الأدب والثورة الفرنسية - الكسيس دوتوكفيل – ترجمة : إدريس بنيحيى
لقد اختفت عن أنظاري الآن الوقائع القديمة والعامة التي أشعلت فتيل الثورة الكبرى والتي كنت أود وصفها. أنتقل إلى وقائع خاصة وحديثة جدا حددت (للثورة) مكانتها، ميلادها وطبيعتها.
عرفت فرنسا منذ زمن بعيد، قياسا مع باقي الأمم الأوروبية شيوعا كبيرا للأدب. ومع ذلك، فإنه لم يسبق أن أظهر حيوية فكرية مماثلة لتلك التي أبانوا عنها حوالي منتصف القرن الثامن عشر، كما لم يسبق لهم أن تبوأوا المكانة التي وصلوا إليها في ذلك العهد. ويبدو لي أن مجتمعنا لم يسبق أن عاش فيه الأدباء وضعا كهذا، كما لم نجد له مثيلا في أي مكان آخر.
لم ينخرط قط الأدباء يوميا في الشأن العام مثل نظرائهم في إنجلترا. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يضعوا يوما ما مسافة بينهم وبين الشأن العام، فإنهم بالمقابل، لم يمتلكوا أية سلطة تذكر ولم يتقلدوا أية وظيفة عمومية في مجتمع كان يعج بالموظفين. ومع ذلك، لا يمكن لنا الجزم قطعا أن الأدباء بفرنسا على غرار نظرائهم بألمانيا، قد ظلوا دوما بمعزل تام عن السياسة أو أنهم كرسوا حياتهم كلها للفلسفة والأدب.
لقد كانوا منشغلين على الدوام، بالقضايا التي لها صلة بالحكم، بل كان ذلك فعلا من صميم اهتماماتهم. لقد كانت خطاباتهم تثير يوميا مسألة أصول المجتمعات وأشكالها البدائية، الحقوق الأساسية للمواطنين وحقوق السلطة. عالجت خطاباتهم أيضا العلاقات الطبيعية والمصطنعة الت تربط بين أفراد المجتمع البشري وشرعية أو عدم شرعية العرف، علاوة على الوجود المبدئي للقوانين نفسها. أكثر من ذلك، فإن تدخلاتهم لمناقشة أسس دستور وقتهم قد تزايدت باستمرار، فكشفوا بتحليل ونقد عجيب عن بنياته ومنهجه العام. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يجعلوا من هذه القضايا الكبرى موضوعا لدراسة خاصة وعميقة واكتفوا بإثارتها بشكل عابر كما لو كانت مجرد قضايا للهو، فإنهم جميعا قد وجدوا أنفسهم في مواجهتها. لقد عرف هذا النوع من السياسة المجردة وذات النزعة الأدبية انتشارا بصورة غير متساوية في كل الأعمال (الأدبية) لهذا العهد، إذ ليس هناك عمل يخلو منها بهذا القدر أو ذاك بدءا من الدراسة العميقة إلى الأغنية.
أما على صعيد التوجهات السياسية لهؤلاء الكتاب، فقد كانت جد متباينة إلى درجة لا يمكن معها مطلقا الحديث عن وجود نظرية مشتركة لهم حول الحكم. ومع ذلك، فنحن إذا لامسنا أمهات الأفكار ووضعنا جانبا التفاصيل سنكتشف بسهولة أن أصحاب هذه التوجهات المختلفة يتفقون على الأقل حول مفهوم واحد عام جدا وواضح لأنه ظل يمسك بزمام تفكير كل واحد منهم، وربما كان هو المصدر المشترك لكل تلك الأفكار الخاصة التي عبروا عنها. ومهما كانت الاختلافات حول ما بقي من هذه المبارزة، فإنهم ظلوا جميعا متشبثين بالمبدإ التالي: