"إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ." ( إ. موران)
"إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة." (إ. موران)
" المهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نلهث وراءها" (موران).
"  يقوم " العيش الكريم " على بعض المبادئ :  أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب  أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى." ( موران).

    لا تمثل عبارة " تغيير الحياة "، شعار الشاعر أرتيير ريمبو، اليومَ، تطلّع فرد بل يجب أن يكون شعار عصرنا. تواجه الإنسانية تحديا كبيرا :هي تدعو إلى سياسة حضارة تفترض أيضا إصلاحا للحياة.

   تخصّصُ جانبا كبيرا من مؤلفك " الطريق" لتعريف " إصلاح الحياة"  الذي يصاحب ويبرّر سياسة التحديّات الكبرى للإنسانية. ماذا تعني بذلك؟  
    إ.موران:

 فعلا،  يرسم " الطريق" الذي أقترحه أفقا آخر غير الأفق الذي يقودنا إليه التاريخ المعاصر. إنّ كوكب الأرض منخرط في مسار جهنمي يقود الإنسانية نحو كارثة متوقّعة. يمكن لتحوّل تاريخي وحده أن يسمح بحلّ الأزمات- الكبرى والمتعدّدة- الإيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تهدّد وجود حضاراتنا بالذات التي هي في طريق التوحيد.

  لا أرسم في كتاب " الطريق" " برنامجا" سياسيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مسلكا، طريقا مصنوعا من ترابط عدّة طرق يجب علينا التوجّه نحوها من أجل مجابهة تحدّي أزمة الإنسانية.تمرّ " سياسة الإنسانية " هذه عبر إصلاحات اقتصادية وسياسيّة وتربويّة وإعادة تكوين الفكر السياسي وهو ما أحاول رسم حدوده. تعني هذه الإصلاحات للمجتمع أيضا " إصلاحا للحياة". إنّ التطوّر مكنة فتاكة للإنتاج / الاستهلاك / التدمير تهرع بنا نحو أزمات إيكولوجية واقتصادية. يجد هذا المسار ما يوازيه على الصعيد الفردي : تطوّر الفرد المنظور إليه بوصفه بالأساس كمّيا وماديا، والذي يؤدّي لدى الميسورين إلى سباق محموم نحو " الأكثر دوما" وحتى إلى شعور بالضيق داخل رغد العيش، مقولة انحطت إلى الرفاهية فحسب. وأيضا، هل ينبغي أن نروّج للرفاه الذي يتضمّن في الآن نفسه الاستقلالية الذاتية والاندماج في إحدى المجموعات، والتحكّم في التوقيت الذي ينحطّ بزمننا الحيّ، ويختزل تلوّثنا الحضاري الذي يجعلنا مرتهنين للتفاهات والمنافع الوهميّة.لقد اعتبرت المجتمعات الغربية لوقت طويل  مجتمعات " متحضّرة" بالنسبة إلى مجتمعات أخرى، ينظر إليها بما هي بربرية. وبالفعل، فإنّ الحداثة الغربية أنتجت هيمنة بربرية جليدية، مجهولة، بربرية الحساب والمصلحة والتقنية ولم تقدر على إخماد بربرية داخلية إلاّ قليلا، بربرية هي صنيعة عدم فهم الآخر، والكراهية واللامبالاة.

  إنّ المجتمعات الراهنة قد حققت ما كان يعتبر حلما بالنسبة إلى أجدادنا: الرفاه المادّي و رغد العيش. وقد اكتشفنا في نفس الوقت بأنّ الرفاه المادّي لا يجلب السعادة. بل الأسوأ !  فقد اتضح أنّ الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل الوفرة المادّية تكلفته البشرية هائلة : توتّر وسباق مع الزمن  وإدمان وإحساس بالفراغ الداخلي ....

   لقد ظللنا، إلى جانب ذلك، وعلى الصعيد الإنساني في بربريّة: يعبّر العمى عن الذات وعدم فهم الآخر عن نفسه، على صعيد المجتمعات والشعوب مثلما يعبّر عن نفسه على صعيد العلاقات الشخصية، بما في ذلك صلب الأسر والأزواج. كثير من الأزواج ينفصلون وتتمزّق علاقاتهم ؛ وتشبه هذه النزاعات، النزاعات الحربية القائمة على الكراهية، ورفض فهم الآخر. بينما لا يفعل أزواج آخرون سوى التواجد.

لا شك أنّ العالم اليوم يواجه جملة من القضايا المتنوّعة، آثارها جلية على البشرية جمعاء منها: مستحقّات التعدّدية، بوجهيها الديني والثقافي، ومستوجَبات السلم في العالم، ومراعاة الأقليات في مجتمعاتها الأصيلة، واحترام نظيرتها في المجتمعات التي طرأت عليها الهجرة، وغيرها من القضايا. وهي قضايا لا يمكن التعاطي معها بمثابة أخبار عابرة، في وسائل الإعلام؛ بل ينبغي تطارح آثارها وأبعادها بعمقٍ، وإمعان النظر فيها وحولها بالبحث والدراسة والترجمة.

ومهما بدا المرءُ معزولا عن تلك القضايا الكبرى، حين يرزح تحت وطأة المشاكل الفردية، فالثابت والجليّ أنّ ثمة جدلية وصِلة بين مشاكل الفرد الشخصية وقضايا العالم الجماعية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن مشاكل الفرد هي قضايا العالم وقضايا العالم هي مشاكل الفرد. ولعلّ هذا ما يجعل الترابط بين القضايا الإنسانية وصناعة النشر اليوم من أوكد ما نحتاج لمعالجته لإدراك ذواتنا وللإحاطة بقضايا العالم.

الصناعة الثقافية وقضايا العالم

لعلّ من الصائب، لو شئنا عنوانا لمداخلتنا في قالب تساؤل لقلنا: من يصنع الفكر والثقافة اليوم؟ ومن تشغله قضايا العالم؟ مجالات النشر والقضايا الإنسانية هما مسألتان تسائلان أوضاعنا الراهنة، المعرفية والحضورية في العالم، بَيْد أنهما تشكوان من المعالجة السوية والمعمَّقة. ذلك أن الجانب الأول، "النشر والترجمة"، هو عملٌ غالبا ما تعكف على الاشتغال به مؤسسات خاصة لدينا، وهي مؤسسات في أوضاعها الحالية قاصرة عن بلوغ المرجو، لأنها باختصار تلاحق تحقيق الربح للحصول على عائدات مادية لا غير، وقلّما يرتبط عملا النشر والترجمة في تلك المؤسسات الخاصة بمعالجة قضايا ذات أبعاد إنسانية.

ذلك أنّ دُور النشر العربية، في الغالب الأعمّ، ليست امتدادا لمراكز أبحاث أو مؤسسات دراسات، أو هيئات علمية ومعرفية، معنيّة بالاشتغال على نطاق محلي أو دولي، بل هي شبه دكاكين تجارية محدودة الأنشطة، لم تتحوّل إلى ما يشبه المغازات أو المولات الثقافية. ومحدودية النشاط هذه فرضت عليها نمطا خُلقيا في التعامل مع الكتّاب والباحثين والمبدِعين، غالبا ما كان محكوما بمعادلتَيْ الاستغلال، وأدخلها في منظور للنشر والترجمة محصورا بأهداف مستعجَلة وخاضعا لسياسات ربحية. لذلك يبقى دَوْر الانشغال بالقضايا الإنسانية بعيدا عن خياراتها وملقى على عاتق مؤسسات ذات صبغة مقاصدية تتجاوز الهدف التجاري إلى هدف حضوري وتأثيري في العالم. ونقصد بالأساس مؤسسات معرفية وعلمية غير ربحية، تتمتّع بمستوى من الاستقلالية حتى تقدر على التحرك والتأثير.

ألمحنا بعجالة، في ما سبق، إلى نوعي المؤسسات المنشغلة بالنشر والقضايا الإنسانية في آن، ضمن السياق العربي، وبيّنا أن التعويل على دُور النشر العربية في هذا الجانب هو من باب حلم اليقظة، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه. فالمسألة أكبر من قدراتها وإمكانياتها، ولذا تبقى المؤسسات الجماعية الفاعلة، أو ما بات يُعرف بـ (الثينك تانك/ Think tank) هي المقتدرة على تولّى هذه المهمّة وتطويرها. فالفكر العملي اليوم، والتأثير الثقافي بوجه عام، ما عادا صناعة فردية بل صناعة مؤسسة جماعية.

أي لغز هذا؟ انظروا، إنه حيوان أقرب إلى بلح البحر منا. لكنه يلعب، ويستخدم أدوات، وله ذاكرة، ويحل مشكلات. إنه يمتلك ذهنا وحياة عقلية، باستثناء أنها مختلفة تماما عن حياتنا العقلية، ومن الصعب تكوين فكرة عنها. هل يتعلق الأمر بكائن فضائي؟ لا! إنه الأخطبوط. هذا الحيوان لا يكف عن إدهاش العلماء بعضويته وقدراته، وبفضله أعيد ابتكار نظرية تطورية في الوعي.

هل أنتم حقا واثقون من إرادة الخوض في هذا الملف؟ هناك مخاطرة في الأمر: ما من أحد من أولئك الذين لم يسبق لهم أن اقتربوا قط من هذه الرخويات المذهلة، وداعبوا أطرافها، وسبروا نظرتها، من خرج من ذلك كما دخل. فبعد الفضول تنبثق الدهشة، ثم الإحساس بتعقيد مزعج... يتحول إلى مساءلة عميقة لما نكونه، نحن، باعتبارنا نوعا. وهذا ما يقر به لودوفيتش ديكل Ludovic Dickel المختص في علم الأعصاب والسلوك المعرفي الحيواني لرأسيات الأرجل céphalopodes بجامعة كاين Caen: "ليس من المطَمْئِن جدا دراسة الأخطبوط".

لماذا دراسة الأخطبوط مزعجة بهذا القدر؟ احتمالا لأننا لا يمكن أن نتخيل حيوانا أكثر اختلافا عنا: سلالته وسلالتنا افترقتا منذ ما يناهز 650 مليون سنة. وينتمي الأخطبوط إلى الصنف الفرعي للرخويات، مثل المحارات أو الحلزونات أو البزاقات. وداخل هذا الصنف الفرعي، توجد فصيلة رأسيات الأرجل، التي يشترك فيها الأخطبوط مع الحبارات seiches والنوتيلوسات nautiles، هذه الحيوانات ذوات الجسم الرخو، والمزودة رؤوسها بأذرع متحركة. والأخطبوط الذي تقدر أنواعه بثلاثمائة نوع، يمتلك ثمانية من هذه الأذرع، كل منها يتضمن مئات من الماصات. وأسفل رأسه يوجد منقار حاد بواسطته يلتهم سلطعونات وصدفيات.

ولاستكمال هذه العدة الأصيلة، الحيوان مزود بثلاثة قلوب، وبعينين بشبكيتين مستطيلتين- عموديتين على الأرض مهما تكن وضعيته- وبدم يميل إلى الزرقة عند تعرضه للهواء، وبقدرة مدهشة على التجدد.

وبالرغم من هذه العضوية الغريبة، وبالرغم من مئات الملايين من السنين من التطور التي تفصل بيننا، فإن الأخطبوط يظهر سلوكا بديعا ومألوفا بصورة مدهشة. يقول عالم الأعصاب البيولوجية الأمريكي دافيد إيدلمان David Edelman: "أتذكر دائما لقائي الأول مع الأخطبوط. فقد قامت طالبة بتقديم وجبة غذاء، سلطعون حي، لأخطبوط أكواريوم مختبر بحث نابولي. وبينما توجه الحيوان نحو وجبته دخلت الغرفة، فأوقف حركته وشرع في ملاحظتي في عيني مباشرة، وظللنا ننظر إلى بعضنا البعض لمدة ربع ساعة! وعندما تظاهرت بأنني أهم بالمغادرة، تمسك بي واضعا ذراعه على ذراعي: فقوته على التركيز، وقدرته على التحكم في شهيته، وتأخير وجبته من أجل الإبقاء على الاتصال بيني وبينه، كل ذلك أذهلني".

مزحة الأخطبوط الخاصة

الباحثون لا يكتفون من سرد حكايات أخطبوطات تنفث الماء أو المداد، بل وتحيك دسائس محكمة. وهكذا عرف الأخطبوط أوتو Otto المقيم بأكواريوم سي-ستار Sea-Star بمدينة كوبوغ Cobourg بألمانيا، بميله إلى قذف الماء على مصابيح القاعة، محدثا دارات صغيرة مغرقة المكان في الظلام. من الممكن أن تكون مجرد مزحة، أو انتقام أخطبوط: سلوكات مشابهة سجلت بجامعة أوتاغو Ottago بزيلاندا الجديدة.

وإذا كانت هذه الطرائف تبعث على الضحك، فإنها تثير أيضا أسئلة محيرة: كيف يشتغل هذا الذكاء؟ وكيف تدرك هذه الحيوانات نفسها؟ وكيف ترى الأفراد الآخرين، من نوعها أو من نوع آخر؟ وماذا يعني أن يكون الكائن أخطبوطا؟ كل أولئك الذين جاوروا الأخطبوطات كانوا على يقين من أن هذه الكائنات لها قدرات معرفية متطورة وتشعر بانفعالات. لنذهب إذن للقاء شكل آخر من الوعي على كوكب الأرض.

الترجمة
" سواء بالنسبة لتشكيل الطليعة الثورية أو لتجديد الحركة العمالية ككل، فمن الضروري صياغة البرنامج الاشتراكي من جديد، وأن يتم ذلك بطريقة أكثر دقة وتفصيلا من ذي قبل. ونعني بالبرنامج الاشتراكي تدابير تحويل المجتمع التي يتعين على البروليتاريا المنتصرة أن تتخذها لتحقيق هدفها الشيوعي. لا يتم هنا تناول المشاكل المتعلقة بنضال العمال في إطار المجتمع الاستغلالي. نقول: أعدوا صياغة برنامج سلطة البروليتاريا، وصوغوه بطريقة أكثر دقة مما كانت عليه في الماضي. صياغته مرة أخرى، لأن صياغته التقليدية قد تم استبدالها إلى حد كبير بالتطور التاريخي؛ وعلى وجه الخصوص، لا يمكن تمييز هذه الصيغة التقليدية اليوم عن تشويهها الستاليني. صياغتها بدقة أكبر بكثير، لأن الغموض الستاليني استخدم بدقة الطابع العام والمجرد للأفكار البرنامجية للماركسية التقليدية لتمويه الاستغلال البيروقراطي تحت القناع “الاشتراكي”. لقد أظهرنا عدة مرات في هذه المراجعة كيف تمكنت الثورة المضادة الستالينية من استخدام البرنامج التقليدي كمنصة. محوراها: التأميم والتخطيط الاقتصادي، من جهة، وديكتاتورية الحزب كتعبير ملموس عن دكتاتورية البروليتاريا؛ ومن ناحية أخرى، في ظل ظروف التطور التاريخي المحددة، تم الكشف عن الأسس البرنامجية للرأسمالية البيروقراطية. وما لم نرفض هذه الملاحظة التجريبية، أو ننكر الحاجة إلى برنامج اشتراكي للبروليتاريا، فمن المستحيل التمسك بالمواقف البرنامجية التقليدية. وبدون تفصيل برنامجي جديد، لن تتمكن الطليعة أبدا من وضع حدودها فيما يتعلق بالستالينية على أصدق وأعمق أرضية؛ وقد أثبتت تجربة التروتسكية المؤسفة ذلك بجلاء. ولكن من الواضح أيضًا أن هذا الاستخدام للأفكار البرنامجية التقليدية للماركسية من قبل الستالينية، بعيدًا عن أن يعني أنه في الإنجاز الستاليني قد تم الكشف عن الجوهر الحقيقي للماركسية، كما قال البعض إنهم يحزنون أو يفرحون بها، فقد عبر ببساطة عن والحقيقة هي أن هذه الأشكال المجردة - التأميم والدكتاتورية - اتخذت محتوى ملموسًا مختلفًا عن المحتوى المحتمل الذي كانت عليه في الأصل. بالنسبة لماركس، كان التأميم يعني قمع الاستغلال البرجوازي. علاوة على ذلك، فإنه لم يفقد هذا المعنى في أيدي الستالينيين؛ لكنها اكتسبت أيضًا شيئًا آخر - تأسيس الاستغلال البيروقراطي. فهل يعني هذا أن سبب نجاح الستالينية هو الطابع غير الدقيق أو المجرد للبرنامج التقليدي؟ وسيكون من السطحي أن ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة. هذا الطابع المجرد وغير الدقيق في حد ذاته لم يعبر إلا عن عدم نضج الحركة العمالية، حتى بين ممثليها الأكثر وعيا، ومن عدم النضج هذا، بالمعنى الأوسع، تنبع البيروقراطية. ومن ناحية أخرى، فإن التجربة البيروقراطية، و"تحقيق" البيروقراطية للأفكار التقليدية، سيسمح للحركة العمالية بالوصول إلى هذا النضج وإعطاء تجسيد جديد لأهدافها البرنامجية. إن صياغة البرنامج الاشتراكي بدقة أكبر مما تم حتى الآن في إطار الماركسية لا تعني بأي حال من الأحوال العودة إلى الاشتراكية الطوباوية. إن نضال الماركسية ضد الاشتراكية الطوباوية نشأ من عاملين: فمن ناحية، لم تكن السمة الأساسية لـ "الطوباوية" هي وصف المجتمع المستقبلي، بل محاولة تأسيس هذا المجتمع في أصغر تفاصيله وفق نموذج منطقي، دون دراسة القوى الاجتماعية الملموسة التي تتجه نحو التنظيم الأعلى للمجتمع. وكان هذا مستحيلاً فعلياً قبل تحليل المجتمع الحديث الذي بدأه ماركس.

" إلى أيّ حدّ يمثّل التساؤل عن النسيان واجبا فلسفيّا ، في قرن الذاكرة هذا، المنشغل باستمرار بإحياء الذكرى والمشدود إلى "استهلاكية تذكارية؟" (ج.لومبار)
" يصنع النسيان الذكريات كما يصنع البحر حافة الشاطئ"، مارك أوغي

*****

 "  يهدّدنا النسيان ، ينقض ما نفعل، ويلاحق  ما نكون.  وبموجب هذا بالتأكيد ، نحن نفكّر فيه غالبا بصيغة سلبيّة، بوصفه من جهة إلى أخرى، " فقدانا  ونقصانا ومحوا والتباسا ونكرانا  وحطّا واضطرابا وإهمالا وافتقارا وهفوة وتقصيرا وتسلية"(2). كثيرا ما نرتمي في " ليل النسيان البارد" ، على حدّ ما يقوله إيف مونتان في غناءه لنص جميل لجاك بريفار " الأوراق اليابسة". ولكننا نعرف من جهة أخرى، بانّ النسيان يواسينا ، ويهيئنا للمستقبل، ويعيدنا إلى الجديد. هو هدّام، يكرهنا على يقظة مضنية ، كما أنّه أيضا حليفنا الأكثر حميميّة من أجل مجابهة ثقل الزمن والعالم. غالبا ما يعقب الليل البارد الصباح المضيء. وإذا كانت الذاكرة تسمح لنا بالتعرّف على العالم، لو استعدنا مفهوم التعرّف الذي يشتغل عليه بول ريكور(3)، فالنسيان يعطينا، من بعيد إلى بعيد ، قفزة إلى عالم جديد، وقدرة على الولادة من جديد. واجهت الفلسفة منذ نشأتها، هذه الإشكالية للنسيان. (4) وسنرى أنها أقامت فيها مثلما نقيم في مكان مفضل، وأنها جعلت منها موطنا ميتافيزيقيا جميلا. وهذا يعني إلى أيّ حدّ يمثّل التساؤل عن النسيان، في هذا القرن للذاكرة، المنشغل باستمرار بإحياء الذكرى والمشدود إلى "استهلاكية تذكارية" (5) ، واجبا فلسفيّا. 

تمثّل الأوديسا بعدُ، في بدايات تاريخ الغرب، ضربا من سرد لا ينسى عن النسيان. نفكّر في إيليس  Ulysse  في بلاط ملك الفاشيون Phéaciens   يَحكي عن الزوابع ، والمخاطر ومختلف العوائق التي اعترضته أثناء  رحلته ، منذ أن غادر ، مع أسطوله، في نهاية حرب طروادة ، بلاد الإغريق وعالم البشر. وفي مقابل آخيل Achille في الإلياذة الذي بلغ قمّة المجد ولمع صيته في الحاضر الأبدي للملحمة ، كان إيليس  بعدُ في زمن البشر، زمنا يهدّده النسيان. ذلك أنّ النسيان موجود حيثما كانت مغامراته: هو باستمرار أسوء المخاطر بالنسبة إلى هذا البطل الذي تفصح مغامرته بعدة طرق عن صنع التاريخ (6).

خطر حادّ، في لحظات معينة: عرف الرفاق، لدى " اللوطافيجيين"Lotophages ، آكلي اللوتس lotos ، " نشوة النسيان" "ivresse de l'oubli" ، التي صرفتهم عن رؤية الهدف من سفرهم وحتى فكرة العودة إلى ديارهم. ولدى الساحرة سيرسي Circé شراب فاتك - مخدّر حقيقيّ للنسيان- حوّلهم إلى خنازير وأفقدهم " كل ذكرى عن وطنهم" وفي نفس الوقت كلّ وعي بوجودهم كخنازير. وكان يجب على إيليس وقد صارت لدى الكاليبسو وفي بعض الوقت نسّاءة بفعل جميلا، الخلود الذي اقترحته عليها الحورية بإلحاح ، لأنّ الخلود يؤدّي إلى نسيان وضعيتها ، وماضيها وزوجها بينيلوبي  Pénélope . ومن وراء المخاطر الخاصّة التي  تمّ وصفها في هذه الحلقات، فإنّ كل خلفية رجوع إيليس هي التي تمثّل تهديدا بنسيان الذات. لقد كان هوميروس ، في الأزمان الأوّلى لبلاد الإغريق، شعار النسيان بامتياز. التحق بفضل هيسيدوس Hésiode ، الذي أقام تعارضا ّلأوّل مرّة منيميزون  Mnémosyne  آلهة الذاكرة والضوء الساطع ( ميموريا Memoria بالنسبة إلى الرومانيين) وليثي   Léthè  ، الآلهة المظلمة ، التي هي جزء معروض في التيوغونيا Théogonie: الليل ، ابنة كاوس  Chaos  الفوضى، والفراغ ، أنجبت الموت البغيض، والنعاس والشيخوخة الملعونة وكذلك " إيريس" ، الفتنة التي أنجبت بدورها اليتي  Léthè  النسيان، وكذا أخوته وأخواته المعاناة والجوع والألم. تشارك الآلهة ليتي اسمها مع "اليتي" Léthè ، أحد الأنهر الخمسة للجحيم، الذي سمّي أيضا نهر النسيان، والذي يجري فيه النسيان بسلام ودون همس، حيث تأتي الأرواح لتشرب حتى تنسى حياتها الماضية. نتبيّن كيف التاريخ الثقافي للنسيان قد تكوّن مع أولى الأعمال الشعرية الكبرى للإغريق القديم. ويبدو أن نصوصه تقدّم تمثّلا آليا قليلا للنسيان: يكون مُسبّب النسيان في الأوديسا، في كل مرّة فارماكون ( شراب صيدلاني)  pharmakon  ، خمر ، ومزيج أساسه عسل أو ثمرة مثل اللوتوس lotos ، الخ. لكن لهذا النظام من الأسباب مداه وقيمته الرمزية الأكثر اتساعا،  وهو يحيلنا إلى ما هو بحقّ قلب النسيان، أي لغياب يتعذّر إدراكه وغامض، ووضعية مفارقية حيث تثبّت السلبية بوصفها إيجابية. يذكر بلوتارخ  Plutarque  أنه يوجد في " الإريكثيون " l'Érektheion  ، هذا المعبد لللاكروبوليس temple de l'Acropole  أثينا، شمال بارثينون، مذبح قد أقيم لليثي Léthè  ،  النسيان . كيف آمكن بناء معبد للنسيان ، إذا لم يكن قد اعتبر بمثابة شيء آخر - وكثيرا- أكثر من نقصان ، وثغرة أو فقدان؟

"كانط هو أبو الفلسفة الألمانية: فهو المؤلف، أو بالأحرى أداة، لأعظم ثورة فلسفية حدثت في أوروبا الحديثة منذ ديكارت. لكن أي ثورة تستحق هذا الاسم هي ابنة الزمن وليست ابنة انسان. العالم يتحرك، لكن لا أحد يحركه، كما لا يستطيع أحد أن يوقفه. أرى سابقتين عظيمتين في فلسفة كانط: الروح العامة، والحركة العالمية لأوروبا، ثم الروح الخاصة لألمانيا. إن الروح العامة لأوروبا في نهاية القرن الثامن عشر معروفة جيداً: في ذلك الوقت، كان هناك تخمير صامت، نذير أزمة قادمة. لقد تم استبدال سذاجة القرون السابقة بميل عاطفي للفحص والتحقيق، وهو ما يساعد على اكتشاف الحقيقة. لقد كشف التفكير المطبق في البحث عن حقوق الإنسان وواجباته عن فراغ المؤسسات القائمة؛ لقد شعرنا بشدة بالحاجة إلى تجديد كامل للجسم الاجتماعي. يجب أن أصر أكثر على حالة ألمانيا الخاصة قبل كانط. لكن تاريخ الأمة هو في الأساس تاريخ واحد، وبالمعنى الدقيق للكلمة، يكاد يكون من المستحيل أن نفهم بشكل كامل الوضع الأخلاقي لألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر، ما لم يعرف المرء إلى حد ما العصور التي سبقت وأعدت ذلك العصر. نحن ندرس؛ لذا يبدو لي من الضروري أن أقدم هنا رسمًا سريعًا لتاريخ الحضارة الجرمانية منذ بداياتها الأضعف حتى وقت ظهور كانط، وذلك لكي أفهم بوضوح الروح الأساسية والدائمة للأمة العظيمة التي ينتمي إليها فيلسوفنا. ، ومن هو ممثله. إنني على قناعة تامة بأن النوع البشري هو نفسه في كل مكان، مهما كانت خطوط العرض المختلفة التي تتوزع عليها الأجناس البشرية. لا يوجد سباق متميز من أجل الحقيقة، من أجل الجمال، من أجل الخير. لقد تم التغلب على تأثير الظروف الخارجية وهزيمته في كثير من الأحيان، هنا بإرادة بعض النخبة من الأفراد بقدر ما كانوا يعنيهم الأمر، وهناك، من أجل الجماهير، من قبل الحكومات والمؤسسات. ويقلب التاريخ النظريات المطلقة التي تنسب الحرية أو العبودية إلى هذه المنطقة أو تلك. أعتقد باختصار أن الحضارة المشتركة هي ملك للجنس البشري بأكمله في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، إذا كانت البشرية واحدة، فليس أقل صحة أن الحضارة تتخذ أشكالًا مختلفة تمامًا، اعتمادًا على الظروف والأزمنة والأماكن. وأبرز تمييز هو الفرق بين الحضارات الجنوبية والحضارات الشمالية. شعب الشمال يرى نفس الحقائق التي يراها شعب الجنوب، لكنهم يرونها بشكل مختلف. ويلاحظ هذا الاختلاف في الشعر وفي الدين وفي المؤسسات السياسية. وتتبع الفلسفة نفس الحظ، لأن الفلسفة ليست في بعض الأحيان سوى القاعدة السرية، وأحيانًا قمة هذه التطورات الثلاثة العظيمة للروح، وأنقى وأسمى تعبير عنها. لقد تتبع السيد دي سيسموندي، في عمله الجميل عن آداب الجنوب، طابع الشعر في إيطاليا وإسبانيا في علاقته بالدين والحالة السياسية في هذين البلدين. ويمكننا، على غرار مثاله، أن نشير أيضًا إلى الخصائص الأدبية والسياسية والدينية الخاصة حصريًا بدول الشمال. النتيجة الأكثر تأكيدًا لجميع الملاحظات التي تم تقديمها بالفعل هي أن إنسان الجنوب، على الرغم من أنه نفس إنسان الشمال بشكل أساسي، إلا أنه أكثر اتساعًا، وأن إنسان الشمال، على العكس من ذلك، من خلال إن تأثير الانطباعات التي تنتجها الظروف الخارجية عليه يسهل نقله نحو نفسه ويعيش حياة أكثر حميمية. ألمانيا هي هذا السهل الشمالي الكبير، الذي تقطعه عدة أنهار كبيرة، وتفصلها عن بقية العالم حواجز طبيعية نادراً ما يتم عبورها، عن طريق المحيط وبحر البلطيق، وجبال كراباكس، ونهر تيرول والراين. ضمن هذه الحدود، تعيش وتتحدث نفس اللغة أمة أصيلة بعمق، ولا يخضع وجودها إلا لقليل من تأثير الشعوب المجاورة. إن الروح المشتركة التي توحد هذه المجموعات العديدة هي حب الحياة الداخلية، حياة الخيال أو الشعور أو الفكر الانفرادي مثل حياة الأسرة، وتفضيل أحلام اليقظة أو مزجها مع العمل، والاستعارة من الروح، من شيء مثالي وغير مرئي، اتجاه الحياة الخارجية، حكومة الواقع.

الترجمة:
" سوف أتوصل، كما هو متوقع، إلى نتيجة مفادها أن ما بعد الحداثة، وهو آخر من الحداثة، لا يمكن تعريفه في سياق خطابنا "الحديث"، ولا ينبغي أن يكون من العبث تمامًا أن نضع موضع التساؤل ما الذي يشكل الفصل بين الحداثي وما بعد الحداثي - ذلك هو ما يكمن وراء إمكانية حديثنا عن الحديث أصلاً. وبالمثل، من الضروري التعامل مع آخر آخر من الحداثة، أي ما قبل الحداثة، والذي تم تعريف الحداثة أيضًا في كثير من الحالات بالإشارة إليه. هذه السلسلة – ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة – قد توحي بترتيب زمني. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم ينفصل أبدًا عن التكوين الجيوسياسي للعالم. وكما هو معروف جيدًا الآن، فإن هذا المخطط التاريخي للقرن التاسع عشر يوفر منظورًا يمكن من خلاله فهم موقع الأمم والثقافات والتقاليد والأعراق بطريقة منهجية. على الرغم من أن المصطلح الأخير لم يظهر حتى وقت قريب إلى حد ما، إلا أن الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحديث كان أحد الأجهزة التنظيمية الرئيسية للخطاب الأكاديمي. إن ظهور المصطلح الثالث والغامض، ما بعد الحداثي، ربما لا يشهد على انتقال من فترة إلى أخرى بقدر ما يشهد على تحول أو تحول في خطابنا نتيجة لذلك عدم قابلية الجدل المفترضة للمزاوجة التاريخية الجيوسياسية الحديثة. وما بعد الحداثة أصبحت مشكلة متزايدة. وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الطعن في صحة هذا الاقتران. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة أنها تمكنت من النجاة من العديد من التحديات، ومن المبالغة في التفاؤل أن نعتقد أنها أثبتت أخيراً عدم فعاليتها. سواء باعتبارها مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية أو باعتبارها التزام المجتمع بقيم مختارة، لا يمكن أبدا فهم مصطلح "الحداثة" دون الإشارة إلى هذا المزاوجة بين ما قبل الحداثة والحديث. تاريخياً، كانت الحداثة في المقام الأول معارضة لسابقتها التاريخية؛ ومن الناحية الجيوسياسية، فقد تم مقارنته مع غير الحداثة، أو بشكل أكثر تحديدًا، مع غير الغرب. وهكذا كان الاقتران بمثابة مخطط استطرادي يتم بموجبه ترجمة المسند التاريخي إلى مسند جيوسياسي والعكس صحيح. يتم طرح الموضوع من خلال إسناد هذه المسندات، وبفضل وظيفة هذا الجهاز الخطابي، يتم تمييز نوعين من المجالات بشكل مميز؛ الغرب الحديث وغير الغربي ما قبل الحداثي. بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الغرب لم يكن أبدًا في مراحل ما قبل الحداثة أو أن اللاغرب لا يمكن تحديثه أبدًا: فهو ببساطة يمنع إمكانية التعايش المتزامن بين غرب ما قبل الحداثة واللاغرب الحديث. إن الفحص السريع لهذا النوع من الحداثة يشير بوضوح إلى وجود قطبية معينة أو تشوه بين الطرق الممكنة لفهم العالم تاريخيًا وجيوسياسيًا. لا يوجد سبب متأصل يجعل المعارضة الغربية/غير الغربية تحدد المنظور الجغرافي للحداثة، باستثناء حقيقة أنها تخدم بالتأكيد في تأسيس الوحدة المفترضة للغرب، وهي إيجابية غامضة ولكنها مهيمنة، والتي نميل إلى اعتبار وجودها منح لمثل هذا الوقت الطويل. وغني عن القول أن الغرب توسع وتحول بشكل اعتباطي خلال القرنين الماضيين.

الترجمة:
"دائمًا ما يكون وضع شخص ثالث يشهد حوارًا غير مريح. ومن خلال عدم المشاركة، فإنه يضطر إلى تسجيل حركة الكلمات فقط. أحيانًا يتفق مع أحد المحاورين، وأحيانًا مع الآخر، ومن هناك يأتي الانطباع بأننا نتناقش حول موضوع مشترك. ولكن مع مرور الوقت يؤدي إلى الارتباك، فهو مجبر على إدراك أن كلمات أحدهما لا يمكن سماعها إلا في صمت الآخر. ومن خلال فرض الصمت والكلمات، فهي التي تدعم الحوار. ثم يبقى متسائلا عما إذا كان للسؤالين مقياس مشترك غير هذه اللغة التي يعبر بها كل منهما عما يفرقهما. ويصبح الاستماع إلى الطرف الثالث بمثابة انقطاع للحوار، باسم العودة إلى الرسالة. يتناسب كتاب هنري ديكليف مع هذه الحركة. لكن هذا لا يعني بالنسبة لهذا المؤلف أن العقيدة الكانطية يجب أن تسود بأي ثمن. سيبقى مصدر إلهام هيدجر الرئيسي طوال استعراضه، مع الحفاظ عليه بدقة معينة. المؤلف وحده هو الذي يسعى لإظهار كيف يمكن تقديم هذا الإلهام بشكل أكثر ومختلف من خلال نصوص كانط الأخرى، والتي يتم أخذها بعين الاعتبار في علاقاتها الداخلية. وذلك لأن ثلاثة اهتمامات أساسية تبدو مشتركة بين هيدجر وكانط: لقد شككا في فكرة الفلسفة ذاتها، وكانا مهتمان باستعادة معينة للميتافيزيقا وأرادا التفكير في التناهي. لكن المؤلف لاحظ بالفعل أن هذه المواضيع الثلاثة لا يمكن أن تجد أسماء أخرى لا تزال مشتركة بين الفيلسوفين. وذلك لأنه في تماسك أعمال كانط وهيدجر، تتلقى هذه المواضيع صياغة مختلفة تمامًا. وإذا كان هيدجر يسعى جاهدا لإخفاء هذا الاختلاف، فذلك لأنه يمتلك وجهة نظر خاصة للغاية لجميع أعمال كانط. ومع ذلك، في مناسبات مختلفة، بالفعل في بداية قراءته لكانط، يؤكد هيدجر أن تأويله يجب أن يفهم العمل بأكمله، ويجعل وحدته الداخلية واضحة.