تبدو الانطلاقة من صقلية ضرورية للحديث عن الإسلام في إيطاليا، وبشكل ما "وُلِدت" صقلية مع الإسلام، أو بالأحرى مع العرب، الذين منحوا الجزيرة تاريخا وفخرًا، ثراء ماديا وفنيّا خارقين، بالتأكيد ليس أقلّ قيمة مما خلّفه الإغريق من آثار. كما لاحظ الكاتب ليوناردو شاشا، "بدون شكّ بدأ سكان جزيرة صقلية يسلكون مسلك الصقليّين بعد الفتح العربيّ". سابقا، وفي العموم كانت الأوضاع فاقعة، على الأقل كما يصفها المؤرخ ميكيله أماري: "صارت صقلية بيزنطية في الداخل والخارج؛ اختلّت جرّاء الداء الذي أَلمّ بالإمبراطورية السائرة في طريق السقوط؛ منشغلة بأوضاعها البائسة، لا يروعها الفتح الإسلامي الذي هزّها وجدّدها". بقيت آثار الفاتحين العرب المسلمين في العوائد، في اللغة، في أصول الكلمات، في الحضارة المادية: إنهما قرنان من السيطرة، فضلًا عن التأثير الثقافي الواسع جرّاء انفتاح بلاط النورمان على المساهمات العربية، التي لم تذهب سدى.
فإيطاليا لا تماثلها منطقة أخرى من حيث تأثير الإسلام التاريخي، وبالحدّة نفسها للإسلام المعاصر. انطلاقا من منطقة مازارا دل فالّو، التي تحتضن اليوم إحدى أهمّ الجاليات الإسلامية المشهورة في إيطاليا، والموقع الصقلي المطلّ على تونس، إفريقية قديما (التي ينحدر منها اسم القارة: إفريقيا؛ والتسمية مع عديد الجغرافيّين والمؤرّخين العرب، ضمّت صقلية أيضا).


فالآثار المتعلّقة بالماضي العربي الإسلامي، منغرسة في أسماء المواقع المحليّة، ومنتشرة في شتى الأمكنة: فمن "مرسى علي" أو "مرسى الله"، صارت اليوم مَرْسالا، الطرف الغربي من تريناكريا، إلى "حلق القنطرة" التي تحوّلت في الحاضر إلى ألْكنترا، إلى مختلف الأماكن التي ضمت الجذر العربي لمفردة "قلعة"، والتي باتت كالْتانيسيتّا، كالْتابيلوتّا، كالْتاجيروني، كالْتافيمِي، كالْشيبيتّا، إلى كانيكاتّي "القطاع"، إلى فافارا المنحدرة من "فوّار، العين الجارية"، إلى شاكّا "السّاقية"، إلى ألْكامو، التي كانت تسميتها العربية "منزل القمح". حول هذه الأخيرة تروى حكاية شفوية متوارثة، واردة من القرون الوسطى، تنسِبُ الاسم إلى القائد هالْكامو، الذي ما إن حلّ بمازارا حتى أحرق جميع سفنه ليصدَّ نفسه ومن تحدّثه نفسه ممن معه عن العودة إلى الخلف. فقد هاجم سِلِينونْتي وغَلّى بعض الأهالي أحياء في إناء من نحاس، حتى يبثّ في قلوبهم الرعب، ثم شيّدَ قلعة حملت اسمه.
تُشير إضافات لغوية أحيانا إلى اسم مكان، كما تأتي في اللاتينية لفظة -mons- أو في العربية لفظة "جبل"، بالدلالة نفسها، والتي تشكّل أحيانا مفردة "مونْجَبَل"، التي باتت اليوم "مونْجِبيلّو"، والتي تشير إلى الإتنا، كما نجد الاشتقاقات نفسها في جِيبِلّينا وجِيبلِّمانّا. إلى حدّ باليرمو، التي يرد ذكرها لدى العرب "بالرم" وقد كانت سابقا في العصور الإغريقية بانُورْموس، فهي حاضرة البلاط و"مدينة الثلاثمائة مسجد"، كما نعتها الرحالة العربي ابن حوقل في الحقبة النورمانية، في إحدى آثاره التي تعود إلى سنة 973م. فممّا ضمته تلك المنطقة في سابق عهدها لم يتبقّ سوى القليل، وليس في ما ترسّب من أسماء المواقع. فقد كانت الآبار والنواعير أساس نظام الريّ والأكثر تطوّرًا حينها، وهو ما سمح بتطوير زراعة النخيل وجلب القوارص والفستق والموز والمرّ والزعفران والقطن وقصب السكر. وما الذي نقوله عن الفولكلور: فبين عديد الأمثلة، نجد نوادر جحا، التي تحاكي قصص جحا العربيّ، "كبير الحذاء بليد الذهن" في ما يشبه بيرتولدو وكنديدي لدينا، وهو ما يرد بإسهاب في الروايات الشعبية. نستحضر أيضا الآثار الباقية من العمران (القصبة بمنطقة مازارا، التي باتت اليوم تحتضن الأحفاد الجدد لسكّانها القدامى)، من الأنشطة التجارية، إلى عديد العوائد الشائعة، بل في اللغة أيضا وفي عوائد التحية، فليس عرضا أن نجدَ "سلامليكّي"، المحرّفة عن "السلام عليكم"، التحية العربية التقليدية. نستحضر كذلك تعابير تُعَدّ من ميزات لهجة صقلية، مثل "لنقبّل الأيدي"، أو "البركة في سيادتك". إلى حدّ الألقاب العائلية، التي يضيق المجال لعرضها، من بوشامي إلى كنْجامي، إلى مرابطو، إلى شُرطينو، إلى عِزّو إلى رسولّو، أو تلك الأسماء المركَّبة بإضافة اسم الله، مثل فراجالا، وزابالا، وفادالا وغيرها كثير، حيث كلمة الله جلية في آخرها. يبدو جديرا تتبّع هذا التاريخ من أصوله.
كانت صقلية الفتحَ الأخيرَ للإسلام العربي في أوروبا، تلت توطّن الإسلام بالأندلس بُعيْد قرن من الفتح. مكثت فيه إسبانيا ترزح تحت السيطرة الإسلامية ما يناهز ثمانية قرون (بالضبط من العام 711م إلى 1492م، وإن كان بأزمنة وأشكال مختلفة من منطقة لأخرى)، وهو ما خلّف حضارة شامخة، ما زالت آثارها إلى اليوم زاهية. لا تضاهى مقارنة صقلية بذلك الفضاء، مما تبقى من آثار بادية للعيان في فنّ المعمار، ففي صقلية أقلّ بكثير مما نجده بالأندلس: ولكن في العموم يتعلّق الأمر بذاكرة تحتاج إلى الاكتشاف على غرار ما نجده بالأندلس. كما نجد النظر إلى الفتْحيْن في العالم الإسلامي نفسه مختلفًا. كتب ريزّيتانو: "إن كانت الأندلس في التاريخ العربي اِحتلّت ما نسمّيه باللّغة الصحفية المقال المعمّق ضمن تاريخ المغرب، فقد خصّصَ المؤرّخون المسلمون لأحداث صقلية، روايات متواضعة، ما يشبه روايات الهامش". كلتاهما، صقلية والأندلس، شملهما فتحٌ يعود إلى عائلات محدّدة ومستقلّة بشكل ما، وأحيانا عُدّت مبتدعة من قِبل الإسلام السنّي، الخاضع في تلك الحقبة إلى الخليفة العباسيّ في بغداد. نجد في صقلية أساسا الأغالبةَ العربَ، والفرسَ، والأمازيغَ، ممّن شكّلوا الموجة الأولى من البعثة الإسلامية، فقد كان الحاكم مستقلاّ، حتى وإن والى ظاهرا الخلافة في بغداد. ترافق ظهور الأغالبة في القرن التاسع الميلادي، مع اعتلاء كارلو مانيو العرش،كان ذلك بموافقة الخليفة هارون الرشيد على الحاكم إبراهيم بن الأغلب من إفريقية، بالسماح له بتوارث الملك؛ ثم خَلَفهم الفاطميون وقد شكّل عهدهم بحسب المؤرّخ الإيطالي فرانشيسكو غابريالي "العصر الذهبي للإسلام في صقلية"، إلى الكلبيّين المرتبطين بالفاطميّين، ممن انتسبوا حقّا أو زورا إلى فاطمة، ابنة النبي محمّد (ص) وزوج الخليفة الرابع علي، وممن ينتمون عموما إلى الشيعة. في حين حكم في إسبانيا خصومهم الأمويون، الذين سرعان ما أقاموا إمارة مستقلة، ثم تلاهم المرابطون، وأخيرا أتى الموحّدون، الذين رافقهم تصاعد نفوذ الأمازيغ، وقد شهد عصرهم ازدهارا ثقافيا ملحوظا، بلغ أوجه، وكما يحدث عادة، أثناء الفترة التي سبقت التراجع واندلاع حروب الاستعادة التي انتهت بطرد الموريسكيّين. لم يبق سوى التباكي على الأطلال عن حضارة فريدة من نوعها فعلا، سواء في تسامحها أو في انفتاحها الفكريّ، على الأقلّ بحسب ما كان معهودا في تلك الفترة؛ الآثار الباقية لمسجد قرطبة، وقصر الحمراء، وغرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، شاهدة على ذلك الإرث، الذي لم يبق ما يضاهيه من آثار شامخة في صقلية.
يعود تاريخ الغارة العربية الأولى على صقلّية إلى الفترة المبكّرة من تاريخ الإسلام، بالتحديد إلى العام 652م، أي العام الثلاثين من التقويم الهجريّ، نسبة لهجرة النبي محمّد (ص) وأصحابه من مكة إلى المدينة منطلق التقويم الإسلامي، وعلى بعد عشرين سنة من وفاة نبيّ الإسلام. ثم تتابعت المغازي، في العام 700م مثلا، تمّت مهاجمة جزيرة بنْتَلاّريا وأُفْني من فيها من السكان، ولغرابة الأقدار فإنّ أصول هؤلاء تعود إلى قرطاج وأوتيك في شمال تونس، من المسيحيّين الذين فرّوا من الفتوحات الإسلامية الأولى لإفريقية. وفي سنة 705م تعرّضت سيراكوزا للنّهب. لكن لم يتسنَّ فتح المدينة سوى بعد قرنين، وبعد ثمانين سنة من النزول بمازارا، الذي حصل سنة 827م، بعد مقاومة عنيفة. تَمّ فتح باليرمو سنة 831م، ثم مِسّينا سنة 842م، وراغوزا سنة 849م، وإينّا سنة 859م (من باب التذكير أثناء الحصار الأوّل للمدينة، سنة 829م، ضُرِبت العُمِلةُ الأولى التي تحمل اسم "صقلية" مع ذكر العام الهجري) وسيراكوزا سنة 878م، وأخيرا تاوِرْمينا، آخر قلاع المقاومة المسيحية، التي انتزعت بعد معارك دامية سنة 902م، أي العام 280 من التقويم الهجري. كَتَب إركيمبيرتو، أحد رهبان مونتيكاسينو في القرن الحادي عشر، عبارات بليغة واصفًا بها الفتح العربي: "في ذلك الزمن، كان العرب يُشبِهون خليّة النّحل، بأيادٍ ذات بأس شديد، وفدوا إلى صقلية من بابل وإفريقية. اجتاحوا كلّ شيء في البلاد المجاورة، وأخيرًا انتزعوا مدينة باليرمو الشهيرة، التي باتت محلَّ سكناهم في الوقت الحالي، وفي تلك الجزيرة سقطت عديد المدن والقرى، وفي وقت قليل أذعن الجميع لسلطانهم".
باتت صقلية تابعة للمجال الحيويّ السياسيّ والثقافي الإسلامي في ذلك العهد. فقد كان جوهر الصقليّ، مثلا، قائد جحافل قوات الخليفة الفاطمي المعز لإخضاع مصر، التي شهدت بناء الحاضرة الجديدة القاهرة سنة 969م. وكان الإمام المازري، المولود بمازينا، من أسس بيت الدراسات الفقهية الشهير بمدينة المهدية.
لعبت السياسة دورًا حاسمًا في توحيد الجزيرة وضمّها تحت الحكم الإسلامي، كان ذلك تحت رغبة الخليفة التي نفّذها الأمير أحمد، فقد أسّس في كل مقاطعة مدينة حصينة أقام فيها مسجدًا، ودعا الناس إلى العيش بداخلها وليس في قرى متناثرة: وهو ما ساعد على المراقَبة والدفاع، فكان بذلك الشكل أن طوّرَ إيرادات الدولة المالية، وخلطَ كذلك السكان المسيحيّين بالمسلمين، كما شجّع التعليم الديني وبالتالي اعتناق الإسلام.
انتهى الفتح العربي مبكّرًا. ففي القرن الأول من الألفية، أثناء صراع بين السادة الأعداء، حين يبحث أحدهم، كما يجري عادة، بالاعتماد على قريب قويّ، ربما عدو الأمس، لحلّ الخلافات الداخلية التي قد لا تنتهي إلّا على مستوى عسكري. فالقريب الذي يشكل مشكلة، فضلا عن أنه قوي، هو مربك وله أهداف جدّ محدّدة: هكذا بدا روجيرو النورماني حينها رفقة الأخ روبارتو غويسكاردو، حيث نزلا بجنوب مسّينا سنة 1061م، واستعادَا باليرمو سنة 1072م وستنتهي بعد ثلاثين سنة من مقدمهما، بالسقوط المشهور سنة 1091م، حقبة الوجود الإسلامي واسترجاع الجزيرة. وحتى وإن مرّت عسكريا إلى أيدي النورمان، فقد بقيت الجزيرة تحت التأثير الواسع الثقافي والإداري للإرث العربي الإسلامي، سواء أثناء حكم النورمان أو تحت فترة الحكم السفيفي.
حازت الصورة اللامعة والمنفتحة للإمبراطور فيدريكو الثاني، أهميةً جليّةً لدى عديد المؤرّخين. فقد احتفظ بين عناصر جيشه، كسابقيه، بحرّاس ثقاة من السراسنة، من المحاربين الأوفياء، وعارض أيّ مسعى لتحويلهم عن دينهم. لكن بالخصوص مستشاريه من العرب هو دلالة على بُعْد نظره السياسي، فضلًا عما ولاّهم من دور تنظيميّ وتثقيفيّ، كما كان بلاطه محل استقطاب للعلماء، ومنتدى للحكماء، المسيحيين واليهود والمسلمين. لقد كان الإمبراطور شغوفا ومتّقد الذكاء، كما تكشف عن ذلك "أسئلته الفلسفية" التي كان يدلي بها للعلماء من كافة المشارب، مع تفضيل للعرب من بينهم. يشهد على ذلك "كتاب المسائل الصقليّة"، المتواجد اليوم بمكتبة بودليانا بأوكسفورد. فللإجابة مثلا عن بعض تساؤلاته كتب الفيلسوف ابن سبعين رسالة في الذات البشرية وعن خلود الروح. كما يرجح أيضا تلقّيه العلم هو أيضا على يدي قاضٍ مسلم. كان يتحدث "اللاتينية والإغريقية والسراسينيّة، أي العربية...". لقد كان الزيّ الإمبراطوري الذي ارتداه يوم مجيئه إلى روما لتسلّم التاج من إمبراطورية الكرسيّ الرسوليّ، هو بشكل ما علامة على ذلك الانفتاح الثقافي؛ كان موشّى بالأحرف العربية على أطرافه، وحوى كتابة تشير إلى مأتاه، المصْنَع الملكي بباليرمو، وتاريخ العام 511، بالتأكيد العائد للتقويم الذي يرتبط بهجرة النبي محمّد (ص) من مكة إلى المدينة. بالتقويم نفسه، وفي بعض الفترات من الحكم النورماني، ضربت النقود الإمبراطورية: مباشرة بعد استعادة باليرمو، ضرب روبارتو غويسكاردو قطعًا ذهبية بالخط الكوفي تضمّنت التاريخ الهجري؛ فقط مع روجيرو الثاني أُدخلت الرموز المسيحية، لكن تمّ الاحتفاظ بالكتابة العربية وبالتاريخ الهجري، وكأنّ التفكير في انطلاق التاريخ الحقيقي لصقلية منذ ذلك العهد...
يوافق العام 511 هجري 1133 من التقويم الميلادي، وهو العام الذي تُوِّج فيه روجيرو الثاني في باليرمو، أصغر الملوك سنّا في ذلك العهد، وابن الكونت النورماني روجيرو الأول، غازي الجزيرة، والذي كان يستحسِن مناداته باللقب العربي المعتز بالله. بشكل عامّ يمكن قول، في سياق ما قاله المؤرخ الكبير نورمان دانيال، كانت صقلية النورمانية الدولة الوحيدة التي تميزت بالتعددية الثقافية والتسامح في القرون الوسطى. فضلا عن ذلك نجد مصدرا آخر موثوقا، ذلك العائد للمسلم ابن جبير، أصيل غرناطة. فقد روى عن غوليالمو الثاني (المنعوت بالطيب) الذي كان يعجّ قصره بالغلمان والخصيان المسلمين. وحتى وإن أعلنوا شكليا تنصُّرهم، فقد كان بوسعهم ممارسة شعائر دينهم الإسلامي في حضور الملك نفسه، أكان صومًا لشهر رمضان أم أداءً للصلوات الخمس. في حين كانت جواري القصر، كلهنّ من المسلمات، وقد هَدَيْن نساء أخريات من الفرنجيات إلى الإسلام (العبيد يبدّلون دين السادة...). كما كان حرسه الخاص من المسلمين، وكانت قيادتهم تحت إمرة مسلم. كان غوليالمو الثاني مثل فيدريكو الثاني يعرف العربية، كما كان مستشاروه من الحكماء والمنجِّمين المسلمين. كان لقبه المعتزّ بالله. كلّ تلك الفضائل لا يعود شأنها إلى دين الإسلام بل إلى التسامح النيّر لهؤلاء الملوك المسيحيين.
لم يمنع ذلك التسامح البعيد النظر فيدريكو الثاني من إخماد الانتفاضات الإسلامية الأخيرة بيَدٍ صارمة، بدءا من تلك الانتفاضة العارمة، التي قادها محمّد بن عبّاد ("المرابطوس" كما يرد ذكره في النصوص التاريخية اللاتينية). تمّ إخماد تلك الفتن، ورُحِّل جزء ممن بقوا على قيد الحياة إلى منطقة أخرى على شبه الجزيرة، وهي ما صارت تُعرف بطائفة لوشيرا المسلمة، وجزء آخر منهم تمّ دمجهم عنوة. يعود الفضل في ذلك إلى الإمبراطور الذي أبدى تعاطفا مع العرب والإسلام، في توحيد صقلية على المستوى السياسي، والديني المسيحي، واللغوي أيضا. فمنذ تلك الفترة عادت الجزيرة مسيحية. انتهى مصير السراسنة ليمثّلوا المغايرة بامتياز، وليتقمّصوا صورة العدو، فصيغت حولهم عديد الحكايات الفولكلورية، وتطوّرت ثقافة شعبية ما زالت تروى ومتوارَثة إلى اليوم.
كان الحضور العدديّ الإسلامي غفيرًا. يُرجَّح تواجد نصف مليون نفر من العرب والأمازيغ في الجزيرة، جالية كبيرة في مقابل مليون أو مليونيْن من "الأهليّين" المسيحيّين. أمّا اليوم فلا يمكن لعشرات الآلاف من العرب الموجودين بصقلية، أن يضاهوا أسلافهم، لا في العدد ولا في العدّة، من حيث الثراء والقوة. حتى وإن توافدوا من الربوع نفسها تقريبا. علمًا أنّ صقلية هي المنطقة الوحيدة في إيطاليا التي تفوق فيها الجالية التونسية نظيرتها المغربية عددًا، وكما شاهدنا، فعلًا من تونس، المسماة إفريقية سابقا جاء الفاتحون في الزمن الماضي.
ربما كان مكان الاتصال الوحيد الذي تبقّى، ولو على فترات متقطعة، وفي الوقت نفسه مثقلا بالرمزية والمعاني، جزيرة لمبيدوزا. فقد بقيت الجزيرة محلّ خلاف وتعرّضت للنهب المتكرّر عديد المرات من قبل السراسنة (سنة 812م أبادوا الكثير من الأهالي، لكن بالمقابل، وفي وقت قريب، جرت إبادتهم من قِبل القوات البيزنطية). هنا على الأقلّ، تقريبا حتى حدود منتصف القرن السادس عشر، كان معتادا مشاهدة بحارة مسيحيين ومسلمين (يمكن أن تعني الكلمة قراصنة أيضا، الملاعين السراسِنة) يتبرّكون ويقدمون الصدقات في المغارة المقدّسة للعذراء مريم، كما تروي إحدى الكتابات المسيحية عن تلك الفترة، "ذلك الذي يبقى محلّ إعجاب أنّ القراصنة الأتراك، أعداء ديننا وأعداء البشرية قاطبة، لا يجلون ويحترمون ذلك المكان فقط، بل يتبرّكون به ويقدّمون الصدقات بورع وإجلال يفوقون فيه المسيحيّين". ثم حلّت فترة الصدامات الكبرى بين العالميْن الإسلامي والمسيحي -ليبانتو 1571م-، فكفّت تلك الزيارات الدينية نهائيا. لكن اليوم مع مسلمين آخرين من جديد، في تلك الربوع من المتوسط، يبدو رمزًا صعبَ التناسي. ليس أملا وليس منْيَة: لا شيء من ذلك ولا شيء أقلّ مما جرى، إنه رمز يستحقّ التأمّل. ربما، ونحن نشاهد المهاجرين غير الشرعيّين ينزلون في جزيرة لمبيدوزا، تتقاذفهم الأقدار ويجذبهم سراب الغرب، بعد أن ألقى بهم السماسرة دون أن يبالوا على سواحل الجزيرة، وبعد أن وعدوهم أنهم سيرسون بهم على السواحل الإيطالية، على حدود أوروبا الهشة التي يمنّون أن تكون مرساهم. ينزل عشرات الوافدين شهريّا. تجليات تراجيدية للعيش البائس هناك: في ما يشبه رواية الملهاة لمشهد ربما يليق ببيرانديللو. ذهبَ في ظنّ أحد القادمين الجدد إلى الجزيرة أنّه حطّ الرحال أخيرا بجنوب إيطاليا، سرق سيارة ممنّيا النفس ببلوغ الشمال الموسر، قام بدورة داخل الجزيرة، وقبل أن يتنّبه يائسًا وجد نفسه قد عاد من حيث انطلق فوجد الشرطة بانتظاره...

ستيفانو أَلِيَافي :عالم اجتماع إيطالي مهتمّ بشؤون الإسلام والمسلمين في إيطاليا
عزالدين عناية : أستاذ تونسي بجامعة روما

كيف نعيش بشكل جيد في وقت الحجر والحظر؟ كيف يعيد وباء كوفيد 19 تحديد وتشكيل حياتنا؟ كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على العيش بشكل جيد في هذه اللحظات الغريبة؟ ما الحكمة التي يمكن أن نستحضرها؟ طرح موقع إلكتروني فرنسي سيار هذه الأسئلة وغيرها على كل من ألكسندر لاكروا، مدير تحرير مجلة الفلسفة، والفيلسوفة كلير مارين والطبيب النفسي العصبي، المحلل النفسي والكاتب، بوريس سيرولنيك. في ما يلي تفاصيل ومضامين هذه الندوة الفلسفية.

- هل كان الفيلسوف بليز باسكال على حق في القرن السابع عشر عندما قال إن "كل مصيبة الإنسان تأتي من شيء واحد فقط، وهو عدم معرفته كيفية الشعور بالراحة في غرفة "؟
بالنسبة لكلير مارين، فإن هذا الوضع لا يطاق لأنه يعيدنا إلى أفكارنا حول وضعنا البائس، إلى الخوف من المرض والموت. هذا هو السبب في أننا نحاول بأي ثمن ألا نكون بمفردنا مع أنفسنا.

"في هذه الأزمة ، يجب علينا أن نشتغل في المعرفة الصريحة على اللاّمعرفة الخاصة بنا"
في مقابلة مع لوموند ، يحلل الفيلسوف الألماني القوى الأخلاقية والسياسية وراء أزمة الصحة العالمية التي سببها وباء كوفيد-19 ويحث الاتحاد الأوروبي على مساعدة الدول الأعضاء الأكثر تأثرًا.
لقد أجرى المقابلة نيكولاس ترونج يوم 10 أفريل 2020 على الساعة السادسة:
"ولد في عام 1929 ، يعتبر يورغن هابرماس أحد أهم الفلاسفة في عصرنا. يمثل الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت ، وقد نشر للتو في ألمانيا تاريخًا كبيرًا من الفلسفة في مجلدين (سيتم نشره بواسطة غاليمار في عام 2022). أوروبي مقنع، ومؤلف بشكل خاص دستور أوروبا (غاليمار ، 2012) ومستقبل الطبيعة البشرية.، نحو تحسين النسل الليبرالي؟ (غاليمار 2015) ، يشرح لماذا يجب على أوروبا مساعدة البلدان الأعضاء المثقلة بالديون والضعف الهيكلي التي تتأثر بشكل خاص ، مثل إيطاليا وإسبانيا ، بجائحة كوفيد-19.

على سبيل التقديم
من البديهي أ ن إ. موران (Edger Morin) في كتابه الأخير – في الجماليات – لا يدعي التخصصية في علم الجمال بقدر ما يدون محاضرات ألقيت على اليوتيوب في كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، يعرض فيه ملاحظات عامة عن الجمال والفن والشعور الجمالي، وذلك باعتباره عالم اجتماع وفيلسوفا مهتما بالجماليات وعاشقا مهووسا بالسحر الكوني للجمال.

أهمية الجماليات في حياتنا.
لطالما كانت النفس البشرية حبورة مغردة لجمال الوجود، فما هو جمالي يثير في نفوسنا عاطفة غريبة بنشوة لاشعورية قد لا يستطيع العقل الواعي تفسيرها بصرامة العقلانية والمنطق العقيم، فما يبعث فينا الإثارة ويعمل على استمالتنا يعتبر موضوعا للجماليات حتى لو كان قبحا يجذبنا إليه بغرائبيته وعجائبيته. هذا، وتعزى الشعلة الأولى للتفكير النقدي التنظيري في علم الجمال إلى المفكر الألماني بومغارتنBaumgarten ، بحيث عنون كتابه: الجمالية (Aesthetica) سنة 1750، وبذلك اقترنت نشأة علم الجمال بنهاية (القرن 18).

خلال هذه الفترة التي يتم فيها قصفنا وغمرنا بمعلومات عامة، طبية، صحية، مجتمعية، إحصائية، سياسية تتمحور حصريا حول الفيروس التاجي، طلبت جهة كوسوني السويسرية من هذا الفيلسوف التحدث عن هذا الموضوع.
من الناحية الإيتيمولوجية، الفلسفة هي حب الحكمة والمعرفة. ومع ذلك، في هذه الفترة المثيرة للقلق، يبدو من المفيد لنا أن نفكر ونأخذ الوقت للتفكير، بدلاً من وضع أنوفنا دائما على مقود الأخبار الحية.
باعتباره الرئيس المشارك السابق لمجموعة فودوا للفلسفة (قسم فودوا بالجمعية السويسرية للفلسفة) وعضو في معهد البحوث الفلسفية بجامعة باريس نانتير (الذي كتب خصيصا له أطروحة حول مسألة العلاقة بين الضمير والمادية )، وافانا بيت ميشيل المقيم في بوسيني، بالنص التالي. نود أن نشكره بكل إخلاص ونأمل أن تكون مهتمًا بقراءته.

في ماي 1949، وقع ألبرت أينشتاين، المعروف قليلا بمواقفه السياسية، مقالا ظهر في العدد الأول من المجلة الشهرية اليسارية الوحيدة في الولايات المتحدة. شرح فيه لماذا اختار الاشتراكية بدلا من الرأسمالية. نُشر جزء من هذا النص الحائز على الراهنية في مجلة L'humanité في 15 غشت 2015. نقدم في ما يلي لقرائنا الكرام ترجمته الكاملة.
"هل من المناسب لرجل ليس ضليعا في القضايا الاقتصادية والاجتماعية أن يعبر عن آراء حول الاشتراكية؟ لأسباب متعددة، أعتقد أن الأمر كذلك.
لنتناول أولا هذا السؤال من وجهة نظر المعرفة العلمية. قد يبدو أنه لا توجد اختلافات جوهرية من حيث المنهجية بين علم الفلك والاقتصاد: في كلا المجالين، يسعى العلماء لاكتشاف قوانين مناسبة لوصف مجموعة محدودة من الظواهر من أجل جعل العلاقات بين هذه الظواهر مفهومة قدر الإمكان. لكن في الواقع هناك بالفعل اختلافات منهجية.

بوصفه أستاذا في جامعة نيويورك، فيلسوفا وخبيرا إحصائيا مزدوج الجنسية (لبنانية وأمريكية)، أصدر نسيم نيكولاس طالب كتابا بعنوان "البجعة السوداء، قوة اللامتوقع"، وهو عبارة عن دراسة بيع منها أكثر من 2.5 مليون نسخة في العالم، نظر (بتشديد الظاء) فيها حول وقوع أحداث نادرة، لا يمكن التنبؤ بها في نظره. ووفقًا له، فإن الناس تعقلن بعديا هذه الأحداث التي قلبت حياتهم رأساً على عقب. نظر (بتشديد الطاء) طالب في البداية لهذه الأحداث في الأسواق المالية قبل توسيع المفهوم ليشمل الأحداث التاريخية. ينظر العديد من المعلقين إلى بداية وباء الفيروس التاجي على أنه "بجعة سوداء". لكن ماذا يعتقد منشئ هذا المفهوم؟
من أجل الحصول على جواب مقنع عن هذا السؤال وعن أسئلة أخرى تفرض ذاتها في ظل الواقع الجديد الذي خلقه وهيمن عليه كوفيد-19، أجرى الموقع الإخباري الفرنسي 20minutes حوارا مع نسيم نيكولاس طالب نعرض في ما يلي مضامينه بكل تفاصيلها.

خص المعلم الروحي التبتي مجلة "L'OBS" بلقاء حصري خلال إقامته في ستراسبورج. مع نفس الهوس دائما: كيف نعمل حتى لا ننحدر إلى العنف؟
للمرة الأولى، لم يكن لضغط القنصل الصيني أي تأثير (يذكر). في ستراسبورغ، تم استقبال الدالاي لاما بأذرع مفتوحة سواء من قبل فندق المدينة أو من طرف السلطات الأوروبية. تتويجا لإقامته في العاصمة الألزاسية، خصص عطلة نهاية الأسبوع ليقوم، أمام جمهور من 8000 شخص تجمعوا بحماس، بفك شيفرة عمل فلسفي شاق ظهر الى الوجود منذ قرنين.
ها هنا استقبلنا في غرفة صغيرة بلا نوافذ تقع في طوابق المبنى الشاسع. بين وجبة غداء سريعة واجتماع مكثف، وجها لوجه، مع طفل مريض جيء به على كرسي متحرك، أجاب على أسئلتنا، حتى على أكثرها حساسية، قبل العودة إلى المنصة واستئناف مسار تأويلاته الميتافيزيقية.