anfasseارتبط خطاب الأزمة الحضارية والهزة السياسية والردة الثقافية بتوجيه اللوم وسياط النقد الجارح للمثقف، إذ كلما أصاب المجتمع ارتجاج حاد وكلما وضعت النخب السياسية وخاصة الفئة الحاكمة منها على محك المساءلة الموضوعية والمسؤولية التاريخية، إلا ووجهت أصابع الاتهام للمثقف الذي لم ينجز دوره التاريخي حيث ترك الجماهير، الأمة، الشعب، في وضعية جهل وعدم استنارة. انتعش وينتعش خطاب تعنيف المثقف عند كل منعطف واضح وهزة سياسية كبرى: هزيمة 1967، حرب الخليج الثانية سنة 1991، انفجارات نيويورك وواشنطن في 11 شتنبر 2001، وآخرها أحداث الدار البيضاء في ماي 2003 إذا أردنا الالتصاق بالحالة المغربية تحديدا.

إلى أي حد يحتضن خطاب تعنيف المثقف_البالغ حد التجريح والتقزيم_عناصر الموضوعية والواقعية والرغبة في إناطته المسؤولية؟ لماذا ينتعش خطاب العودة إلى المثقف لحظة الهزات والرجات والزلازل السياسيةوالاجتماعية الكبرى؟ أين تنتهي حدود الرغبة في أن يلعب المثقف دورا أساسيا ليبدأ الحد الأول من الحدود الخفية والمقننة لتهميش المثقفين تحت ضغط الخوف من سلاطة قلمهم ولسانهم؟

يشترط الجواب على هذه الأسئلة دراسة خصائص خطاب تعنيف المثقف والوقوف عند نماذج من الكتابات العربية التي لا ترى في المثقفين إلا الهزيمة والعجز والاستقالة والوهم. من هنا يتوجب علينا دراسة علامات خطاب نقد المثقفين قبل نقد خطاب نقدهم.

jihad-abstraitالإحتلال طامة كبرى أينما وجد وكيفما يُسوّق أو يُبرر، أما إذا كان "المحتل" نظاما ديكتاتوريا كما في المنطقة العربية، فهذه طامة أبشع وأكثر وجعا ولأسباب كثيرة، إلاّ أن السبب الأهم بتصوري هو السلطة الدينية ومؤسساتها بما لها من وزن ثقيل لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه، فالمواطن العربي غالبا ما يتبع رجل الدين ويستفهم منه ويعتمد على ما يوصي به أو يفتي، أضافة لتشبعه بالثقافة الدينية منذ نعومة أظفاره، وهي ثقافة ليست بالضرورة مستقاة من روح الدين فجلها هجين يجمع بين الشريعة الآلهية والفقه البشري، ومضببة بتفاسير وتآويل مضطربة ومتناقضة للنصوص الإلهية.
ومن المفاهيم التي لجأت السلطة الدينية الى تفريغها من محتواها القيميّ ولصالح الحاكم وحاشيته فباتت لا تدفع ظلما عن المواطن أو تعيد له حقا أو قيمة وكرامة..سأذكر مفهومين على سبيل المثال:

- مفهوم الجهاد في الخطاب الديني :

قد انحرف هذا المفهوم بتواطؤ السلطة الدينية مع السلطة السياسية فبات "فقهيا" موجها نحو العدو الخارجي وفاقداً لقيمته وجدواه في الداخل، إذ استبدل الخطاب الديني الموجه في الداخل الجهاد بفقه المهادنة، ولهذا لم يشهد تاريخ المنطقة أو تاريخ المسلمين عموما الملبد بسلاطين الجور والملذات وسحق العباد وبعون هذا الفقه وانصياع العامة له، لم يشهد ثورات شعبية تـُذكر ضد فساد السلطة الحاكمة واستهتارها في تاريخنا المعاصر مثلما لم يشهد وعظا دينيا أو تذكيرا للحاكم بجوره وفسقه أو تقاعسه، فالحاكم عادة أما يخلع عسكريا أو بالتدخل الخارجي أو بتدخل عزرائيل، وهذا الأخير لا يخدمنا لوجود وريث عادة مهيأ لتقلد زمام السلطة والمباشرة بالتقليد.

revo-arabeقال الله  تعالى:" اذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة"[1].
لقد هبطت الثورة العربية واقعة بردا وسلاما على المظلومين والمضطهدين وثبتت عزائمهم وأثلجت صدورهم وجعلتهم يضربون في الأرض وينقحون الأفق ، ولكنها نزلت نارا وجحيما على الظالمين والفاسدين وزلزلت القصور والعروش ودفعت المذعورين الى الفرار بجلودهم والسارقين الى اخفاء معالم جرائمهم. فما الذي وقع الآن وهنا في العمق الترابي؟ ولماذا وقع الذي وقع؟ وكيف كان هذا الوقوع ممكنا؟
لقد كانت الثورة العربية واقعة قرعت الحق ودمغت الباطل ومثلت الحقيقة التاريخية التي لا مجمجة لها والواقع الفعلي الذي لا يقبل تجميلا لبشاعته ولا ركوبا على أحداثه. علاوة على ذلك كان للثورة وقوعا مزلزلا على قلوب الناس وأصداء في الآفاق وكانت وقعتها عظمى عصفت بالزيف والكذب والمنكر وثبتت القسط والمعروف ونزعت الحكم في وقت كان معلوما.
ان تأويل الواقعة في هذه النقطة بالذات يضيع في الوقائع المتعاقبة بسرعة وفي تعدد التأويلات وعلى هذا النحو يمكن تأويل لفظ الواقعة القرآني على أنحاء ثلاث:
-         حدث غير متوقع وفجائي واستثنائي انفلت من كل الحسابات والتوقعات مثلما عبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي أدغار موران بلفظ Imprévisible.

parker-gdeإذا كانت الحرية بمفهومها الشامل تعتبر من ضرورات الحياة عند الإنسان بصفته فردا داخل مجتمع متحرك غير ساكن وميت، فإن حرية التعبير وإبداء الرأي هي الأساس القوي لحصول الحرية بتجلياتها العامة والخاصة. بمعنى أن ضرورة حرية التعبير داخل المجتمع من ضرورة البقاء والاستمرارية. ولذلك فحماية حرية التعبير تتجلى في عدم إبداء الصمت والبحث عن منطقة يدفن فيها المرء نفسه حيا، فالتعبير إكسير الحياة والبقاء مادام المرء موجودا في هذه الدنيا الفانية .
إن حق الفرد داخل المجتمع في إبداء الرأي والتعبير عن مواقفه وقناعاته الفكرية والسياسية والدينية هو حق عيني مادي محسوس وليس حقا غائبا متجاوزا، ذلك أن علاقة الفرد بالمجتمع علاقة مباشرة محسوسة تفرض فيه المساهمة بالرأي والنصيحة لكل الأفراد الآخرين حاكمين ومحكومين، وهذا ما يعكس تلك النظرة الإيجابية لهذا الفرد داخل مجتمعه .
إن محاولة استبعاد مفهوم حرية التعبير  والحظر على كل الوسائل المتاحة لتمرير الرأي والموقف هي محاولة فاشلة نظرا لتعدد الوسائل المتاحة وسلاسة الاتصال بيم الشعوب وبين أفراد المجتمع الواحد، وبالتالي أصبح اليوم بإمكان أي فرد أينما كان في العالم أن يبدي رأيه ويعلن موقفه السياسي والفكري والديني في العديد من القضايا الوطنية والعالمية .

20fevrier-anfasseلأشد ما كنت حريصا على متابعة ردود ألأفعال المتباينة ,التي تخلفها حركة 20 فبراير,ليس فحسب تلك التي تصدر متفقة ومثمنة للحركة, و لكن أيضا تلك التي تنتقدها , و تحاول تبخيسها, دون أن تكون لأصحابها الجرأة الكافية ,للإعلان صراحة عن موقفهم الرافض لها.
ربما مخافة تلقي صفعة أخرى ,كتلك التي تلقوها عقب الخطاب الملكي, للتاسع من مارس المنصرم, أو انطلاقا من خلفية انتهازية صرفة ,تسترعي ضرورة أخذ جميع الاحتمالات بعين الاعتبار,مكرسة طبعا المساحة ألأرحب في لغتها وخطابها,لإبداء آيات الولاء والطاعة للمخزن ,غير أنهم يحجمون عن الإعراب صراحة ,عن مواقفهم المعادي لحركة 20 فبراير,و للدينامية التي خلقتها ,بعد عقود من الإفلاس و الكساد الكلي, الذي تنفع منه العديد ممن كانوا و لا يزالون مدينين فيما يرفلون فيه الآن من ثروة و جاه,لجو الركود هذا,محاولين في الآن ذاته الإبقاء على وضعهم و تحصين مكاسبهم في خضم الحراك الحالي,بما يتوافق و سقف الانتظارات الذي رسموه, من خلال "_ سلان الشوكة بلا دم_" كحد أدنى ,و-" زيادة الخير ,خيرين-",كسقف أعلى لما يمكن أن يفرزه المخاض الحالي .

anfasse45" ان احداث التغيير في النظرة الانسانية هو بداية احداث التغيير في العالم"[1]
تضم الخارطة السياسية والفكرية بالوطن خاصة والعالم العربي الاسلامي عامة توجها عقلانيا تنويريا يعتمد الاسلام الحضاري كمرجعية ايديولوجية ويتبني القيم الكونية التي تضم ثقافة الديمقراطية والمواطنة ومنظومة حقوق الانسان ويؤمن بالدولة المدنية ويحترم مختلف التشريعات الدستورية والمجلات القانونية ويتواصل في الآن نفسه مع الثقافة الوطنية والتراث النضالي لحركة التحرر المدني من الاستعمار والامبريالية.
اللافت أن الذين ينتمون الى هذا التوجه ينشطون بشكل مستقل وفردي في العديد من الأحزاب والمنظمات النقابية والهيئات الحقوقية والجمعيات الثقافية واتحادات الكتاب والمنتديات الاعلامية والمنابر الصحفية ومعظمهم ينحدر من مختلف العائلات السياسية اذ هناك الاسلام الليبرالي والاسلامي التقدمي والقومي المسلم واليساري المتدين والوطني المسلم والتدين الاجتماعي والمجتهد المصلح والمثقف الملتزم.

anfasse-politique" لكي نحارب الشمولية ينبغي أن نفهمها على أنها تمثل النفي الأكثر اطلاقا للحرية"[1]
اذا كانت حركات التحرر العربي في القرن الماضي قد تشكلت من أجل التصدي للاستعمار ومشروعه الامبريالي وفشلت نسبيا في القضاء عليه بشكل تام، بسبب نجاح الدول المستعمرة في تركيز أشكال سلطة موالية لها تحكمها نخب تربت في بيئتها الثقافية وساهمت هي في تأطيرها وتوجيهها قصد المحافظة على مصالحها والابقاء على حالة التبعية تجاهها، فإن الثورة العربية الحالية قد اندلعت قصد التخلص نهائيا من هذه التركة الثقيلة والاجهاز على الاستبداد والأنظمة الشمولية التي تعاني من نقص في السيادة أمام التعديات الخارجية وتمارس التغول الأمني في الداخل وتعامل أفراد الشعب كرعايا خاضعين.
اذا كانت الامبريالية تشير الى الشر السياسي القادم من الخارج والتي تداهم الأوطان عن طريق حروب استعمارية ووحشية رأسمال فإن الشمولية هي شر سياسي يحكم الداخل بالقوة ويتميز بالتعطش الى السلطة وارادة الهيمنة وممارسة الارهاب ويشكل بنية قهرية للدولة تمنع الناس من ادراك طبيعة الحقبة التاريخية التي يعيشون فيها وتحول دون تصورهم لشكل المجتمع في المستقبل الذي يطمحون اليه.

أنفاس نت" الشعب وحده هو الشرط التاريخي لوجود الأمة، ولكن هذه الأمة ستصبح في القانون، متفقة ومتطابقة مع الدولة"[1]
أعتقد أنه آن الأوان لكي يتشكل خطاب فلسفي عربي هو وحده الذي يجعل من الثورة عاملا رئيسيا في التحليل السياسي للأحداث المجتمعية والمنعطفات التاريخية ولكي يترك الخطاب الحقوقي يصعد على السطح ردا على ممارسات القوة وألاعيب السلطة وتفاديا لحرب الكل ضد الكل والحيلولة دون الدخول مجددا في العصر الهمجي  وتحقيقا للتوازن بين التجربة التاريخية والتنظير الفكري وحفظا لروح الثورة من النسيان والاهدار.
ما لا يحتاج الى برهان هو أن الثورة صارت تشكل المكون الرئيسي للمعقولية الفلسفية للتاريخ العربي سواء ما تحقق في تونس ومصر أو ما سوف ينجز في ليبيا واليمن والبحرين والعراق وغيرها، وإن ما تعلقت به الهمم والنفوس من هجرات نحو الديمقراطية والتعددية السياسية وايمانا بالحراك والتغيير وضخ الدماء الشابة هو الاستئناف الحضاري واعادة التأسيس والعود على البدء والقيام بالمنعطف والتحديث.
كما أن ما تم اقصائه من المسرح التاريخي هو الاستبداد والطغيان وما قام به الشباب عند خروجهم للشارع واعتصامهم في الساحات وترديده للشعارات وكتابتهم على الجدران هو كنس للفساد والعنف والفشل. علاوة على أن المد الثوري سيعم المنطقة العربية من غربها الى شرقها ومن شمالها الى جنوبها خاصة وأن القواسم المشتركة كثيرة والهموم والمشاغل موزعة بشكل عادل وتقتضي حلولا استعجالية.