Tunisian_Revolution_Protestمن حظنا أن نعيش هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية. لا أحد من أهل العلم، من علماء المستقبليات، أو من أهل الكشف والعرفان تصور أو خطر بباله أنه سيحدث ما حصل وبالكيفية التي حصل بها، ولا تخيل البعض شكل السيناريو الذي اتخذه ما حدث. شبهه البعض بزلزال إحدى عشر شتنبر ورأى فيه البعض الاخرمثالا للثورة الفرنسية واعتبره آخرون وجها بديلا للثورة الإسلامية الموعودة... وما الى ذلك. تعددت النعوت وتلونت التصنيفات وتضاربت التفسيرات. لكن كيف حصل ما حصل؟ ومن يجرؤ على فهم وتفسير ما حدث؟ من يدعي أنه يمتلك مفاتيح سرية ذلك الحدث ؟ أمن قدر العربي الشريد أن ينتظر لحظة رؤية الجسد المحترق وتزكم أنفه رائحة اللحم الآدمي المشوي حتى تستيقظ أدميته ويستنفر هممه للصراخ في وجه جلاده؟ ومصير جلاده ومطارده أن لا يكتفي بمص دمه ويستميت في إهانته بل يكشر عن أنيابه ويستنفر عتاده ليطارد ظله في السراديب ويقتفي آثره في فيافي التيه. قدر الضحية وأقنعتها، الضحية الذي استطاب عبوديته الطوعية واستكان لخدمة المحراب يقدم طقوس الولاء والطاعة ولو سولت له نفسه يوما التمرد فإن سدنة المعبد يتربصون حركاته وسكناته ويتفننون في سياسة ترويضه ورده إلى موطنه الأصلي ترغيبا وترهيبا و تأديبا. فهل من سبيل لفك رباط هذا العقد الأزلي؟ وهل في إمكان ما حدث أن يخلخل بنية ذلك العقد؟ يحتاج المرء أمام حدث من هذا القبيل إتقان فن الإصغاء والتروي للظفر بوميض يسمح باقتحام عالمه المجهول و باكتشاف خصوصيته.

"arabrevolutionان نجاح الثورة يعني أن النظام السياسي الذي كان موجودا فقد كل معقولية وأصبح أمرا لا يطاق بالنسبة الى الجيل الجديد وأن معقولية أخرى بصدد التشكل وأن الفئة الشابة هي وقودها المركزي ومنارتها البارزة"[1]
صدر عن "الدار التونسية للكتاب" مؤلفا جديدا للأستاذ زهير الخويلدي عنوانه: "الثورة العربية وارادة الحياة، مقاربة فلسفية" يعبر فيه عما جال بفكره من دروس أثناء ثورة شباب الكرامة وعما يتطلع اليه من انتظارات وقد أهداه الى كل من علمه الفعل الثوري وجعله يطلب الحق ويعمل به والى كل الشباب العربي الثائر الذين سعوا الى تخليص الشعب من التبعية والارتداد والشمولية .
" لقد مثلت الثورة العربية واقعة هبطت بردا وسلاما على المظلومين والمضطهدين وثبتت عزائمهم  وأثلجت صدورهم... ولكنها نزلت نارا وجحيما على الظالمين والفاسدين وزلزلت القصور والعروش."[2]

abstrait-carre-web_copyكثيرة هي التساؤلات حول الوضع الحالي في الوطن العربي، وكثيرة هي التداخلات والمتشابكات داخل حقل الخصوصيات الجغرافية والسياسية، وكذلك التاريخية في شكلها الخاص. لكن وبما أن الواقع يتكلم بلسان حاله، فلا يمكننا إلا أن نستمع ونصغي إلى كل كلمة تقولها أيامه. فما يحدث وما سيحدث يعد منعطفا تاريخيا في الجغرافيا السياسية، إن لم نقل الإنسانية... فالعالم العربي اليوم يعيد صياغة أنظمته من داخل نسقه الشمولي، ويصلح تركيبته انطلاقا من الامتداد الأفقي الجزئي لتشمل بناءه العمودي الشمولي. مما يساعده ذلك في انتشار عدوى التغيير وكذلك الرغبة في تبني الإصلاح.

نجد أمامنا عدة محددات منها التاريخية والنفسية والسوسيو-اقتصادية... بفروعها وبتداخل مقومات الأثر والمسبب فيها بغية الارتكاز على الشكل البانورامي لصياغة الأحداث داخل نطاقها الزمني. أي أننا لا نتقيد بالحاضر فقط، بل إننا نرتهن في ذلك إلى ثلاثية الماضي-الحاضر-المستقبل. لكن ونحن على عتبات التغيير،لابد لنا من نسأل عن محركات هذه الهبات الشعبية الراهنة وعن جوهر هذا الحَـراك الاجتماعي والسياسي في الوقت الذي تتضارب فيه آراء القريب والبعيد حول هذا الحدث. فهل يمكن اعتبار هذه الهبات الشعبية الراهنة امتداد مرحلي لأحد المشاريع الفكرية ؟ أم انها شكل متجدد لمفهوم إعادة البناء من داخل النظم القائمة ؟ أم أن كل ذلك لا يمت بصلة بأي مشروع في شكله التنظيمي السياسي ، وإنما هو خليط منظومة من الأفكار؟

1097933762_smallيقول مشيل فوكو في كتابه المراقبة و المعاقبة : " الجنوح وسيلة للاشرعية تتطلبها ممارسة السلطة بالذات، فان الاستخدام السياسي للجانحين بشكل مخبرين و محرضين كان واقعا قائما حتى قبل القرن 19، ولكن بعد الثورة الفرنسية 1789 اكتسبت هذه الممارسة أبعادا أخرى مثل : نسف الأحزاب السياسية و التجمعات العمالية من الداخل، و تجنيد العملاء ضد المضربين و الدعاة الى العصيان، وتنظيم بوليس ــ تحتي ــ يعمل بالتنسيق المباشر مع البوليس الشرعي، و مؤهل ــ عند اللزوم ــ لأن يصبح جيشا موازيا "
هذا الجنوح كالسرقة، واغتصاب، و النشل، و النصب، و الاحتيال....الخ لا يهدد المصالح الاقتصادية و لا يشكل خطرا سياسيا على أنظمة الحكم، لأنه موجه لنفس الانتماء الطبقي للجانح، ولهذا فالمؤسسة السجنية تهدف الى اعادة انتاج الجنوح و اللاشرعية، ولا تريد في جوهرها القضاء عليه ، وذلك من أجل خدمة حلقات الربح لصالح الطبقة المسيطرة.
وبهذا يغدو السجن ثكنة " لتجنيد" الوشاة و المخبرين، و يصبح بذلك الجنوح كلاشرعية غير ضارة ، مجندا لمواجهة لاشرعيات من شأنها أن تهدد المصالح الإقتصادية و السياسية للطبقة الحاكمة الأحزاب التنظيمات العمالية الحركات الاحتجاجية...الخ، ووواحد من " سلع" المؤسسة السجنية، و أحد دواليب البوليس وأحد أدواته.
تشكل الحلقة الثلاثية : بوليس ــ سجن ــ جنوح حلقة لا تنفصل أبدا، آلية تقدم الرقابة البوليسية، بحيث يحول السجن المخالفين الى جانحين،هؤلاء يصبحون أهدافا و مساعدين للمراقبات البوليسية التي تعيد بانتظام ارسال البعض منهم إلى السجن.

" digniteان مهمة الثورة هي منح الوزن الى المحبة"[1]
استهلال:
لا قيمة للإنسان في واقع الاستبداد ولا مكان للحرية في البلدان ذات المنهج الشمولي، والتركيز يكون دائما من قبل الفئة الحاكمة وزبانيتها على طرق الكسب ووسائل الربح وتحصيل الثروة والهدف الأقصى للأنظمة الفاسدة هو المحافظة على السلطة واخضاع الأفراد بالقوة ونهب الخيرات وسلبها من العباد.
كما يعاني المجتمع الانساني عامة والعربي الاسلامي خاصة زمن العولمة نقصا فادحا في التعبيرات الايجابية عن الاحترام للذات البشرية والاعتراف بالغير ومن خلع للكرامة خاصة عند الذين يطلبون المساعدة العاجلة والحماية الاجتماعية ولما تواجه مطالبهم واستغاثاتهم بالإهمال واللامبالاة وينسى الذين يتحملون المسؤولية أنهم يمكن أن يكونوا في يوم ما في مكانهم وأنهم قد يتحولوا بمفعول الزمن الى مرضى وفقراء ومتقدمين في السن وفاقدي السند ويحتاجون الى الرفق والعناية والوضع على الذمة.
ربما يكون الشعور بالمهانة والغربة ومكابدته للاستغلال والظلم والاحتقار من طرف القوي للضعيف والغني للفقير وطلب المرء أن يكون عزيزا وأن يشعر بالكرامة في وطنه وبين أهله هي من أهم الأسباب التي وقفت وراء تفجر الثورة العربية ولذلك حصل اجماع على تسميتها بثورة الكرامة والعزة.

 aljazeeraانعكس الحراك الكبير الذي تشهده المنطقة العربية على الفضائيات العربية بشكل غير مسبوق، فبعد سحب بث قنوات مثل الجزيرة والعربية عن شبكة "نيل سات" خلال الثورة المصرية، وتطوع قنوات اخرى لنقلها، ثم التشويش على القنوات من مراكز التشويش الفائقة التقنية من ليبيا مع بدء احداثها، وصولا الى اغلاق المكاتب واعتقال وضرب او قتل المراسلين، دخل الامر مع الحدث السوري طوراً جديدا تمارس فيه الضغوط هذه كلها.

يمكننا توقيت ابتداء مسلسل الضغوط السورية مع تهديدات شديدة اللهجة وجهت الى موظفي قناة "المشرق" (اورينت) السورية التي تبث من دبي، قدم على اثرها 17 شخصا استقالة جماعية، وانسحب اغلبهم تاركين القناة في وضع لا تحسد عليه، بل قام مساعد مصور مستقيل منهم قدمته قناة "الدنيا" السورية على انه "الاعلامي الكبير حمادة سميسم" بتوجيه اتهامات كبيرة للقناة، ثم بدأت حملات تشويش على البث، تبعها انقطاع مفاجئ للبث نتيجة قرار قضائي "غامض" عزاه البعض لايران وآخرون لامارة الفجيرة، وهو امر استمر قرابة الشهر قبل ان تعود القناة بترددات جديدة.

abstrait_3_bandes

التغيير آت أحب من أحب وكره من كره. السؤال الوحيد الذي يجب أن نفكر فيه هو ثمن هذا التغيير، فكل تأخير سيدفع عنه الثمن.

عندما تقرأ هذه العبارة وأقوال أخرى لعالم المستقبليات المغربي” المهدي المنجرة” قبل البوعزيزي لن يخفق قلبك كما تقرؤه وأنت تعيش فترة ما بعد البوعزيزي، فقد قسم التاريخ العربي الآن إلى الفترة ما قبل البوعزيزي وما بعده. وهذه الأخيرة أضحت ملاذا للاستنارة من نظريات الأمس. يشير المنجرة في احد كتبه القيمة “أننا في عهد ما قبل العهد الجديد، فالتغيير هو مفهوم منظومي يأتي بصورة شمولية، إذ عندما يحدث يطال جميع الميادين… والتغيير الوحيد الذي لاحظناه هو تغيير الذين أتوا بقصد التغيير دون أن نلمس أي تغيير… !”

histo-anfasse"إن المجتمع ـ الموجّه ـ يبدو وكأنه
لا يقبل الشك، وهنا تكمن المُشكلة، إنها
الولع في التبرير وتصديق أي شيء"
دوستويفسكي

ما المفكر "الأنسني" إلا ذاكرة مضادة ـ على حد تعبير الرائع ادوارد سعيد ـ، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذى يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم! وكما أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض المسائل الجدلية التى يستحيل مصالحتها، أو تجاوزها، بل إنها ليست قابلة حقاً لأن تُطوى في نوع من التوليفة الأرقى، هي بلا ريب الأنبل..

أصيل فكرنا الأنسني أصالة الضمير! قاسٍ هو قسوة الحقيقة! غير أن الخطر كل الخطر في مناهضته واضطهاد أصحابه، ناهيك عن تجفيف منابعه، كما هو حاصل في مجتمعاتنا المُتخلفة، منذ جلاء المُستعمر الأوروبي عن أرضنا!

ثمة دروس عظيمة يمكن استخلاصها من عقود استقلالنا الزائف! فكائناً ما كان نُبل الأهداف التحررية، إن صح القول بوجودها، لدى مؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، فإنها لم تمنع للأسف الشديد من انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، ساعد على التمكين لها تشبع الوجدان العربي بفهم مُخنث للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المُستبد العادل(1)!