفية تلعب دوراً بارزاً في نفسية وفكر وكيان المستمع والمتذوق للموسيقا، وماذا يخفي في مكنونه العميق من الثقافة والنفسية حتى الفكرية بالنسبة للإنسان، وهذا ما أردنا أن نسلط الضوء عليه في هذا الموضوع.
التذوق الموسيقي Musical Appreciation:
يمكن أن نعرف التذوق بصفة عامة بأنه إعطاء قيمة وتقدير للشيء، أما التذوق الموسيقي فإنه الحساسية للقيمة لجمالية الموسيقا. والإحساس الجمالي لا بد وأن يتضمن الاستمتاع والمعرفة.

105.jpgالكاتب : محمد صالح مجيد
المدخل نظريّ     
ما من نصّ أدبيّ -شعرا كان أم نثرا ،أو مابين هذا وذاك- إلّا وهو يُجاور آخر ويُحاوره  ليتجاوزه.على هذا النحو فهمت عديد النظريات والبحوث الحديثة في النقد الأدبيّ تشكّل النصوص الأدبيّة وتضافرها، فخاضت في تلمّس إنتاجيّة النّصّ الأدبيّ[1].ولم يعد الاشتغال على "التناصّ" –اليوم-جدّة في القول أو خوضا في حقل غير موطوء.فمنذ أن تحدّث" باختين" عن تعدّد الأصوات(polyphonie) في النصّ الأدبيّ ،و عن "الحواريّة"( dialogisme) أمسى البحث فيما بين النصوص من تداخل وتجاور مندرجا في صلب كلّ عمليّة نقديّة تروم تفكيك البنى المعجميّة والخطابيّة المنتجة للأثر ،وترنو إلى تلمّس آليات تكوّنه حتّى استوى خطابا يستهدف متلقّيا. يقول "باختين"(bakhtine) إقرارا لبديهة "نِصف الأقوال على الأقلّ في الكلام اليوميّ الذي يتلفّظه كلّ إنسان يعيش في مجتمع، هي لغيره "[2]

 ولم يعد استجلاء ما بين نصوص سابقة وأخرى لاحقة  ناسخة من الرّوابط والعلائق ضربا من ضروب محاكمة الكاتب ، وتهجين مُنجَزه الإبداعي بشُبهة النّهل من السابقين أو السّير على منوالهم. فقد انتهى زمن كانت تُعقد فيه لنصوص ضُبطت متلبّسة بالأخذ و"السرقة" مُحاكمات انضافت إلى سيف الرقابة المسلّط على الكتاّب لتخنق المبدع ،وتلزمه بما لا يطيق.إذ كيف الفرار من صدى "القراءة" وقد ترسّخ تأثيرها وفعلها في ذات الكاتب حتّى أمست بعضا منه ،وموردا يرتاده للارتواء من "عطش" الكتابة؟

والحاصل من كلّ هذا أنّ بعض النقّاد العرب القدامى ،في تهجينهم للتّناص ،أيّا كان نوعه، وبحثهم في "سرقات" المتنبّي وغيره من الشعراء ،كانوا يصدرون عن نظام معرفيّ معياريّ.أمّا ما بنت عليه الناقدة والروائيّة الفرنسيّة ذات الأصول البلغاريّة"جوليا كريستيفا" (Julia kristiva)نظريتها النقديّة فينخرط في نظام معرفيّ وصفيّ يعتبر هذه الظاهرة أمرا حتميّا لا يمكن أن يسلم منه كاتب أو شاعر-وإن حرص- إذ أنّ كلّ نصّ-على حدّ قولها- هو بالضرورة "ينبني كفسيفساء من الاستشهادات,,إنّه امتصاص وتحويلtransformation لنصّ آخر"[3]

anfasse.org"بسم الله الرحمن الرحيم. ن. والقلم وما يسطرون."
ثمة موجة من الكتابات النقدية أجهزت بكل ثقلها على اللغة العربية معتبرة إياها إحدى القلاع الحصينة التي تحتمي بداخلها الإيديولوجيا الأبيسية (1). ولا مراء أنها كتابات تستمد قوتها من النفس التحرري الذي يسري في أوردة القول الحداثي، ملهبا ذلك الحماس الثائر الداعي إلى تفكيك خطاب الوحدة والأصل، بتفجير كل تناقضاته وإحالته على الصمت. إنها كتابات تفرض حضورها بكل قوة وتتميز باستعمالها للغة مدججة تتمترس خلفها طموحات إيديولوجية تنزع نحو أكثر المواقع راديكالية وتتوق إلى تحرير الهوامش الأنثوية المكبوتة داخل النسق الأبيسي الكلياني وفتح كوة على خطاب الاختلاف: خطاب الحرية والمساواة.
         على أن خطورة تلك الكتابات تكمن في كونها تمارس النقد أساسا كفعل تفكيكي تهتز له أركان الخطاب الأبيسي، يهوي له سقفه الحديدي وتتزلزل الأرضية التي شيد صرحه فوقها بثقة واطمئنان كبيرين. فالتفكيك هنا ضرب في صميم العمق الاستراتيجي للخطاب الأبيسي: ذلك العمق الذي ينتهي قراره عند أرضية صلبة هي أرضية اللسان العربي. فهذا الأخير يبقى بمثابة الرأسمال الدلالي الذي يستثمره ذلك الخطاب في إنتاج مضامينه وإعادة إنتاجها وفق شروط تاريخيته. بعبارة أخرى، إن الخطاب الأبيسي لا يتمخض  عن فراغ، وإنما ينطلق من اللغة العربية كخلفية رمزية تمنحه العمق التاريخي والدلالي الذي يرغب في اكتسابهما.
         تلك في عجالة، إحدى الركائز التي يستند عليها خطاب التفكيك ويبلور، بناء عليها، أطروحاته حول اللغة العربية. يبقى أن نتساءل من جهتنا: إلى أي مدى استطاعت الكتابة النقدية تحقيق ادعاءاتها؟ هل نجحت حقا في تفكيك السلطة الأبيسية وخلخلة اللغة العربية التي شكلت الأرضية الرمزية للدائرة الأبوية؟

matlek.jpgيستهل حسن مطلك روايته الماتعة "دابادا" بوصف الخريف،(وهو فصل الكآبة بامتياز، حيث يثير قدومه في النفس شجنا مجهولا، وخوفا مبهما من النهايات)، وهاجر /أم شاهين وهي تلملم الحطب، فتشتعل الذكرى الخريفية التي لا تخبو: ذكرى محمود، الزوج الذي ضاع في البراري بسبب أرنب مبقع، ويصافح القارئ حزنها غير المعلن عنه، الحزن على الابن المنعزل عن الناس، الأبله الذي لم يتجاوز الطفولة، وهو في سن السابعة والعشرين، ولا يمكن أن نغفل الدلالة العميقة لهذا الرقم المقدس دينيا.

 و نبدأ في التعرف على شاهين، وهوايته الوحيدة في غرفته العلوية، وهي التلصص على الصباحات الندية.. يستيقظ قبل الشمس ليرى الطيور، وفجر الحقول يتسلل إلى غرفته.
للتوضيح، الرواية، وكما أكد الكثيرون من الصعب الإلمام بتفاصيلها، حيث أن السارد العليم  يراوغ القارئ عبر رواية تبدو مثل قصة مسترسلة، عكس بقية الروايات التي تتيح للقارئ، محطات استراحة واستجمام  بين الفصول المرقمة أو المعنونة، أما رواية "دابادا"، فتبدو أشبه بسباق ماراثوني، سباق يتحدى فيه حسن مطلك نفسه لاغير، غير معني بمجاراة أو محاكاة ما يكتبه الكتبة أو أصحاب "دكاكين الأدب"- كما كان يدعوهم- من روايات ترمى بعد القراءة الأولى، مثل ورق الكلينكس!!

مفضلات الشهر من القصص القصيرة