في جذور العطالة السياسية في المجتمعات العربية - د. برهان غليون
والواقع أن النظم العقائدية التي كانت تعتمد على الحزب الواحد، وعلى التعبئة الحماسية، الحقيقية والمصطنعة معا، تفقد كل مقومات وجودها ومؤهلاتها الإنسانية منذ اللحظة التي تتفتت فيها عقيدتها أو تذبل وتموت. فهي تتحول عندئذ إلى نظم تسلطية من دون أي غلالة سحرية. ويتخذ الحكم فيها أكثر فأكثر طابع السطو المسلح على حياة الناس وأرزاقهم ومصائرهم. وكانت عقيدة النظام الشمولي الفعلية، في كل مكان وبصرف النظر عن اختلاف الثقافات والأديان، وجود الرئيس -الرب نفسه وتجليه في الحياة العمومية والخصوصية. فلم يكن هو مؤسس النظام ومحركه فحسب ولكنه كان روحه وإلهامه في الوقت ذاته. وفي جميع هذه النظم، العربية وغير العربية، كانت وفاة الزعيم الرب بمثابة خروج الروح من الجسد.
وليس المقصود بالنظام السلطة القائمة أو القائمين عليها، ولا تلك الذئاب الكاسرة التي تغرس أنيابها وكانت تغرسها من قبل في قلب الحي لتنتزع منه الحياة وتستملكها، ولكن جميع أولئك الذين كيفوا أنفسهم مع الموت وأتقنوا تجارته. وهم غالبية كبرى من الناس الذين قطعوا الأمل بحياة مدنية طبيعية وقبلوا، كلاً حسب ظروفه وإمكانياته، بالعمل والحياة خارج أي أطر قانونية وتأقلموا مع مبدأ اقتناص الفرص والمكاسب الخاصة والاستثنائية والاكتفاء بما يتوفر لهم من المصالح والمنافع الصغيرة اليومية.
فالفرد الذي لا يتردد في استخدام الرشوة أو التملق والانتهازية في سبيل الحصول على منافع وامتيازات خاصة وتجنب المنافسة الطبيعية، مثله مثل غيره كثيرين ممن يعتقدون، بطريقة أو بأخرى، أنهم مستفيدون استفادة غير قانونية وليس عليهم أن يغامروا بشيء من أجل تعديل النظام، بل إن تعديل النظام يقلل من مكاسبهم المكرسة المعنوية أو المادية. وكلهم يشكلون قوة عطالة حقيقية تسمح للنظام الجثة بأن يستمر بالرغم من الرائحة الكريهة التي تزكم الأنوف. فكل واحد من هؤلاء يجعل من منفعته الخاصة الاستثنائية كمامته الحقيقية التي تمنعه من شم رائحة الجثة المتعفنة وتمكنه من التعايش معها.