3inayaمن المخاطر التي تتربّص بالثورات افتقارها، في كثير من الأحيان، إلى الوعي العميق الذي يحتضن أسئلتها المصيرية: لماذا اندلعت؟ وضمن أي خطّ تسير؟ وأي مسار تسلك؟ ذلك أن المنعطفات الكبرى للشعوب تختزل الزمن، ولكن تلك المنعطفات توشك أن تعود بالناس القهقرى أيضا، حين تنحسر النباهة بين مفجّري الثورة، وحين يعشّش وباء الاستحمار في ثنايا الوعي الجمعي، فيغدو مدمّرا.
وليس المسار الذي تسير فيه ثورة تونس في مأمن من تلك المخاطر، ولعل أبرز تجلياته ما يعيشه كثيرون من حال شبيهة بحال الغفلة، التي ينعدم فيها التمييز أحيانا. نسمع لها صدى في مقارنات ساذجة شائعة، بين الحكم الديمقراطي الراهن وحكم الطغيان الآفل، وهو قياس لا يصحّ إلا في عقل سقيم، لأن الحق أحقّ أن يُتّبع، ونظام الطاغية كان باطلا فحقّ أن يكون زهوقا.

auroraيقول الأديب محمد شاكر في كتابه "سيادة الجهل": إن الحياة عبيد وسادة، عبيد دون ذنب، وسادة من غير حق، ومتسلطون دون مؤهل، يقربون ويحمون أمثالهم، ويسلطون أعوانهم على المجتمع وهم ليسوا بأكفاء ولا أهل، ويبعدون أهل الرأي والفكر، وأصحاب العلم، فينتشر الفساد، وتتحكم الفوضى، وتشرئب أعناق أراذل القوم للمباهاة، وتنخفض هامات الرجال، وتتراجع الأمة وتتأخر عوامل النهضة ومقومات الحياة.
وددت كتابة هذا المقال منذ مدة، ولكن اليوم ربما اتضح المشهد أكثر بعد أن تراكمت وتسارعت الأحداث في بلدي العزيز تونس وفي بقية البلدان العربية. فلو نظرنا إلى الطابع العام والغالب لمؤهلات حكم أو محاولة الحكم التي دعمتها وآوت حكامها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي من ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، لكان هو حكم التسلط والقهر، وهذه هي أهم مؤهلاتها في النجاح النسبي الذي حققته إلى اليوم في استتباع الأمة والسيطرة عليها.. وأقول النسبي لأن الثورة التونسية وماتبعها من الثورات العربية جعلته نسبيا، أي أنها لم تنجح بالكامل في تلجيم الدول العربية.. حتى في العراق التي سخرت أموالا وبلدانا وجيوشا لها، تمت سيطرتها عليه فترة من الزمن عن طريق القيام بما يشبه عملية السطو المسلح على الوطن والمجتمع، فلما فشلت في استتباع المجتمع أقامت الدنيا وأقعدتها ووصفت كل من وقف في طريقها بأنه إرهابي، أو من ممولي الإرهاب.. ولم تترك ورائها إلا خرابا وأمواتا، وإن كادت لتنجح في أفغانستان بفضل حاكمها الذي أصبح هو ولي الأمر وقائد كل شيء، وكادت الحقوق عند أبناء الشعب الأفغاني أن تأخذ صفة المنحة والفضل والهبة من كرزاي وماتابعه، لكنها في الأخير أذعنت وولت كالثعلب وذيلها بين فخذيها

277hابان أزماتها، كانت الأمبراطورية الرومانية تسلم مقاليد الحكم الى "دكتاتور جبار"، يتمتع بحريات مطلقة لمدة سبع سنوات.. ترى انها كافية لاجتياز الأزمة. ربما استفادت بعض الأنظمة العربية مما يحكيه التاريخ، فترى أن بقاءها في السلطة كأنظمة ديكتاتورية جاهزة بخبرات طويلة، هو الأجدى لاجتياز أزماتها، أنما بفارق بسيط عما يحكيه التاريخ، وهو أن لا تتمتع بحريات مطلقة لبعض الوقت، أو حتى اجتياز الأزمة بسلام.
يمكننا أن نُمسك بوحش كاسر ونخرجه من جوف الغاب، أن نجتهد في ترويضه، كي يستجيب لأوامرنا في حلبات السيرك لبعض الوقت. فثمة كواسر افترست مروضيها أمام أعين المتفرجين، وبعد سنوات طويلة من الترويض والألفة والخدمة الاستعراضية.
ماذا تعني عصرنة النظام الديكتاتوري ؟
تعني إيجازا ، أن نحيل الغاب كله، الى حملان وديعة ويمامات زاجلة.. كل الوقت..
تعني أن نحيله من نظام شمولي يحكم بالحديد والنار، من نظام الحزب الأوحد والقائد الإله  المحصن بشريعة حزبه أو قبليته أو أسرته بعد شريعة الرب، الى نظام ديموقراطي يؤمن بالتعددية الحزبية والثقافية، والتداول السلمي للسلطة. يعني أن ننزل به من عرش السيد المخدوم ترفا، الى بساط الخادم المُعرض في اية لحظة، للإستجواب والمساءلة الدستورية والقانونية، وسيكون بأي حال، خادما لبعض الوقت وليس كله.

2929408371_1_3كثيرا ما اتسمت الثورات في العالم على مر العصور بوجه يُعتبر جديدا بالنسبة للمجتمع ويغلب بطابعه على المشهد السياسي. ينطبق هذا على الثورة المصرية، ومعها الثورات العربية، بعدما شهدت غلبة النفـَس الإسلامي على شوارعها وفي شعاراتها. أفضى هذا، وبحكم الجراح التي لملمها الجسم الإسلامي، إلى إعطاء الإسلام السياسي فرصته التاريخية لإظهار صورة مشروعه وتقريبه للرأي الداخلي قبل الخارجي. لكن هل من الممكن أن يقف هذا المشروع ؟ وإذا أمكن ذلك، هل لأنه يحمل في ذاته ما ينقضه أم انه يخلق نقيضه نتيجة عن تحركه ؟

بعد ثورة 25 يناير التي تراصت الأطياف والأجناس السياسية والاجتماعية والثقافية جنبا إلى جنبا، و"دون النظر إلى لون الذي امسك بيده" (على حد تعبير أحد الثوار)، انتقلت مصر من التجانس والتمازج اللحظي إلى الفصل في مسألة مصير الجار والحليف السياسي. فالانتخابات البرلمانية حددت المواقع قبل المواقف. ورغم أن مصر لا تزال تتخبط في دوامة الحكم ما بين المطالبة بالمدني وبين تجدر العسكر، فإنها على الأقل تجاوزت مرحلة الاستقرار البرلماني وأجرت انتخابات مجلس الشعب بشكل قيل عنه أنه ديمقراطي بكل المعايير.

revo-arabeلا شك أن مايقع في تونس بعد يوم 23 أكتوبر موعد انتخاب المجلس التأسيسي، له تميز خاص دون البلدان العربية الأخرى التي جرت في عروقها دماء الثورة.. وقد قلنا في مقال سابق أن ما جرى في تونس من ثورة حتى ذلك الموعد يمكن توصيفها بالظاهرة الغير مسبوقة في التاريخ عموما.
كانت في تونس غضبة كبرى ليس فقط على قوات الأمن والشرطة لما مارسته من قمع وقتل طيلة ثلاثة عقود، بل كذلك حجم واتساع التحرك الشعبي وقوة المواجهة بين الشعب وأجهزة الأمن ، ما جرى خلال شهر فاق كل التوقعات ولا نعتقد أن أحدا يزعم بأنه كان يتوقع صيرورة الأمور إلى ما صارت إليه. ولأن الأمور سارت بهذه الوتيرة السريعة فإن غالبية التحليلات والتعليقات في تلك الفترة أتسمت بالإنفعالية والعاطفة أكثر مما هي ناتجة عن دراسات معمقة.. وعليه فإنه من الصعب الحكم بأن المشهد الذي جرى في تونس حتى موعد الإنتخابات سيتكرر بنفس الشكل ولو في دولة عربية وحيدة.

"إذا كان ثمة أي مبدأ في الدستور يستحق بصورة أكثر إلزاماًrevolution
تعليق أهمية عليه أكثر من غيره فهو مبدأ حرية الفكر ـ ليس
حرية الفكر لمن يتفقون معنا ولكن حرية الفكر الذى نبغضه"
القاضي الأمريكي
أوليفر وندل هولمز

في عدم اكتراث واضح بطبيعة التحولات الراهنة في عالمنا العربي، وفي تجاهل شبه كامل لما تشي به هذه التحولات من زحف غربي مُنظم ومدروس نحو جوهر الحضارة الاسلامية، تمضي مجتمعاتنا شديدة ضيق الأفق وشديدة الافتتان نحو مصيرها المحتوم بدمٍ بارد، كعملاق سائر، أصم لا يسمع، أعمى لا يرى!

الغربيون ولا شك استفادوا من جهود العلامة الفرنسي أرنست رينان، ووصفه الإسلام بأنه مفتوح كله على الحاضر، وهو ما تُعول عليه قوى الإسلام السياسي كثيراً، وأن النبي محمد بعيد كل البعد حتى عن مجرد التظاهر بالقداسة، مقارنة بالديانتين اليهودية والمسيحية، فلا أسرار ولا كهنوت ولا بركات تُقدم!

17revo-arabe دجنبر
على الشريط أسفل الشاشة تتوالى الأخبار..لا جديد يذكر.. و مذيعة الجزيرة الإخبارية لا تتوانى عن إعطاءك جرعتك اليومية من الكآبة والتفصيل الممل والأسئلة التي تشبه أسئلة المحققين ..وحتى من الجمال الذي لا ينتبه له إلا من صم أذنيه عن أخبار القتل والتشريد والأزمات ونظر في عيني تلك المذيعة وجهها الذي يبعث على الارتياح..على الشريط  تتوالى الأخبار المتنوعة لكنها تشترك في كونها أخبار غير مفرحة ، مما جعلني أتساءل هل  العالم حقا استحال كومة كبيرة من الحزن والظلم والفساد..أم أن  الجزيرة تهوى جمع القمامة وانتقاء أجود الأحزان وتعقيد الحياة عنوة..ها هو خبر آخر محزن جدا وغريب ومقزز " شاب تونسي يحرق نفسه تنديدا بما تعرض له من ظلم "..حينها تخيلت المنظر .. شخص باختياره يصب الزيت على نفسه ويشعل النار.. يا لجرأة الفكرة.. بماذا كان يفكر ساعتها ؟ أغلب ظن أنه مجنون أو شخص من أولائك الذين يهوون لعبة "المخاطرة".. ولو أن الخبر لم يعد في ذلك اليوم مرات كثيرة وعلى قنوات متعددة لكنت نسيته كما أنسى كل تلك الغرائب التي أشاهدها على اليوتوب ، والتي مهما شدتك وفاجأتك تنساها بمجرد انتهاءها وكأننا ما عدنا نستغرب  شيئا في زمن الانترنيت..  حتى ولو كان الخبر يتعلق بإنسان أحرق نفسه.. لكن إعادة الخبر عدة مرات وهذه المرة مرفوقا بالصور جعلني اهتم وأبحث ..الأمر فعلا كبير خصوصا عندما تفجرت مظاهرات في سيدي بوزيد -المدينة التي شهدت الحدث- ثم عرفنا فيما بعد أن ذلك الشاب المحترق يدعى "محمد البوعزيزي"

3inayaثمة رأي شائع عند التطرّق بالحديث عن الثورة التونسية، وأجزم أنه خاطئ، مفاده أن الثورة اندلعت بدون قيادة، وبدون سياسة، وبدون ثقافة... الواقع أن حالة البدون أو حالة الخواء لا تولّد إلا السكون. لذلك تبدو سوسيولوجيا الثقافة مدعوة بإلحاح لإخراج الحدث الثوري من حيز التبسيط والابتذال والتسطيح للإجابة عن سؤال: من أين تدفّقت الثورة وأيّ جداول غذّتها؟
***
أذكر اليوم الذي خابرتني فيه الزميلة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو وهي خاسئة حسيرة، على إثر زيارتها للملحق الثقافي في قنصليتنا العتيدة في روما، بعد أن كانت تظن أنها ستزفّ إليه بشارة سارة بترجمة رواية "دار الباشا" للكاتب التونسي حسن نصر. لم يعبأ بها أحد لا الملحق، ولا القنصل، ولا جميع المخبرين، ممن كانت تعج بهم القنصلية حينها. من يومها شرّقت كبيرة المترجمين الإيطاليين بعد أن همّت أن تُغرّب. وتأكّد لديها أن تونس قد تحولت إلى مستنقع آسن. غير أنها بعد الثورة عاودها الحنين إلى تونس، فما فتئ الشابّي يغويها بالترجمة. من هذا الباب حريّ أن نمتن علاقات تونس الجديدة بالنافذين في مجال الفكر والأدب والترجمة في العالم، إن كنا نريد خيرا لثقافتنا.