أنفاسإن المتتبع لخطاب الفكر العربي المعاصر، سيلحظ ولاشك كثرة تداول مصطلح الديمقراطية إلى درجة الإملال. وكثرة تواترها حاليا يضاهي فترة غيابها السابق عن ساحة الفكر العربي. فالغياب السابق والحضور الحالي الكثيف يعكسان مرضا عربيا في التعامل مع الأفكار وطريقة استخدامها. إن غيابها السابق كان سياسيا أكثر مما هو واقعيا وكذلك تواترها الحالي يخضع للاستخدام الآني من قبل الأنظمة والمعارضات والأحزاب والإعلام أكثر مما هو حقيقة راسخة في فكر هذه الأنظمة ومعتقداتها.
الديمقراطية التي دخلت الفكر العربي من أوسع أبوابه بعد التسعينيات – خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي – لم تدخل نتيجة نمو داخلي أو تمخضات أسفرت عنها البنية الداخلية للمجتمعات العربية أو نتيجة تغيير ما طرأ على بنية الأحزاب العربية السلطوية والمعارضة في آن، بل نتيجة الفراغ الذي خلّفه سقوط الاشتراكية بنسختها السوفياتية الرثة. وحسب نظرية الفراغ : ( لا يوجد فراغ، وإن هذا الفراغ إذا وجد فسوف ينشأ شيء ما ليملأه). ومن يستطيع ملء الفراغ غير الإيديولوجية المنتصرة ؟
هكذا إذن دخلت إيديولوجيا الديمقراطية ( وهنا نفرّق بين الديمقراطية كإيديولوجيا وبين الديمقراطية كفكر وممارسة حياتية ويومية ) أرضا تعاني هزيمة شبه مطلقة، وغيابا كاملا لأي مشروع، فوجدت أرضا خصبة للتبشير والعبادة، حيث تحولت الديمقراطية إلى مشروع خلاص إلهي أكثر مما هي مشروع خلاص يومي وكفاحي ونضالي، يستلزم الغوص في وحل الواقع المر والبحث عن إمكانات الفعل فيه، والعمل على تبئية الديمقراطية - كفكر وممارسة - بالعمل اليومي والتدريب الشاق والتعلّم والخطأ ومحاولات تصحيحه التي لا تنتهي. الأمر الذي يجعلنا نرصد في الواقع العربي تناقضات مرعبة في طريقة التعامل مع الديمقراطية : فالحاكم الذي يحكم شعبه بالنار والحديد، و المثقف الذي يعامل زوجته وفق ثقافة الحريم، والمعارضات العربية التي لا تختلف عن السلطات التي تنتقدها بالكثير، كلهم يطرحون مشاريع عن الديمقراطية !

أنفاسممّا لا شكَ فيهِ أنَّ مبدأ المُساوّاةِ بينَ البشر، على اختلافِ انتماءاتِهمُ العقديّةِ والفكريّةِ والسياسيّةِ، قد تشكّلَ عبْرَ آلافِ السنين بلْ ولا يزَالُ في طورِ التشكُّل حتى الآن. ولعلّ مرورَهُ بتلكَ الحُقبِ الزمنيّةِ المديدةِ قدْ سَاهَمَ بدورهِ في غموضه للدَّرجة التي أصبح فيها من الصعوبة بمكان الوقوفُ على معْنَاهُ وفهمُ طبيعته. وآيةُ ذلكَ، أنَّ ما نَفْهَمْهُ اليومَ من عبارة " المُساوّاةِ" يختلِفُ اختلافاً كبيراً عمَّا كانت تَعْكِسْهُ من معنىً لأيٍ من مُواطني أثينا إبّانَ عَهْدِ بيركليز، على سبيل المثال.
بل لعلَّنا نُفاجأ إذا مَا علِمنَا أنَّ أرسطُو لم يَجِد أدْنَى غَضاضةً في أنْ يُصرّحَ في كتابِهِ "السيّاسة" بأنَّ الفِطرَة هي التي أرَادتْ أنْ يكُونَ البرابِرة عبيداً لليونان، وأنَّ الآلهةَ قد خلقَتْ نوعينِ منَ البَشرْ: نوعٌ رفيعُ المقامِ زوّدَتهُ بالإرادةِ والعقل، وهم اليونانُ بطبيعةِ الحال، وآخرٌ لمْ تُزوّده إلا بالقوةِ الجُسمانيَّةِ فقط، وهُم غيرُ اليونانيين!.
أمَّا في الجزيرَةِ العربيَّةِ، في حُقبة ما قبلَ الإسلام، فكانتِ الغَلبَةُ هي المِعيّارُ الوحيدُ لتحقيق السِيَّادةِ ومنْ ثَمَّ لتحديدِ مَنْ هُمُ الأحرارُ ومَنْ يكونُ العبيد، ولدرجة أنَّ بعضَ جبابِرةِ العرب كانوا يقيسُونَ عِزَّهُم بإذلالِهم للآخرين!
ومَعَ أنَّ الإسلام أقرَّ المُساواةَ بينَ الناس بعدم تقرير التَّمايُز بينَ البشر لأي سببٍ كان؛ إلا أنَّ الواقِعَ التطبيقيّ لمبادئِه (خاصَةً في المراحِلِ المُتاخِرة) كانَتْ أبعَدَ مَا تكونُ عن ذلك بحيثُ أدَّتْ، فيما أدَّتْ، إلى إحداثِ نوعٍ من العِلاقاتِ غيْر المُتوازنّةِ على مُستوى كُلٍّ مِن: توزيعِ السُلطة، واختزالِ العِلاقاتِ الاجتماعيَّةِ فى نمطٍ ثُنائِيٍّ من السيَّادَةِ والتّبعيَّةِ، ممَّا أدى إلى تهْمِيشِ القُوى الفاعِلة في عمليَّة الإنتاج، والمُشاركةِ السياسيَّة...إلخ.

أنفاستجابه البشرية في عصرنا الحاضر واحداً من أخطر الأمراض الخبيثة التي تصيب المجتمع الإنساني، ذلكم هو الإرهاب الوحشي البشع بشتى صوره وأشكاله ودوافعه، والذي استشرى في المجتمعات البشرية، حيث تحول إلى عمل جماعي منظم [عصابات الجريمة المنظمة]، وحيث تمارس هذه المنظمات الإرهابية أساليب حديثة ومبتكرة لتنفيذ جرائمها الوحشية، مستعينة بالتطور التكنولوجي من جهة، وثورة الاتصالات التي أحدثها الانترنيت من جهة أخرى، وتنوع مصادر التمويل، بما فيها المخدرات، من جهة ثالثة، لتنفيذ جرائمها بحق المجتمع الإنساني، مما حول هذا الداء إلى معضلة عالمية خطيرة تتطلب معالجتها واستئصال شأفتها جهداً دولياً تتولاه الأمم المتحدة، وتشارك فيه كل دول العالم لدراسة وبحث الأسباب التي أدت إلى انتشار وتوسع ظاهرة الإرهاب من جهة، والوقوف على العوامل والدوافع التي تشجع هذا السلوك، والوسائل الكفيلة بمعالجة هذه المعضلة.
ولكي تجري معالجة هذا الداء الخطير ينبغي تحديد العوامل التي تشجع على الإرهاب وانتشار عصابات الجريمة المنظمة في مختلف بقاع العالم. وتحديد أنواع الإرهاب ودوافع من يمارسها، وتحديد الوسائل الكفيلة للتصدي للإرهاب واستئصاله من المجتمع.
وعلى عالم الأغنياء أن يدركوا إن الإرهاب لا يمكن معالجته بوسائل العنف وحدها، وقبل استنفاذ كافة الوسائل الأخرى، ويأتي في مقدمتها العامل الاقتصادي، والتخلف الذي يسود قطاعاً واسعاً من المجتمع الإنساني، وتأثير المدارس الدينية، ورجال الدين، والأحزاب الدينية على عقول الناس البسطاء الواقعين تحت تأثير الجهل والفقر والبطالة والجوع والتشرد، واستغلالهم، واستغلال الدين لتحقيق أهداف وأجندات ومصالح سياسية.
إن معالجة حقيقية على مستوى العالم لمشكلة الفقر والبطالة والجوع والحرمان هي أول وأهم الخطوات التي يجب اتخاذها لمكافحة الإرهاب ذلك لأن العامل الاقتصادي هو العامل الحاسم في خلق البيئة الحاضنة والمولدة للإرهاب، وعندما يشعر الإنسان بالغبن و يقارن بين الحياة التي يحياها مع حياة الأغنياء والمترفين يجعله يفكر في أية وسيلة تحقق له حياة أفضل حتى ولو كان ذلك عن طريق الإرهاب، ولقد دعونا الدول الغنية المهيمنة على الاقتصاد العالمي أن تفكر جدياً في معالجة مشكلة الفقر والبطالة المتفاقمة، والتي يئن تحت وطأتها مئات الملايين من بني البشر، وتقليص البون الشاسع بين مستوى حياة شعوب دول الشمال والجنوب إذا كانت تفكر جدياً في مكافحة الإرهاب.

أنفاس" إن التسامح ليس فقط مبدأ يعتز به ولكنه أيضا ضروري للسلام وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي لكل الشعوب" [1]
المفارقة التي تتعلق بقضية التسامح في حياتنا اليومية أن من يتخذ  التسامح كمبدأ في حياته يتبعه ويطبقه يقع ضحية لاتسامح الآخرين وأنه لكي يستعيد ما أضاعه يذهب إلى حل غير متسامح وبالتالي فهو في وضع إحراجي هش ومتناقض لكون التسامح هو المنطلق والمبدأ من جهة والمقصد والغاية من جهة أخرى ولكن الأرضية التي تقف عليها هذه القيمة الكونية المنشودة هي أرضية غير متسامحة ومتناقضة معها ومحاطة من كل جانب بالعنف والصراع.
كما لا يمكن التطرق إلى مسألة التسامح إلا إذا عانينا كثيرا من نقيضه وعايشنا اللاتسامح الديني والصراع الاجتماعي والتكالب على السلطة والاستغلال الاقتصادي والاضطهاد للأطفال والأجانب في الأعمال الشاقة والعنف على المرأة ولا يمكن التأكيد على هذه القيمة إلا من أجل زرعها أو استنباتها ومعايشتها على صعيد الواقع الملموس ليس كفضيلة أخلاقية ينصح بها بل كمؤسسة سياسية واجتماعية قائمة الذات تفعل في الفضاء العمومي وتفعل بشكل مستمر هذا المطلب في كل الأحوال ومهما كان الظروف.
لكن المفارقة التي تبرز للعيان والمتعلقة بوضعنا زمن العولمة التي بدأت رياح الأزمة تهب بنقاط ارتكازها وتعصف بمبادئها من ناحية المال والاقتصاد والتحررية هي أننا نتحلى ظاهريا بالتسامح ونحاول نشره والتعريف به ونتمسك بالثقافة والقيم والمبادئ التي تأمر بهذه الفضيلة السياسية والأخلاقية ونربي الناشئة عليها ولكننا في مقابل ذلك نخفي لاتسامحا لاشعوريا في ذاكرتنا العميقة ومخيالنا الجماعي تجاه أنفسنا والأغيار وأحيانا تجاه الحياة بأسرها وبالتالي هناك تسامح إكراهي إلزامي مفروض علينا من طرف الأنظمة المنبطحة والمطبعة والمعدلة والخاضعة بدورها لإيديولوجيات العولمة من أجل السلامة والنجاة من التنكيل والبطش وهناك في الداخل احتجاج على هذا التسامح وجنوح نحو التشدد والثأر والقصاص بسبب ما تتعرض له الملة من تهديد وتحرشات وبسبب المخاطر الكبيرة المحدقة بالأمة والتي تصل إلى حد منع الطبقة الناشئة من الاستعداد لصنع المستقبل، فهل يجوز الحديث عن التسامح في وضع غير متسامح؟ وهل يكتسب التفكير في التسامح معناه من معايشة السلم الاجتماعي والتعايش بين الملل والنحل أم من خلال تفجر الحرب وتكاثر أشكال العنف والتصادم في الفضاء الاجتماعي؟ ألا يبدو منطق المتسامح ضعيفا يشبه إلى حد كبير الحجة الكسولة عند الرواقيين أو تعليق الحكم عند الريبيين؟ أم أن منطق اللامتسامح هو منطق أهوج لا يمكن الاستمرار فيه إلى ما لانهاية ويجلب الكوارث والويلات وينم عن ضعف وجهل ومرض ينبغي المسارعة بمعالجته؟ لكن بادئ ذي بدء ماذا نعني بالتسامح اصطلاحا ومفهوما وسلوكا وممارسة؟ وماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر من أجل تحقيقه؟ وماهي حدوده ومآزقه والانزلاقات الخطيرة التي يمكن أن يقع فيها الإنسان المتسامح؟ كيف نتجاوز حالة اللاتسامح دون اللجوء إلى الإكراه والقوة وباحترام منطق التسامح نفسه؟

أنفاسهل قدر لمشهدنا الإبداعي  أن يظل مشهدا هروبيا بامتياز, يركب الموجة تلو الموجة متعاميا عن حقيقة جذوره الضاربة في أعماق محيطه العضوي ..و في وعيه ؟ ألم يجد مبدعونا حلا آخر لتفتيت قلق الانتماء سوى اللهاث المستميت خلف حداثة لا تشبهنا , لا تحمل بصماتنا و مكوناتنا الوراثية ..؟
اسئلة لا تنتظر إيضاحا بقدر ما تروم تصريف غيظ مكتوم سببه الإقصاء غير المبرر لجزء من كياننا الحضاري و الثقافي , و إلغاء رصيد إبداعي زاخر من خارطة انشغالاتنا الأدبية و النقدية ..بل حتى الإعلامية !
الأدب الإفريقي أو الأدب الأسود رافد متميز من روافد الأدب الإنساني , ومثال رائع لقدرة الإبداع على تحقيق الانتشار و بلوغ الكونية دون الانفصال عن الموروث و الخصوصية المحلية , هذا الأدب " المسكين" أُريد له أن يغيب عن مشهدنا الثقافي على الرغم من انتمائنا إليه – على الأقل جغرافيا- و إلا كيف نفسر التهالك الغريب للدارسين و الباحثين على نقل و ترجمة كل ما يجود به أدب ما وراء البحار بغثه و سمينه , بينما لا يحظى الأدب الإفريقي سوى بالتفاتات خجولة تفرضها اعتبارات ظرفية لا غير !
أما المحاولات اليتيمة لإضاءة هذا الأدب فلم تتعد جيل الرواد ممن تزامن ظهورهم مع الحاجة إلى ملء فراغ من هذا القبيل , وأخص بالذكر ثالوث الزنوجة" ليوبولد سنغور- إيمي سيزير-ليون داماس" الذي حظي باهتمام النقاد و الباحثين للدور الطليعي الذي لعبه في كسر معيقات التواصل , ولفت الانتباه إلى خصوصية ثقافية متفردة حالت دون صعود نجمها مؤثرات شتى " مصالح الاستعمار, إعلام متواطيء...".
أما الأجيال اللاحقة فلا نعلم عنها إلا النزر اليسير , يحجبها عنا خطاب إعلامي أحادي النظرة , لايرى من إفريقيا إلا ما يريده المنتفعون من جوعها ..و تخلفها ..و تطاحناتها العرقية !  

أنفاسمن المعروف أن الصحافة الجادة في العالم كله تدفع أجرا لكتابها أو للذين ينشرون فيها مقابل مقالاتهم أو إبداعاتهم. إلا عندنا, فالكتابة مجانية والحمد لله. ولأنها مجانية فمن الطبيعي أن تتسيّب وأن ترخص وأن لا يكون لأحد حق المطالبة بتحسينها. والسؤال لماذا لا تدفع صحفنا لكتابها؟ لماذا هذا الاستهتار, مع العلم أن معظم كتابنا ومبدعينا من الطبقة ضعيفة الحال اقتصاديا؟ هذا من جهة؟ أما من جهة أخرى, فان عملية الكتابة تأخذ من وقت الكاتب أو الأديب الكثير, كما أنها تتطلب جهدا فكريا كبيرا, لماذا على هذا الوقت وعلى هذا الجهد أن يذهبا سدى ودون مقابل؟ انه سؤال مشروع. حدثني مرة أحد الأدباء اليهود, وقد التقينا صدفة في إحدى الندوات, انه لا يقبل الظهور في ندوة أو محاضرة, كما أنه لا يقبل نشر كلمة واحدة في الصحف دون مقابل, وحين عرف أننا لا نتقاضى أجرا لا من كتاباتنا ولا من ظهورنا في محاضرات أو ندوات, ضحك ساخرا وقال: إذا استدعيت مهنيا إلى بيتك ليصلح شيئا ما, هل سيسامحك بأجره لأنك أديب أو مبدع؟ طبعا لا. ونحن مهنتنا الكتابة نرتزق منها تماما مثله, إذن لماذا لا نتقاضى منها أجرا؟ كيف سنعيش إذا!!!
أدهشني كلامه لما فيه من صدق وحقيقة وواقعية. ولكن ما يحصل عندنا هو العكس ومع أن صحفنا متعددة, ولكونها كذلك من المفروض أن تكون بينها منافسة لاستقطاب خيرة الكتاب والمبدعين والأدباء. وهذا لا يتم طبعا إلا إذا دفعت لهم أجرا واحترمتهم, إلا أنها تضرب بهذه القضية عرض الحائط وأنا أتساءل من الملوم في هذا كله؟ الكتاب أم أصحاب الصحف؟ في رأيي كلاهما.
فصاحب الصحيفة لأنه لا يهتم إلا بما تدره عليه صحيفته من الربح المادي, مستعد لان يلغي مقالا كاملا مهما كان وزنه ومهما اخذ من جهد كاتبه, ومهما كانت فائدته, من اجل نشر إعلان ما, ذلك لان الإعلان مربح, لذا صارت الإعلانات أهم بكثير من قصيدة أو من قصة أو من مقال فكري أو أدبي. وأصحاب الصحف يحاولون جهدهم أن يبلعوا لا أن يدفعوا.

أنفاسإذا كانت الآثار الاجتماعية الناجمة عن هزيمة حرب عام 1948، قد تمثلت على ابرز ما تكون في صورة سيل متدفق من اللاجئين الفلسطينيين قدر عددهم آنذاك بنحو مليون نسمة، فأن أشد الآثار السياسية الناجمة عنها قد تمثل فورا في إلغاء الهوية الذاتية لفلسطين والشعب الفلسطيني. فالأرض الفلسطينية التي لم تصلها يد الحركة الصهيونية فقدت رايتها الوطنية وهويتها التاريخية، والشعب الفلسطيني تم اقتلاعه وتجزئته، وفرضت عليه قيود التنقل والإقامة والعمل ومنع من حرية التعبير والتنظيم، وقد كان لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (التقسيم) رقم 181 الصادر في نوفمبر 1947 الدور الرئيسي في التطورات والآثار السياسية  التي انتهى إليها الفلسطينيون فيما بعد.
فقد أوصى ذاك القرار الدولة المنتدبة "بريطانيا"، وجميع أعضاء الأمم المتحدة الآخرين بتبني وتنفيذ مشروع التقسيم، وارتأى هذا المشروع إلى جانب بنود أخرى، أن تقوم بعد انتهاء الانتداب دولة عربية مستقلة ودولة يهودية مستقلة، مع حدود منصوص عليها،  كما أوصى على ضم الدولتين معا إلى عضوية الأمم المتحدة. وفيما قرر الجانب  اليهودي قبول قرار التقسيم  المشار إليه، رفض الجانب العربي القرار جملة وتفصيلا وعارضته بشدة كافة الدول العربية، أما سلطات الاحتلال البريطاني فأنها لم تشأ تنفيذ القرار. بل عمدت في أول فرصة إلى الانسحاب من فلسطين تاركة البلاد لصراع غير متكافئ مفتوح،  فقد أهلت خلال ثلاثة عقود العصابات الصهيونية للانتصار بتسهيل الهجرة والتنظيم والتسليح.
انسحبت سلطات الانتداب والقوات المسلحة البريطانية من فلسطين يوم الخميس14 أيار1948، وانتهى الانتداب عند منتصف الليل، ومساء الجمعة 15 أيار، أعلن دافيد بن غور يون أمام المجلس الوطني الصهيوني المنعقد في تل أبيب عن قيام دولة إسرائيل، وقد جاء فيه –( انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 5657 عبرية 1897 ميلادية، بدعوة من تيودور هرتزل الأب الروحي للدولة اليهودية، وأعلن عن حق الشعب اليهودي في تحقيق بعثه القومي في بلاده الخاصة به، واعترف وعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917 بهذا الحق، وأكده  من جديد صك الانتداب المقرر في عصبة الأمم، وهي التي منحت بصورة خاصة موافقتها العالمية على الصلة  التاريخية بين الشعب اليهودي وارض إسرائيل، واعترافها بحق الشعب اليهودي في إعادة بناء وطنه القومي).

أنفاستعيش النخبة الثّقافية والسياسيّة في تونس على إيقاع محاولات مراجعة حقبة الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، والحدث مدعاة لعودة عديد الهواجس والتدّاعيات بمختلف تلوّناتها، تتعلّق أساسا بإعادة الوعي بتلك المرحلة. فالخطّ السياسي الذي ميّز تونس بعد الاستقلال –مارس 1956- يعدّ فريدا في العالم العربي، إن لم نقل نشازا. أوّلا: لانتهاج بورقيبة درب تحديث وعلْمنة صامتة مستندا فيهما لفلسفة فردانية وفّقت في جذب شعب بأكمله وراءها. ثانيا: لخروجه عن ثوابت وأعراف وتقاليد، ميزت ووحّدت السياسة العربية الحديثة. عبر هذين المستندين سنحاول النظر في تلك التجربة مبرزين انعكاساتها السلبية والإيجابية على التونسي من حيث بلورة توجهاته ونحت شخصيته الحديثة، ومن حيث جدلية تلك المغامرة مع الخط السائد داخل بنية الاجتماع العربي الجامعة. فبرغم المعية أو الضدية أو الحيادية التي تميز الرؤى المنشغلة بتلك الحقبة ومخلّفاتها، فإن الإقرار يسود بالاعتراف بتجذر صبغ البورقيبية لشخصية شعب بأكمله. لا يسمح المقال بمتابعة الإناسة السياسية للتجربة في جزئياتها ولذلك سنقتصر على المحاور الكبرى التي تلخصت فيها.
* علاقة بورقيبة بالغرب: خلقت كاريزمية بورقيبة، أو صنميته بتعبير عربي أدق، التي اكتسبها قبل الاستقلال وتدعّمت بعده، منه وثنا في الذهنية التونسية، هذه الصنمية سكنت الفلسفة الغربية الليبرالية في جوهرها، وهي التي كانت تحرك وعيها بالتاريخ والسياسة، داخليا وعربيا ودوليا. وعبر هذا الوعي كانت خطة صناعة "تونس بورقيبة" لا "تونس التوانسة". ففي صخب وهج الغليان الاشتراكي واليساري والقومي الذي سحر نخب التحرير والتغيير في العالم الثالث، لا شعوبها، جراء انتصارات الاشتراكية العالمية وتقدّمها، كان بورقيبة يدفع سفينته السياسية الهشة واليافعة، في أعقاب ليل استعمار هشّم كافة القدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سنده في ذلك إيمان ووعي بفرنسا والغرب، يتجاوز وجهيهما الاستعماري المستغِلّ والنّاهب، وتطلّع للدّخول بشعب بأكمله مدرسة العقل الغربي، الذي صنع منه -الغرب- مختزَن قوة حضارية ضاربة عالميا، ودون الالتفات لأوجه توظيفها في آليات الهيمنة والحروب والاحتلال وما شابههما، أي لتشكيل الشّعب التّونسي ضمن قواعد العلمَنة واللّيبرالية والحداثة.