mamdouh_adouane.jpgإن قراء ة أي نص أدبي تتضمن مواجهة بين صورة العالم لدى القارئ، وصورة العالم كما يصورها النص. والقارئ عادة ما يفترض أن النص يصور العالم كما يعرفه. لكن النص قد يؤكد له هذه الفرضية وقد يخالفها.
وإلى جانب الجدلية التي يثيرها التقابل بين صورة العالم لدى القارئ وصورة العالم كما يطرحها النص، هناك جدلية أخرى مهمة في تفسير النصوص الأدبية؛ وهي الجدلية القائمة بين الحقيقة التاريخية التي يفترض أن النص يصورها، وبين التقاليد اللغوية الأدبية المتوارثة التي تتدخل في طريقة صياغة هذه الحقيقة وتصويرها. ويتأثر تفسير المفسر للنص برؤيته لدور هذه التقاليد في تصوير الحقيقة في النص.
ويؤكد "كريستوفر بطلر" في كتابه: "التفسير والتفكيك والإديولوجية"(1) أن الأطر المعرفية والإيديولوجية تتدخل إلى حد كبير في اختيار الأبنية اللغوية وفي تفسير دلالاتها. وينتهي من ذلك إلى تعريف الأبنية اللغوية في النص الأدبي ـ التي يطلق عليها اسم: الأنظمة الشفرية ـ بأنها حقل دلالي يكتسب تفسيرا اجتماعيا أو عقائديا وفق النظم الحضارية السائدة في المجتمع، أو وفق رؤية المؤلف أو القارئ للعالم.
إن كل نص يركز على بعض الأنماط والنظم الحضارية دون غيرها، تلك النظم التي تمثل القيم المعيارية في هذه النصوص.
ومعنى هذا أن القارئ يفترض أن النص يحاكي العالم بصورة ما، ويختار أحد نواحي التجربة الإنسانية ويركز عليها دون غيرها. ولكن علاقة النص بالعالم الخارجي، أو بالإطار العقائدي أو الحضاري السائد خارجه ليست بهذه البساطة. أي ليست عملية تصوير تعتمد على المحاكاة البسيطة؛ إذ أن النص عادة ما يخفي حقيقته عنا بما أنه نص أدبي خيالي مصطنع يخضع لمجموعة من التقاليد والقواعد المفتعلة. وهذا ما يثير مسألة الاستقلال النسبي للنص الإبداعي.

pablo-neruda.jpgكتب الشاعر التشيلي الكبير بابلوا نيرودا  قصيدة شهيرة اختر لها عنوان " أغنية حزينة "  و القصيدة في مجملها تعبير صريح من شاعر عاش الكثير و عانى الكثير ، عن حالة من التمرد ضد الأعراف النفسية و الاجتماعية التي تربى عليها الناس و صاروا على نهجها و جعلوها الهادي و القنديل في حياتهم البسيطة . تحكي القصيدة حكاية رجل بسيط قضى ليال عمره دون أن تشغله أشياء هذه الدنيا و محسوساتها ، رغم أنه كان دوما على موعد مع حسابات خاصة يقوم بها و يتلهف نحوها ، غير أنه لا يفصح عنها و يستأثر بها لمفرده ، و تنتهي القصيدة و لا يفصح الشاعر عن حساباته الخاصة لتظل كل القراءات ممكنة ، و تصبح هذه الحسابات الخاصة هي حسابات كل إنسان على وجه الأرض ، فمن منا لا تشغله مواضيع معينة  يقضي أياما و ليال يفكر فيها و يبحث فيها و يحسب لها ألف حساب و حساب . في القصيدة يقدم بابلوا نيرودا استغناءه عن المال و الأملاك الخاصة و التي يعيش الكثير لحظات تهافت كبير عليها ، فهي بالنسبة له لا تشكل هاجسا يشغله ، بل أكثر من ذالك هي أشياء غائبة من خانة تفكيره البتة ، و هو ما تدل عليه عبارة " لا " التي تتكرر عند نهاية كل مقطع أكثر من مرة فيقول :
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
ما كنت أدرج لا أبقارا
ولا جنيهات إسترلينية

anfasse.orgكقارئٍ ممسوسٍ بالشغفِ إلى اكتشافِ كلِّ جديدٍ في العوالمِ المختبأةِ في الكتبِ والموروثِ الإنساني فإنني أدينُ لفطرتي السليمةِ في أحيانٍ كثيرةٍ. وأدينُ دائماً لذائقتي النقيَّةِ التي قلَّما تخطئُ في اختيارِ المجموعات الشعريةِ اللامعة.
فأنا دائبُ البحثِ عن الدواوين التي تحملُ في طياتها الرؤى والأساليب الجديدةَ والتقنيَّات العالية والمبتكرة لصياغة القصيدة العربية الحديثة وتلك المتفلِّتة والمتطلِّعة إلى ما وراء الحداثة.
وقد كانَ ديوان الشاعر الفلسطينيِّ الأصل والأردنيِّ النشأةِ يوسف أبو لوز والمُسمَّى " ضجرُ الذئب " أحدَ الدواوين الشعرية التي أفدتُ منها كثيراً وفتحت شبابيكي على عوالم ومناخات طالما حلمتُ بها.. ذلكَ أنَّهُ من الكتب الشعرية القليلة التي بهرتني بقيمتها النوعيَّةِ العظيمة. من دون أن يكون لصاحبها ذلك التقديسُ في المحافل الأدبية هنا وهناك.. ذلكَ أنها شكلَّت مفصلاً أساسيَّاً في مسيرةِ صاحبها الشعريةِ.
عدم معرفتي بالشاعر الجميل روحاً ونصّاً يوسف أبو لوز جعلني أتردَّدُ في البدايةِ باقتناءِ الديوان ظنَّاً مني أنهُ لا يحملُ الضالة التي أبحثُ عنها.. ولأنني ربمَّا أصبحتُ أميلُ إلى الأسماءِ المكرَّسةِ كغيري من الشعراءِ العربِ الذين لا يريدونَ أن يجهدوا أنفسهم بالبحثِ عن الشعريَّات الجميلة المستترة وراءَ حجابٍ رقيقٍ من الخجلْ.
ولكنني في النهايةِ غامرتُ وراهنتُ على جودتهِ  بعدَ قراءةِ بعضِ سطورهِ القليلة.. وهكذا اشتريتهُ ولم أكن بعدُ قد إطَّلعتُ على ما أثارهُ هذا الديوان من ضجَّةٍ أدبيةٍ ودويٍّ شعريٍّ.. ولم أكُ أعلمُ أيضاً أنهُ حصَدَ جائزة عرار الأدبية في الأردن فور صدورهِ عام 1992  عن إتحادِ الكتاب الأردنيين والمؤسسة العربية للدراساتِ والنشر. مما حدا ببيت الشعر الفلسطيني أن يصدرهُ بطبعة ثانيةٍ أنيقةٍ بعدَ ذلكَ بسنوات.

marquez.jpg" كانت ايرينديرا تحمم جدتها حين هبت ريح شقائها " هكذا تبتدئ رواية " إيرينديرا البريئة "  للكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز ، فاسحة المجال نحو أفق تطلع مفتوح يمكن معه للقارئ أن يرسم نهايات متعددة وفق ما توجه له حالته النفسية و كذا سعة خياله ، تحكي الرواية قصة فتاة قاصر تعيش رفقة جدتها المتسلطة ، هذه الأخيرة تمارس قسوة زائدة عن اللزوم على حفيدتها إيرينديرا ، و التي حدث أن نشب مرة حريق مهول بالخيمة التي تقيم فيها مع جدتها مما أتى على كل ما تملكه الجدة و حفيدتها ، فكان أن قررت الجدة جر حفيدتها لامتهان البغاء حتى تتمكن من تسديد ما خلفه الحريق من خسائر ، و منذ تلك اللحظة و إيرينديرا تعيش حياة شقاء و تعاسة ، تتوزع بين تلبية رغبات طابور طويل يصطف كل يوم أما الخيمة ، مقدمة لهم خدمات جنسية بأثمان تقديرية تبث في قيمتها جدتها التي أصبحت لها مهام المشرف عل تنظيم لقاءات المتعة الجنسية هذه ، يساعدها في ذالك بعض الهنود الذين استعبدتهم الجدة بأثمان زهيدة ، و فوق ذالك و كلما نحت الشمس نحو المغيب ، و انتهت إيرينديرا من خدمة زبناء المتعة ، إلا و طلبت منها جدتها القيام بأعمال منزلية عديدة من طبخ و غسيل و تنظيف علاوة على تحميم جدتها ذات الجثة الضخمة .
تعرفت إيرينديرا على شاب هولندي في مقتبل العمر كان يعمل رفقة والده مهربا للحلي  ، و معه بدأت تنسج خيوط علاقة غرامية ستقرر معها و معه مرة الهرب خارج حدود الوطن ، لتبوء المحاولة بالفشل و تعود إيرينديرا للخدمة الجنسية ، لكن هذه المرة مكبلة بسلسلة حديدية مع سريرها حتى لا تفكر في الهرب مرة أخرى . و بين الممارسات الوحشية للزبائن الجشعين وهول العيش في كنف الجدة القاسية تنموا إيرينديرا شكلا و جوهرا ، و ينموا معها في المقابل حب الفتى الهولندي و الرغبة من الإنعتاق و مطالعة شمس الحرية ، الأمر الذي لن يتأتى إلا بقتل الجدة و هو ما ستقدم عليه إيرينديرا و الشاب الهولندي ، لكنها و بعدما رأت جدتها غارقة في دماء موتها الناجم عن طعنات الشاب القاسية ، هربت مسرعة في اتجاه الشاطئ و بعدها غابت عن الأنظار ، لتنتهي الرواية مستفسرة عن المآل كما صوره غارسيا ماركيز بقوله أنه لم يعرف لإيرينديرا أثر بعد ذالك .

دمشقيعد المكان من أهم المكونات التي تشكل بنية الخطاب الروائي, حيث يستحيل علينا تصور العمل الروائي دون مكان تسير فيه أحداثه لأنه بمثابة العنصر الفعال الذي تتجسد فيه أحداث هذا العمل.
1- المكان بين المفهوم والمصطلح:
لقد ورد مصطلح المكان في لسان العرب,فنجد: «المكان والمكانة واحد,المكان في أصل تقدير الفعل مفعل لأنه موضع لكينونة الشيء فيه، والدليل على أنه المكان مفعل هو أن العرب لا تقول في معنى هو معنى مكان كذا وكذا إلا مفعل والجمع أمكنة وأماكن جمع الجمع»(1) ونجد في بعض القواميس التي قدمت تعريفا للمكان على أنه موضوع كون الشيء وحصوله.
أما من الناحية الاصطلاحية فقد اختلفت مفاهيمه نتيجة لاختلاف الدراسات والاجتهادات إلا أنها استعملته كإطار تسير عليه أحداث الرواية، فعبد المالك مرتاض قد قدم بعض التفسيرات لمرادفات عدة للمكان كالحيز والفضاء وغيرهما:«لقد خضنا في أمر هذا المفهوم وأطلقنا عليه مصطلح الحيز مقابلا للمصطلحين الفرنسي والانجليزي(Space-Espace) ولعل أهم ما يمكن إعادة ذكره هنا، أن مصطلح الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جاريا في الخواء والفراغ، بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله إلى النتوء والوزن والثقل والحجم والشكل على حين أن المكان نريد أن نقفه في العمل الروائي على مفهوم الحيز الجغرافي وحده» (2).
لقد ميز النقاد بين هذه المصطلحات الواردة، فقد عالج حميد الحميداني مسألة المكان في الرواية العربية من خلال دراستها، متطرقا إلى مجموعة من المصطلحات المتعلقة بالمفهوم مثل:«المكان الروائي والفضاء الجغرافي والفضاء الدلالي والفضاء النصي والفضاء بوصفه متطورا»(3) ثم أبدى ميله إلى عنصر المكان مذهب جل النقاد المشتغلين في هذه الرواية، لما في هذا المصطلح من شمولية أوسع لكونه:«يشمل المكان بعينه الذي تجري فيه أحداث الرواية بينما مصطلح الفضاء يشير إلى المسرح الروائي بأكمله ويكون المكان داخله، جزءا منه»(4)

anfasseقراءة في رواية الأمير للأعرج واسيني
قبل البدء:
هل تعيد الرواية اليوم في ظل فكرة نهاية التاريخ، إعادة كتابة التاريخ تحت الطلب من وجهة نظر إعادة صياغة الماضي لتفسير الحاضر والمستقبل.؟ ألم يكن التاريخ يوما سوى رواية لأحداث من زاوية فردية عايشت الحادث وأسبغت عليه رؤيتها الخاصة؟ أليست الرواية هي الأخرى رواية لحادث من زاوية فردية عايشت المتخيل وأسبغت عليه رؤيتها الخاصة؟ ألا يقرِّب هذا الطرح الشقة بين الرواية والتاريخ ليجعلهما نشاطا واحدا. يشتغل الأول على الواقعي، وينصرف الثاني إلى المتخيل؟ وما مسافة الفاصل بين الواقع والمتخيل؟..
هل يجوز للراوي انتهاك حرمة الواقع الحادث ليعيد موقعته في سياق متخيل، تتحول معه دلالته من معنى إلى آخر تمليه اعتبارات مضمرة تفرزها الصراعات الجديدة المصاحبة للعولمة؟ هل كان فيلم "آلام المسيح" " PASSION OF THE CHRIST "للمخرج الأمريكي "ميل جبسون" " Mel Gibson "عملا فنيا عن المسيح، يعيد تصوير آلام الصلب فقط؟ أم أن الفيلم عرض لتاريخ تجاهد اليهودية العالمية لإخفائه واستصدار وثائق البراءة منه؟ هل كانت "شفرة دافنشي" ل"دان براون" "Dan Brown"مجرد رواية تاريخية ذات نكهة بوليسية وحسب؟ أم أنها خلخلة لقناعات تاريخية متجذرة منذ 2000 سنة في الوجدان المسيحي؟ أم أنها ردة فعل يهودية على فيلم "آلام المسيح"، على سبيل رد الصاع صاعين؟...
هل يجوز لنا الساعة أن نرى في رواية الأمير للأعرج واسيني استكتابا للتاريخ من وجهة نظر تعيد تشكيل صورة الأمير في الوجدان الجزائري على غير الهيئة التي رسمها التاريخ الرسمي، وأن يسمعنا ويرينا منها مواقف لا تكاد تخطر على بال أحد؟
هل تسعى الروائية إلى أن تطرح نفسها اليوم بديلا للتاريخ بعدما انتهى التاريخ وتبدد في تعدد وجهات النظر والتفاسير والتأويلات.. إذ ليست نهايته في انتهاء الصراع كما زعم "فكوياما"" Francis Fukuyama "وإنما نهايته في انتفاء عدم اليقين الذي انجرت إليه التفسيرات الإعلامية المتعددة للحادث الواحد؟
1-الرواية والتاريخ:
ليس من العسير على الدارس أن يسجل سلسلة الفروق التي تميز الرواية عن التاريخ جنسا، غير أنه حين ينظر إلى الألفاظ في دلالتها المعجمية الأولى سيجد تداخلا بين اللفظين، حين يلمس أن الرواية هي التي تسجل التاريخ، وأن ليس للتاريخ من قيامة إلا بها. وكأن الرواية في دلالتها المعجمية هي ذلك الضرب من القول أو التسجيل الذي يمكِِّن الحادث من الثبات والرواية زمانا ومكانا. ومنه يكون التاريخ سلسلة من المرويات التي يُستعاد بفضلها الماضي إلى خضرة الحاضر عبر اللغة.

anfasseهل نشهد موت الكتاب قريبا ؟
 مع  رولان  بارط  كأحد  رموز و رواد النقد  البنيوي  سيمنح  للنص  استقلالا  تاما ،  و ذلك عندما أعلن  في مقالته الشهيرة سنة - 1968-  موت الكاتب، أي عدم التركيز على المؤلف ، أوالقصد من النص ، مادام الكاتب  ليس موجودا  بيننا ،  بل  يذهب رولان  بارط  إلى أن  بمجرد أن تتم  طباعة العمل  يفقد الكاتب صلته بالنص ، ولا يصبح  مالكا له ، ولا يتمتع  بأي  حقـوق  فكرية 1. فقد نزع بارت سمة القدسية التي كانت تضفى على المؤلف ولم تعد قيمة النص ترجع إلى عبقرية المبدع بل حلت  السمة التي  تطبع العمل محل الكاتب  ، موت الكاتب عند بارت  سيؤدي   بالضرورة  إلى ميلاد طرف آخر في هذه  المعادلة وهو القارئ  أو الناقد والذي ستصبح  له الحرية  الكاملة  ليستبيح  النص  و يفعل  به ما يشاء ، مادام مبدع  النص هو خارج هذه المعادلة.  و إذا كان النص يظل في ذهن المؤلف بإعتباره أول قارئ  له و ناقد ، فإنه  يتحول إلى ذهن القارئ  و بأشكال  مختلفة تماما ،  ذلك أن الاهتمام  بالمؤلف أو  بالنص لم  يعد هو الأساس كما هو الحال عند رواد نظرية التلقي بل  إن الاهتمام بالقارئ  و شروط القراءة هو ما يهمنا أولا و أخيرا ،هذا القارئ   – أي قارئ - و في أي  عصر يعطي  للنص  تفسيرا أو تفسيرات لا حدود لها  مادام  ليست هناك  مقاييس  يمكن الرجوع  إليها  ليشترشد بها  هذا القارئ ، فقد  أدى هذا الوضع إلى أن النصوص أصبحت  تحتمل أي معنى و لا معنى 2.   فأصبح  بذلك القارئ  أو الناقد هو المبدع الحقيقي ،  يبتدع  معان داخل النص دون أن  يتقيد  بشروط  معينة ،  بذلك غدا هو العنصر الأساس  مادام النص في إدراكه لا يوجد إلا داخل  وعي القارئ ، من  هنا  كان هـذا الاهتمام  بالقارئ  وحده ضربة  موجعة للنص  نفسه ،  و القارئ  نفسه  في  تفسيره  لهذا النص  يصبح هو المبدع  لمعان  جديدة ،  يقدم  نسخته الممكنة  في التفسير ،  نسخته  تتحكم  فيها  سياقات  تاريخية  وإجتماعية  و ثقافية  تختلف  عن  سياقات الآخرين 3   وقد أشار عبد الفتاح كليطو  إلى  ذلك  .«..فالقارئ  يقرأ النص انطلاقا  من إهتمامات  تخصه أو الجماعة التي  ينتمي  إليها ، القارئ   يهدف دائما  إلى غرض... يسعى إلى إثباته .. . »  4  هكذا  تصبح  علاقة  القارئ   بالنص علاقة  متينة  ،  يطبعها  التوحد ، علاقة  متداخلة  يصعب  التمييز بين  الطرفين ،  فيغدو بذلك  القارئ  هو النص ،  و النص هو القارئ ، ومن خلال هذا الانصهار و الذوبان ، أي  ذوبان  كل منهما داخل الآخر  ، هو ما عبر عنه  بارت  بلذة  النص ، أي  متعة  القراءة  و ذلك  من خلال  انتهاك  النص و إفتضاض  بكارته  ،  و ذلك ليس  بالأمر الهين  «...أن  تمارس الكتابة  هو أن  تموت  لنفسك  و لذاتك ، و أن تما رس القراءة  هو أن  تقبل أن  يأخذك الكاتب إلى  شواطئ  المتعــة و الموت...» 5 .

anfasseإن الخطاب الشعري الصوفي الفارضي الذي فرض وجوده وجعل الدارسين والعلماء على اختلاف مشاربهم يختلفون في إطلاق الأحكام على شعره، لهو بحق خطاب له مكانة ويحتاج إلى الكثير من التريث بغية النظر إليه من مختلف الزوايا الممكنة في تكوين بنيته الخطابية. إن هذا الاختلاف بقدر ما يجسِّد الوعي لدى هؤلاء القراء بأهمية وطبيعة النص الشعري، فإنه يعكس رؤية شعرية منزاحة عن المألوف والمعهود لدى هؤلاء، فلعلّهم نظروا في شعره وظنوا أنهم يطالعون شعرا غزليا حسيّا أو أنهم انتظروا شعرا بسيطا إخباريا مباشرا يتوافق مع المعايير النحوية والبلاغية المعهودة.
إن شاعرنا ومن خلال تمكنه من ناصية الشعر من جهة، ومجاراته لطبيعة شعر الجاهليين المشهود لهم بالباع الطويل في نقل الصور الحسّية من جهة أخرى، ثم الانحراف إلى صور معنوية متراصة تسموا عن المحسوس المُشاهد، نراه أخلط على المتأخرين مجرد تذوق شعره فأنى لهم الحكم عليه!
ومن ضمن هذا العدول في شعر ابن الفارض ما وقفنا عليه في قصيدته التائية الكبرى التي هي بين أيدينا اليوم، خصوصا التراكيب التي حشرها حشرا وحشدها حشدا وزجّ بها في ثنايا هذه القصيدة، فقد تنوعت التراكيب بين البنى الفعلية والإسمية والشرطية والظرفية وهو مستوى الخبر، وظهر المستوى الطلبي في الورود المكثّف للتمني والاستفهام والنداء والنهي بالإضافة إلى قيم أسلوبية أخرى أَثْرَت النص الشعري كحشد الضمائر والروابط وممارسة تبديلات في التركيب مثل التقديم والتأخير والحذف، وهذا ما سنقف عليه في هذه الدراسة.
إن أهم ما يميز تائيتنا هو أنها تحيد عن الخط العام الذي رسمه النحاة وما وضعوه من قواعد،  فهي لا تحترم التركيب المقنن بل تثور عليه، فالبيت كما يبدأ بفعل وفاعل قد يبدأ بالاسم كالمبتدأ، وقد يحدث تقديم وتأخير، فهو ليس كلاما مباشرا، بل غايته تسخير كل الوسائل اللغوية المتاحة لإحداث التأثير، ولهذا:"حرَّض عبد القاهر-الجرجاني-الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات"(2)،  أو كما عرَّف العرب القدامى البلاغة على أنها :"بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفيَّة التراكيب حقها"(3).

مفضلات الشهر من القصص القصيرة