- الهرمينوطيقا الفويرباخية
لذلك تؤكد الكريستولوجيا أن “الله كلمة لا معنى لها إلا الإنسان”: هناك حقيقة واحدة فقط، الإنسان، والله ليس سوى طريقة لقولها. "الله" إذن هو مجرد كلمة لا تتعلق بجوهر "الله"، كما يقتضي اللاهوت، بل بجوهر "الإنسان": يقال الإنسان في الله. وهذا ما سمح لفويرباخ، كما في "جوهر المسيحية"، بوصف ونقد هذه العملية انطلاقا من اللغة نفسها. إن العلاقة بين الواقع والفكر يتم تقديمها بالفعل على نموذج العلاقة بين الفكر، أو ما هو مستهدف من قبله، وما يقال. لكن "بالنسبة إلى القصد (Meinung)
تكون الكلمة دائما ضيقة جدا، كما هو الحال بالنسبة إلى إلهك": ما يقال لم يعد هو المفكر فيه. المماثلة ناطقة: في الMeinung
لدينا هدف فردي، نية تظل "لي"، أي في "قدرتي"، بينما يصبح ما يقال مستقلا وثابتا، خارجا عمن يقول. ومن ثم يخاف الإنسان أمام الله كما يخاف أمام كلماته. تستخدم هذا المماثلة مع اللغة لفهم العلاقة بين الله والمسيح: المسيح هو كلمة الله، تخارج الكلمة ويقينها. تعود هذه الكلمة المحسوسة إلى أنثروبولوجيا فويرباخ الحوارية القائمة على تكامل مبادئ النزعة الحسية و"نكران الذات"، أي تكامل طبيعة الفكر الذي يمكن الوصول إليه عن طريق الحواس وواقعة أن المفكر مرتبط بالضرورة بـ "أنت". ضمن ذلك، يجمع فيورباخ بين أطروحة مثالية، وهي نظرية التخارج الضروري وبالتالي الوساطة ليصبح نفسه في العودة إلى ذاته، وليتحرر كونه عاد إلى الذات في الكائن الآخر ، ونقد المثالية حيث يكون الإنسان على الفور معطى لذاته في الحساسية. توجد هذه المبادئ في قلب ما كتبه فيورباخ عن لوثر، حيث تأخذ اللغة دور النموذج الأساسي:
"الله ببساطة يخبر الإنسان بما يفكر فيه الإنسان بصمت في قرارة نفسه، دون أن يجرؤ على قول ذلك لنفسه. ما أعمل سوى على قوله والتفكير فيه عن نفسي هو - على الأقل ربما - خيال؛ ولكن ما يقوله الآخر أيضا عني هو حقيقة. للآخر في الحواس ما ليس عندي إلا في الخيال".
اختراع الواقعية على الحدود بين الواقع والمثال - د.زهير الخويلدي
تمهيد
في الفلسفة، تقوم الواقعية على الاقتناع بأن الواقع موجود خارج الفكر ومستقل عنه. ولذلك فإن المصطلح يتعارض مع المذهب المعاكس: المثالية. ومع ذلك، فإن التمييز بين هذين الاتجاهين دقيق. يؤكد أفلاطون أن الأفكار المعقولة التي نسخها العالم المحسوس هي أفكار حقيقية، في حين أن أرسطو، الواقعي، يجعل فئات الفكر خصائص للوجود. أثناء النزاع حول الكليات في العصور الوسطى، أكد الواقعيون (غيوم دي شامبو، وإلى حد ما توماس الأكويني وجون دونز سكوت) على أن المفاهيم تأتي بعد الأشياء (ما بعد الكياناتالعينية) وليس قبلها (ما قبل العينية)، كما يؤكد الاسمانيون (وليام أوكهام) أو في نفس الوقت (في العينية) كما يعتقد المفاهيميون (بيير أبيلارد). يجعل نقد كانط من الممكن الجمع بين كل من الواقعية التجريبية والمثالية المتعالية، حيث يتم تأسيس الظواهر علميًا بينما يظل الشيء في حد ذاته بعيد المنال عن المعرفة. لكن بعد تحررها من الميتافيزيقا، تؤكد الواقعية العلمية للقرن العشرين، التي تطالب بها دائرة فيينا، حقيقة العالم وإمكانية تمثيله بأمانة من خلال اللغة. وفي السياسة، تهدف الواقعية، وخاصة سياسة الواقعية الألمانية التي افتتحها بسمارك، إلى أن تكون مناهضة للطوباوية والمثالية. في علم الجمال، تشير الواقعية إلى حركة تصويرية (يهيمن عليها كوربيه) وخاصة الأدبية، التي ظهرت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر كرد فعل ضد الرومانسية. وحرصًا على تمجيد الواقع، يعتمد الكتاب المصنفون في هذه الحركة (بلزاك، وفلوبير، وزولا) بشكل خاص على حاسة الملاحظة القوية والتوثيق القوي لإنتاج أعمالهم. وفي القرن العشرين، عارضت السريالية هذه الجمالية الواقعية من خلال جعل عالم الأحلام ينتصر على الواقع. لكن الواقعية هي موقف، وليست فقط عقيدة فلسفية. هل تستمر الأشياء من حولنا في الوجود عندما ندير ظهورنا لها؟ وهذا ما نفكر فيه بشكل عفوي. لكن ما هو أصل هذا الاعتقاد الذي يبني إنسانيتنا، بحسب إتيان بيمبنيت؟
الموضوع الوعي القصدي والصدف الغفل - علي محمد اليوسف
في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة). وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى.
الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.
كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا.
تحقيق الوجود بالتفكير المجرد - علي محمد اليوسف
تصدير مقتضب : قرأت عبارة جدا مختصرة تنم عن عبقرية فيلسوف اللغة الامريكي وليفريد سيلارز 1912- 1989 قوله (الوجود لغة) وارجو ان لا يفهم منها انها تفكير مثالي يعني ما ليس له وجود ادراكي بالذهن لا وجود له بعالمنا الخارجي.. فالعقل في تجريدنا له من تعبيراته اللغوية الصورية عن موضوعاته يصبح عجينة بيولوجية وظائفية تزن كيلو غراما وربع تحتويها جمجمة الانسان تسمى الدماغ. الذي في حال نزعنا عنه خاصية التفكير وتعبير اللغة يصبح عندها اننا بذلك نحصر فاعلية العقل انه جوهر بيولوجي فيزيولوجي مهمته اشباع حاجات الجسد الفطرية الغريزية منها والبيولوجية التي تديم حياة الانسان في صمت تفكيري لغوي غير صوتي. طبعا لا يفهم من هذا أن الصمت ليس لغة أبجدية صورية.
الوجود في الكوجيتو
ورد في كتاب جان فال ( الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر) ترجمة فؤاد كامل مسالة تحقق الوجود في عبارة ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" التي اشبعت تفسيرا وتقويلا ومترادفات وتحويرات على امتداد اربعة قرون من تاريخ الفلسفة.
كما اشرنا والعهدة على جان فال ان تحقيق الوجود ويقصد به وجود الانسان انطولوجيا كينونة قائمة مستقلة بذاتها من خلال تفسيره للكوجيتو الديكارتي انه جعل من التفكير (وسيلة وموضوع) معا وبذلك تنتفي المطالبة السفسطائية بماذا كان يفكر ديكارت. فقال لنقل – الكلام لجان فال – ان ديكارت كان يفكر بالتفكيركموضوع. يعني التفكير بالتفكير. وبهذا التخريج السفسطائي قضى جان فال على مصطلح الوعي القصدي لبرينتانو الذي اعتمدته فينامينالوجيا هوسرل وكذلك الفلسفة الوجودية.
حسب جان فال فقد جعل من الذات وعيا تفكيريا تجريديا ففي الوقت الذي تحقق الانا ذاتيتها تفكيريا تجريديا فانها تحقق بذلك الوجود الانطولوجي للجسد كاملا حينما تجعل التفكير موضوعا منفصلا عن ماهية الذات او الانا. من جهة اخرى فتحقيق الذات لوجودها الانطولوجي لا يحصل بالتفكيرالمجرد بليتم بالمغايرة الموجودية مع الآخر ضمن مجتمع.
الوعي في متناقضات فلسفة الظواهر - علي محمد اليوسف
الذي يتمّعن بادبيات وتنظيرات فلسفة الظواهر (الفينامينولوجيا) يعثر على العديد من المتناقضات الفلسفية التي تدور في حلقة دائرية مفرغة من المعنى المنطقي الفلسفي الذي نعرض بعضها بهذه المقالة.
اعترف احد فلاسفة الظواهر التي جاء بها هوسرل قائلا " ان الوعي الذي تحلله لنا فلسفة الظواهر ليس بأي حال من الاحوال وعيا منخرطا في الواقع او وعيا متضمنا في التاريخ" نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.
وطبيعي جدا ان يتهم الماركسيون بان الوعي الظاهراتي خرافة لا معنى ولا وجود حقيقي له في الفلسفة الظاهراتية. وفلسفة الظواهر ليس لها قيمة حسب الماركسيون لانها خارج الزمن والواقع والتاريخ.
رغم ان هوسرل اراد الاقتراب فلسفيا جدا من العلم كما فعل من قبله ديكارت واسبينوزا وبيرتراند راسل وجماعة حلقة اكسفورد المنطقية الوضعية التحليلية التجريبية. الا انه سرعان ما يسقط في براثن المثالية الفجّة حين يجد في الوعي الذهني هو الذي تحمل قصديته المعنى التي يسقطها على الواقع والتاريخ والطبيعة.
اي ان الواقع بموجوداته وعالمنا الخارجي بمحتوياته ومواضيعه لا معنى لها مالم يتناولها الوعي القصدي الظاهراتي بمعرفتها هو وليس باستقلالية موجودية تلك الموضوعات ان يكون لها معنى خارج تناول الوعي القصدي لها. ومن بديهيات التفكير العلمي ان المدركات المادية هي التي تمنح الفكر معنى مايقوله ويعرفه. ولا يوجد فكر بلا موضوع له معنى.
يذهب هوسرل في فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحددها الوعي القصدي وليس هناك من موجودات لا في الطبيعة ولا في الانسان ولا في عالمنا الخارجي فهي غائبة وجودا بغياب الوعي القصدي لها.. وهذا خطأ انك لاتعترف بوجود الاشياء قبل التفكير القصدي المراد تحقيقها بموضوعات الادراك.
هذا معنى تعبير احد فلاسفة الظواهر قوله الوعي القصدي غير منخرط لا في الواقع ولا في الطبيعة ولا في التاريخ. سبق للثلاثي ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي اقطاب المثالية المنطقية التجريبية انكارهم وجود عالم خارجي خارج التفكير الذهني. الغريب ان هؤلاء الفلاسفة تجريبيين اي يؤمنون بالعلم ومخرجاته.
تعترف فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحدد موجوديتها ومعرفتها الوعي القصدي. ولا قدرة لتلك الموضوعات الموجودة مستقلة عن التفكير الذهني الافصاح عن ذاتيتها الموجودية. ويوجد فرق كبير ان تقول مع سيلارز الوجود لغة. وبين ان تقول لا وجود خارج منطق اللغة.
وتنكر فلسفة الظواهر المواضيع الصدف وما يصفها هوسرل بالمواضيع الغفل التي تقاطع الادراك بها من دون وعي قصدي سابق عليها يمنحها معنى وجودها. كما تعتبر الوعي القصدي هو الذي يحدد المعنى في الموضوعات وفي الموجودات.
الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني عند جون ديوي - د.زهير الخويلدي
تمهيد
يقوم الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بتحديث فكرة الطبيعة البشرية في كتاب لم يُنشر من قبل باللغة الفرنسية ويستخلص كل النتائج منها على المستوى الأخلاقي والاجتماعي من أجل تبرير المفهوم التحسيني للتجربة. من المحاضرات التي ألقيت في عام 1918 في جامعة ستانفورد حول موضوع "السلوك الإنساني والمصير"، والتي تم إعادة صياغتها وتوسيعها بشكل كبير، يقدم كتاب ديوي هذا الذي نُشر في عام 1922 وترجم لأول مرة إلى الفرنسية نظرة عامة منهجية لمفهومه عن علم النفس والسلوك الإنساني وانعكاساته الأخلاقية والسياسية. إن طموح علم النفس الاجتماعي المتطور في الطبيعة البشرية والسلوك ذو شقين. يتمثل التحدي الأول، من خلال الفحص النقدي لمفهوم الطبيعة البشرية، في تسليط الضوء على العلاقات الديناميكية والعلائقية التي تشكل السلوك الإنساني وتفسره، بينما يستخلص الثاني جميع النتائج المتعلقة بضرورة وإمكانية التقدم الأخلاقي والتحسين التدريجي. في الظروف المعيشية للأفراد. فماهي عناصر الطبيعة البشرية حسب ديوي؟ وكيف تصور محددات السلوك الإنساني؟
إعادة النظر في الطبيعة البشرية: العادات والدوافع
بين منهج "يؤكد على الطبيعة البشرية الأصلية والأصيلة" وآخر "يعتمد على تأثير البيئة الاجتماعية" لتفسير السلوك البشري، يجب على علم النفس، وفقا لديوي، أن يفتح طريقا، بعيدا عن معارضته. فالفرد والمجتمع في حالة انقسام عقيم، على العكس من ذلك، سيسعى إلى فهم كليهما من خلال تفاعلاتهما. طموح الفصلين الأولين، المخصصين على التوالي لدراسة العادات والدوافع، هو تفسير هذه الديناميكية بين القوة المحددة للظروف البيئية الاجتماعية على السلوك من خلال اكتساب العادات، من ناحية أخرى. اليد، وهي التعبير عن الميول الفطرية والعفوية، والتي يشار إليها بالنبضات. يسعى ديوي إلى إظهار أن الطبيعة البشرية ليست بأي حال من الأحوال واقعًا ثابتًا أو حتى وهمًا، بل هي واقع اجتماعي وتاريخي يتطور. فهو يحدد جميع قدرات الإنسان على الفعل باعتباره كائنًا اجتماعيًا وعضويًا، وهو بالضرورة جزء من بيئة يتفاعل معها باستمرار، والتي لا يمكن تجريده منها إلا على حساب تشويهات خطيرة. يعد نقد علم النفس الفردي لليبرالية مثالًا جيدًا لكيفية استخلاص التصرفات المتعلقة بالظروف الاجتماعية التاريخية وتحويلها إلى مجموعة من السمات الثابتة والسوابق للسلوك. وفقًا لديوي، كان الخطأ الأساسي في الفلسفة الليبرالية هو تصور الفرد على أنه كائن منفصل عن المجتمع ويحمل تفضيلاته وبنيته الخاصة.
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث) - أحمد رباص
في المرحلة الرابعة من هذه الجولة الفلسفية، وقع اختياري على مقال للفبلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ كتبه ونشره سنة 1848 تحت عنوان: "الطريق نحو الحقيقة والحرية، ملاحظات حول جوهر الإيمان بحسب لوثر". والجدير بالذكر أن فيورباخ اختتم بهذا النص إحدى أكثر الفترات إنتاجية في فكره. وإذا كانت انتقادات اللاهوتيين والظروف السياسية تفسر تحول فيورباخ إلى دراسة لوثر، فإن الحقيقة تظل أن أهميتها تكمن في الحوار مع من يسميه "الإنسان الأول": بالنسبة إلى فويرباخ كقارى للوثر، فإن الله الموحود لأجل الإنسان ألغى نفسه كإله في ذاته عندما أصبح محسوسا في المسيح، وأظهر، بإدراكه كمحبة، التكامل بين محبة الذات ومحبة الآخر. هكذا نجح فيورباخ، وهو يواجه المسيحانية اللوثرية، في تحقيق التوليف بين ماديته الحسية واختزاله الأنثروبولوجي لجوهر الله في جوهر الإنسان.
في نص منسوب منذ فترة طويلة إلى ماركس، نُشر عام 1843 في كتاب "حكايات عن الفلسفة الألمانية الجديدة" لأرنولد روج بعنوان "لوثر حكما بين فيورباخ وشتراوس"، يعارض فيورباخ لوثر مع اللاهوتيين مثل شتراوس، وتتم مماثلته مع الفلاسفة التأمليين، ويتمثل نفسه كشرط لإمكانية الخلاص:
"أيها المسيحيون، اخجلوا، وأنتم المسيحيون الٱخرون المثقفون والعوام، المتعلمون والجهلاء، اخجلوا من التزام مناهض للمسيح بأن يظهر لكم جوهر المسيحية في شكلها الحقيقي المكشوف! وأنتم، أيها اللاهوتيون والفلاسفة التأمليون، أنصحكم بتحرير أنفسكم من مفاهيم وأحكام الفلسفة التأملية القديمة إذا كنتم تريدون الوصول إلى الأشياء كما هي، أي إلى الحقيقة. بالنسبة إليكم ليس هناك طريق آخر إلى الحقيقة والحرية إلا عبر جدول النار. فيورباخ هو مطهر الحاضر".
هذا ما أعطى مقياس تأويل فيورباخ للوثر والأهمية التي كان يوليها له. في ختام أحد أكثر مراحل فيورباخ إنتاجية، في الوقت الذي كان يتم فيه تجميع "جوهر المسيحية" (1841 و 1843) و"مبادئ فلسفة المستقبل" (1843)، كان من المقرر أن يظهر لوثر في عام 1844، في نهاية الفترة التي انجذب فيها إلى راديكالية الشباب الهيغليين، ولا سيما من خلال اتصالاته مع جورج هيرويغ وأرنولد روج. لكن فيورباخ ليس مؤلفا سياسيا، ولا يريد أن يكون ثوريا، وبالرغم من أنفه تقريبا، ألقى دروسا حول جوهر الدين خلال الفترة من ديسمبر 1848 إلى مارس 1849، بناءً على طلب طلبة من هايدلبرج وأمام جمهور متنوع. في غرفة بفندق مدينة هايدلبرغ، بعد أن رفضت الجامعة أن تفتح له مقراتها. وهذه المحاضرات، حسب رأي فويرباخ نفسه، هي “نشاطه العام الوحيد خلال هذه الفترة الثورية”. غير أنه كان من الصعب الانطلاق في التفكير النظري لنقد اللاهوت والدين دون الشعور بالتبعات السياسية على الفور، ولا سيما من خلال نشاط الرقابة. وبعبدا عن كونه ثوريا، أراد فيورباخ مع ذلك أن يكون مصلحا. تحمل العديد من كتابات الأربعينيات هذا الادعاء في عناوينها، وهي تردد بوضوح صدى لوثر.
علامات الكارثة والاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به - د.زهير الخويلدي
تمهيد
يوضح ليفي-برول أن المجتمعات البدائية كانت يقظة للعلامات التي تعلن عن الكوارث، على الرغم من عدم القدرة على التنبؤ بها. وهذا ينبغي أن يلهمنا، نحن الذين يجب أن نكون في حالة تأهب اليوم. فماهي العلامات الدالة على قدوم الكوارث؟ وكيف يمكن التوقي منها والاستعداد لتجنب المخاطر والأضرار؟ والى أي مدى يجوز لنا أن نتفق مع أطروحة فريديريك كيك حول الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به؟ وهل يجوز لنا أن نتحدث عن علوم اليقظة عند حدوث الظواهر غير الاعتيادية والاحتراس من المخاطر؟
زمن الكوارث فرصة لإعادة اكتشاف البدائي فينا
يمكننا أن نتوقع وقوع كارثة ـ فمن الصعب التنبؤ بها: فنحن نتوقع كارثة مناخية أو أوبئة، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالتاريخ، أو الحجم، أو المدة، ولا كل العواقب. ومن ثم، يجب على الغرب أن يبتعد عن المفهوم الغربي المحدد للطبيعة باعتبارها مجموعة من الظواهر التي يمكن التنبؤ بها والتحكم فيها ومعرفة البشر بدقة. من خلال التخلي عن اليقينيات التي لديه حول الطبيعة، يتخلى الغرب بالضرورة عن تلك التي لديه حول العقل. ثم يجد بعد ذلك تصورًا للطبيعة و"عقلية" ليستا - أو لم تعدا - خاصته، ولكنها تنتمي إلى المجتمعات التي وصفها علماء الأنثروبولوجيا في القرن الماضي بأنها "بدائية". في الواقع، أكد ليفي بروهل (1857-1939) أن “العقلية البدائية” تتجاهل الروابط السببية، فكل الأحداث لها أصل باطني. بالنسبة لهذه العقلية، ليس هناك مجال لمحاولة التنبؤ بالأحداث: على الأكثر يمكننا أن نتوقعها، وأن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها - يقظة تختلف عن "الحصافة" القديمة التي لا تعد فيها فضيلة فكرية. العقلية البدائية تفسر ولا تحسب (ص130). ويجد الغرب هذه العقلية في نفسه عندما يتحدى مسار الأحداث قدرات التنبؤ العقلانية. إن القرن العشرين مليء بهذه الأحداث، أو الكوارث، التي لا يمكن التنبؤ بحجمها وفظاعتها؛ أقصى ما يمكننا فعله هو أن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها. ومع ذلك، فإن المدرسة الفرنسية للأنثروبولوجيا - من دوركهايم إلى ليفي برول، مرورا بموس وهيرتز - معاصرة لهذه الكوارث (الحربين العالميتين، وتفشي معاداة السامية، وما إلى ذلك). من خلال دراسة حياة ليفي-برول وعمله، يحاول ف. كيك إثبات أن هذه المعاصرة ليست محض صدفة: فوفقًا له، تصور ليفي-برول الأنثروبولوجيا على أنها "علم اليقظة" (ص 9) - وهذا يعني كعلم يدرس الطريقة التي تفهم بها المجتمعات البدائية ما لا يمكن التنبؤ به - وباعتباره "علمًا يقظًا" (ص 9)، والذي يوضح بالقدوة كيفية الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به. كان عمل ليفي برول السياسي متسقًا مع تفكيره: فقد شارك عام 1934 في تأسيس لجنة اليقظة للمثقفين المناهضين للفاشية، وسعى إلى التحضير لوصول المثقفين اليهود الذين أُجبروا على الذهاب إلى المنفى في الولايات المتحدة (ص). .203). في هذا الكتاب، الذي يعتمد على أرشيفات العائلة وعلى مناقشات مع أحفاد ليفي-بريل - مما يجعله مجموعة قيمة للغاية من المعلومات المفيدة لفهم أفضل لعمله - يساهم ف. كيك في "سلسلة نسب الاستعداد للكوارث". (ص221).
الذرائعية والواقعية الجديدة في الفلسفة الامريكية - علي محمد اليوسف
الواقع واللغة - التعبير القاصر
اللغة في تعبيرها الفكري عن الاشياء والموضوعات دائما ما تكون قاصرة عن الاحاطة والتطابق التكاملي مع ما يدركه الوعي والفكر من تلك الموضوعات في وجودها الحقيقي الواقعي، والفكر والموجودات يبقيان مختلفان من حيث علاقة التفاوت في ترابط الفكر- اللغة بالموجود في حقيقته...ويبقى الفكر الأدراكي عاجزا عن استيعاب الوجود تماما الذي يبقى على الدوام محتفظا بما يراه مدّخرا فيه كفائض معنى غير مكتشف ولا مدرك في العديد من الجوانب المحجوبة عن الادراك الحقيقي للموجودات والظواهر.. الوعي الادراكي الحسي للموجودات وتناول العقل لإحساسات تلك الموجودات الواصلة اليه ليس شرطان كافيان للتسليم بحقيقة الاحاطة والالمام الكامل بتلك الموجودات..فالواقع الحقيقي للأشياء يختلف عن الوعي الادراكي لها والتعبير عنها بمنطق ولغة العقل..
القديس أنسلم 1033 – 1109 كان وصف هذا التفاوت في القرن الحادي عشر بين تعبير اللغة القاصر عن الاحاطة بالأشياء المدركة قائلا ( أن وجود شيء ما في الذهن فقط هو أدنى من وجوده في الواقع) وهو تعبير دقيق في تشخيصه الحالة التي تكلمنا عنها، فالعقل لا يستطيع أدراك الوجود على حقيقته في تطابق الشيء مع دلالة الفكر - اللغة في التعبير عنه تماما.. فالعالم المدرك بمكوناته وظواهره التي لا تحصى ولا تحد لا يقف الوعي بها وأدراكه لها عند حدود تفكير العقل وتعبير اللغة عن بعضها. فالعالم بلا محدوديته كفضاء يستوعب الطبيعة والانسان أكثر مما يستطيع الانسان والعقل واللغة أستيعابه والأحاطة به..
فالعالم بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هو فضاء لا متناه لا تحّده عقولنا المحدودة الادراك ولا اللغة المعبّرة عنه في كل أشكال تمّثلاته الذهنية.. ويعتبرلودفيج فينجشتين أن حدود اللغة عند الفرد التي يعبّر بها عن العالم هي ذاتها حدود أدراكه وفهمه عالمه بما يستطيع الإحاطة به من خلال تعبير الفكر - اللغة عنه....لذا فهو لا يستطيع فهم وادراك العالم ليس على حقيقته وحسب وأنما حتى على صعيد عدم معرفة مكوناته وظواهره اللامحدودة.
طبيعة الإدراك في الفلسفة - علي محمد اليوسف
الإدراك والوعي
في البدء الإدراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو احساسك الانطباعي لموجوديته كموضوع مستقل له خواص خارجية وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية.
اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر او الماهيّة لا تدركه الحواس. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومضمونه.
وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة موحدة شكلا ومحتوى مستقلة؟ هذه مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوجزها بكلمات:
اولا قابلية الإدراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط. ويرتبط الإدراك والوعي برابطة تكاملية كونهما حلقتين في منظومة العقل الإدراك ية .
ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه له معنى كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الاستيعابي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة في الخطوط. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة او مربّع وهكذا. أي أن أبعاد اشكال الخطوط الهندسية المرسومة غير المنفذّة واقعيا المجردة أعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا تصوّريا فقط متفردا هندسيا غير موجود بالواقع بل هو مرسوم على ورق او سلايد او لوحة وسيلة ايضاح وهكذا...
ثالثا الإدراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالإدراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الموجودية البائنة للادراك الخارجي. اما الوعي المعرفي للشيء المدرك انطباعيا حسيّا فهو يستطيع ادراك ماوراء الصفات الخارجية اذا ما اتيحت له وجودا كموضوع مستقل.
الحقيقة والمنطق - علي محمد اليوسف
يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.
ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة.
والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.
منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.
وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية. الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.