أنفاسفوق مدينة طريفة الصغيرة ينتصب واقفا حصن قديم بناه الموريسكيون. أتذكر جلوسي هنا صحبة زوجتي كريستنا في عام 1982. وللمرة الأولى كنت أنظر إلى قارة من خلال امتداد ضيق من الماء: أفريقيا. لم يكن ، آنذاك، بمقدوري الحلم بأنه بإمكان تلك اللحظة الكسلى من آخر المساء أن تلهمني بمشهد في كتابي الأكثر شهرة، الخيميائي . ولم يكن بمقدوري الحلم  بإمكان القصة الآتية، التي سمعتها في السيارة، أن تصلح كمثال جيد لنا جميعا نحن الباحثين عن توازن بين الانضباط والرحمة.
      أرسل تاجر ولده لتعلم سر السعادة من أحكم الرجال. هام الشاب في الصحراء مدة أربعين يوما إلى أن وصل إلى قلعة على قمة جبل. هناك كان يعيش الحكيم الذي يبحث عنه الشاب.
      لكن بدل إيجاد رجل تقي، دخل بطلنا غرفة وشاهد حركة دؤوبة ؛ تجارا ذاهبين و عائدين ، ناسا يتحدثون في زوايا الغرفة، جوقة تعزف ألحانا عذبة ومائدة مثقلة بألذ أطباق ذلك الجزء من العالم.
   تكلم الرجل الحكيم إلى كل الناس وكان على الشاب انتظار ساعتين كي يأتي دوره.وبصبر كثير استمع الحكيم باهتمام إلى سبب زيارة الشاب ولكنه لم يخبره في تلك اللحظة بأنه ليس لديه الوقت لكي يشرح له سر السعادة.
   اقترح الحكيم أن يقوم الشاب بجولة حول قصره والعودة في ساعتين. ًولكن، أود أن أسألك معروفا،ً أضاف الحكيم، مادا إليه ملعقة شاي حيث أفرغ قطرتي زيت. ً بينما تسير خذ هذه الملعقة ولا تدع الزيت يندلق.ً
   بدأ الشاب صعود ونزول درج القصر مركزا، دائما ،عينيه على الملعقة. ومع نهاية الساعتين عاد إلى حضرة الحكيم.
ً   ًإذنً، سأل الحكيم، ً هل رأيت الثريات الفارسية المعلقة في غرفتي؟وهل رأيت الحديقة التي كلفت سيد الحدائق عشر سنوات لخلقها؟هل لاحظت المخطوطات الجميلة في مكتبتي؟
   قلقا، اعترف الشاب أنه لم ير شيئا. لقد كان كل اهتمامه منصبا على عدم دلق قطرتي الزيت التي ائتمنه عليهما الحكيم.
ً   ًإذن، عد وشاهد عجائب عالمي،ً قال الحكيم. ًلا يمكن الوثوق برجل إن لم تعرف داره.
  الآن بارتياح أكبر، أخذ الشاب الملعقة وتجول مجددا حول القصر منتبها، هذه المرة، إلى الأعمال الفنية المتدلية من السقف والجدران. شاهد الحدائق، الجبال حول القصر، جمالية الورود، الذوق الذي وضع به كل عمل فني في مكانه الملائم. و لما عاد إلى الحكيم حكى له بتفصيل كل ما رأى.

أنفاسليست الترجمة كما يبدو للبعض - مجرد عملية ميكانيكية آلية يتم فيها البحث عن مقابل اللفظ في اللغة المنقول إليها، بل هي أعقد من ذلك بكثير، فهي "ممارسة فنية و عملية تقع في ملتقى الدرس المقارن و الهيرمينوطيقي و اللساني و السيميوطيقي و الشعري و الأسلوبي و السيمانتيقي، و بما هي كذلك، عملية  معقدة تبلغ حد الاستحالة لدى البعض، متجاوزة تخوم الممكن"(1). انطلاقا من هذا التعريف نستشف الطابع المعقد للترجمة التي ليست مجرد ممارسة اعتباطية بل هي سيرورة معقدة تقتضي مجموعة من الشروط، "إذ لا يمكن للترجمة أن تبلغ مستوى الجودة و النجاعة داخل كفايتها، في غياب قدرتي المعرفة و الفهم لما يترجم" (1) و بالإضافة إلى ضرورة التحكم المعرفي في ما يترجم، يفترض في المترجم أن يكون على اطلاع واسع على اللغة المترجم منها و على اللغة المترجم إليها، بل يجب أن يكون كاتبا مبدعا، فالكل يفكر، و لكن من يجد الكلمات ليعبر بها عن الأفكار هو الذي يسمى مفكرا، و قياسا عليه لا يكون المترجم كذلك إلا إذا استطاع أن يجد في لغة الترجمة الألفاظ و الكلمات المعبرة عن المعنى الحقيقي للنص الأصلي. و حتى تكون الترجمة عملا إبداعيا، لابد أن يكون المترجم من نفس طينة الكاتب أو الفيلسوف حتى يحتفظ النص بقيمته الأدبية و الفكرية و الفلسفية.

و بإيجاز، لابد للمترجم من أن يتمكن من لغة الترجمة و من لغة النص الأصلي حتى يفهمه فهما شاملا يفوق فهم القارئ العادي له، ناهيك عن ضرورة إلمام المترجم بالمجال الذي يترجم فيه سواء كان أدبا أو فلسفة أو غيرها، لأن ذلك يسعفه على "الإحساس العميق باللقطات الخفية (غير المرئية) في النص مما يمكنه من نقلها إلى النص المترجم.

و بعد أن تتوفر هذه الشروط، يطرح السؤال حول الطريقة التي يمكن انتهاجها أثناء الترجمة، فهل نعتمد الترجمة الحرفية؟ أم نغامر بألفاظ و عبارات النص الأصلي و نعيد صياغتها بطريقتنا الخاصة؟ و في كلتا الحالتين نتساءل: هل توفقنا فعلا في مهمتنا؟ و إلى أي حد كانت ترجمتنا أمينة؟

إن اختلاف النص العلمي عن النص الأدبي يفضي إلى تمايز بين الترجمة العلمية و الأدبية، ففي النص العلمي يكون الهاجس بعد التزام الدقة و الأمانة و الموضوعية و لو على حساب الأسلوب، فمثلا لا يمكن أن نتصرف في ترجمة طريقة تركيب دواء ما أو طريقة تشغيل جهاز كهربائي معين.

أنفاسالترجمة عملية تعتمد على فهم النص الأصل فهما عميقا وعلى إتقان اللغة العربية والإلمام بمبادئها وقواعدها للتمكن من التعبير بسلاسة وبأمانة عن نفس المعنى. فمتى فهم المترجم النص، أبدع في لغته الأم التي يترجم إليها، ذلك أن ذخيرته من المفردات والتعابير العربية ضخمة وهائلة وأسلوبه في هذه اللغة سيسعفه للتعبير بطريقة متماسكة ومتينة. وفي كل الأحوال فإننا نؤكد منذ البداية على أن الترجمة لا يجب أن تكون حرفية، بل يجب أن تسعى إلى نقل جوهر المعنى بعد أن يتشرب المترجم أفكار ومعاني النص الأصل.
ومن بين الأسئلة التي يجب طرحها ومحاولة الإجابة عليها قبل الشروع في أي نشاط ترجماتي هي:
- هل الترجمة مجرد انتقال من لغة أصل إلى لغة هدف؟
- هل هي تطابق حرفي أم تكافؤ في المعنى بين النص المترجم والنص الأصل؟
- هل هي إعادة للتعبير عن المعنى بصياغة ورؤية جديدة؟
- ما مدى التأرجح بين الوفاء للنص الأصل و خيانته؟
وإجمالا فإن الترجمة عملية معقدة تستدعي استحضار عدة معارف وتستلزم مهارات مختلفة متعددة. ويمكننا لتبسيط الأمور، تقسيم هذه العملية إلى ثلاث مراحل:
- الفهم: Compréhension
وهي مرحلة تتلخص في تأويل الخطاب في اللغة الأصل للإحاطة بالمعنى المراد تبليغه في اللغة الهدف.
- الانسلاخ اللغوي: Déverbalisation
وهي مرحلة تهدف إلى تحرير المعنى من البنيات اللغوية للنص الأصل حتى لا تتداخل مع بنى اللغة الهدف في النص المترجم.
- إعادة التعبير: Réexpression
وهي المرحلة الأخيرة في عملية الترجمة وتهدف إلى إعادة صياغة نفس المعنى باحترام كامل لخصوصيات الكتابة في اللغة الهدف.

أنفاسالأرض والبحر، الحيوانات والأسماك والطيور، السماء وأجرامها، الغابات والجبال والأنهار. هذه كلّها ليست مواضيع قليلة الشأن... ولكن الناس يتوقعون من الشاعر أن يكشف أكثر جمالاً ووقاراً مما هو مقرون دائماً بالأشياء الحقيقية الصمّاء... إنّهم ينتظرون منه أن يكشف الطريق بين الواقع وبين النفس. الرجال والنساء مدركون للجمال خير إدراك...إدراكاً ربّما لا يقلّ عن إدراكه هو له.
الصيّادون بجَلَدهم المندفع، الساكنون في الغابات،المستيقظون في الصباح الباكر، الزارعون للحدائق والبساتين والحقول، والحب الذي يكنّه النسوة الأصحّاء لأجساد الرجال، والراكبون البحار، الممتطون لصهوات خيولهم، الولع بالنور والهواء الطلق كل تلك الأمور دلائل قديمة متنوعة لإدراك الإنسان الذي لا ينضب للجمال ولتوطن الروح الشاعريّة في نفوس أولئك الذين يؤثرون الحياة في الهواء الطلق ولا يمكن قط أن يساعدهم الشعراء على الإدراك... يحاول البعض ولكنّهم لا يفلحون. الخصال الشاعريّة لا يمكن أن تعبأ في نظم مقفّى أو متجانس أو في مناجاة مجردة للأشياء، ولا تكمن في الشكاوي الحزينة أو في أغوار النفس. فائدة القافية أنّها نبذر بذور قافية أعذب وأوفر، وفائدة التجانس أنّه ينقل نفسه في جذوره المتغلغلة في الأرض غير المنظورة. إنّ صياغة القصائد الكاملة ووحدتها تبين قوانين العَروض بنموها الطبيعي وتطلع منها كما يطلع البرعم، دون زوغان أو تسيّب، كما تظهر أزهار الليلاك أو الورد على النبتة، وتتخذ أشكالاً متكاملة كأشكال الكستناء أو البرتقال أو البطيخ أو العرموط، وتنثر عطرها الخفي الذي لا نراه في الشكل. إنّ الطلاقة والزخرفة اللتين تتميزان بهما أبدع القصائد أو الموسيقى أو الخطب أو التلاوات غير مستقلتين وأنّهما خاضعتان. آيات الجمال كلّها تصدر عن جمال في الدم وجمال في الدماغ. إنّْ توافقت مواطن العظمة في رجل أو امرأة، هذا يكفي... هذه الحقيقة ستسود الكون... ولكن التنميق والتزويق لن يسودا الكون لو بقيا ملايين السنين. مَن يشغل نفسه بالزينة والسلاسة فهو ضائع. هذا ما ينبغي أن تفعله: أَحِبّ الأرض والشمس والحيوان، احْتقِر الغنى، امْنَح الصدقة لكلّ من يسألها، ساعد الغبي والأحمق، كرّس دخَلَك وتعبك إلى الآخرين، ازدرد الطغاة، لا تجادل في اللّه، كن صبوراً متسامحاً أمام الناس، لا تخلع قبعتك أمام شيء أو رجل أو عدد من الرجال، كن منطلقاً مع غير المثقفين الأشدّاء ومع الصغار والأمهات، اقرأ هذه الصفحات في الهواء الطلق في كلّ فصل من كلّ سنة من سنين حياتك، أعد النظر في كلّ ما تعلمته في المدرسة أو الكنيسة أو أي كتاب، ابعد كلّ ما يهين روحك فسيكون جسدك نفسه قصيدة عظيمة، وسيكون له أغنى طلاقة ليس فقط بكلماته، وإنما بخطواته الصامتة أيضاً ووجهه وبين أهداب عينيك وفي كلّ حركة ومفصل من جسدك... على الشاعر أن لا ينفق وقته في عمل لا لزوم له. عليه أن يعلم أن الأرض دائماً محروثة مسمّدة له... قد لا يعلم ذلك الآخرون، أمّا هو، فعليه أن يعلم. عليه أن يزّج بنفسه في عملية الخلق مباشرةً. وثقته ستتفوّق على ثقة كلّ ما يلمسه... وتستحوذ على كلّ صلة.

أنفاس"ماذا أعرف عن الله وعن معنى الحياة؟
أعرف أن العالم موجود...
أن الحياة هي العالم.
أن إرادتي تنفذ الى العالم.
5 - أن إرادتي هي إما خيرة أو شريرة.
أن الخير والشر عندئذ هما بشكل ما متوقفان على معنى العالم.
يمكن أن نطلق على معنى الحياة أي معنى العالم اسم الله.
10- ونلحق به استعارة الله الأب.
 الصلاة هي فكر في معنى الحياة.
أن نعتقد في الله يعني أن نرى أن وقائع العالم لا تجد طريقها الى الحل برمتها.
أن نعتقد في الله يعني أن نرى أن الحياة لها معنى.
15- العالم أعطي الي أي أن إرادتي تنفذ من الخارج الى داخل العالم، كشيء ما أعد سلفا...
لهذا السبب ينتابنا الإحساس بالتبعية تجاه إرادة غريبة.
لأي شيء نحن تابعون, نحن في كل الأحوال وبمعنى معين تابعون،
20- ان هذا الذي منه نحن تابعون يمكن أن نسميه الله...
ينبغي أن أكون في تناغم مع العالم من أجل أن أحيا سعيدا...

أنفاستنتمي أسطورة "ليليث" إلى أصول تاريخية قديمة جداً، فهي تتصل ببابل القديمة، حيث كان الساميون القدماء يتبنون مجموعة من المعتقدات الخاصة بأجدادهم السومريين، كما ترتبط بأكبر أساطير الخلق. هناك روابط متينة تلصقها بالثعبان، إنها بقايا ذكريات طقس قديم جداً كرّم أكبر إلهة سميت كذلك بـ"الثعبان الأكبر" و"التنين"، القوة الكونية للخلود الأنثوي، والتي عُبدت من خلال هذه الأسماء: "عشتروت Astarté، أو عشتار Istar ou Ishtar، ميليتا Mylitta، إنيني أو إينانا Innini ou Innana"(1).
وقد اكتشفت نقوش في الآثار البابلية (مكتبة آشور بانيبال)، وضّحت أصول "ليليث"، البغي المقدسة لإنانا، والآلهة الأم الكبرى، التي أرسلت من قبل هذه الأخيرة كي تغوي الرجال في الطريق، وتقودهم إلى معبد الإلهة، حيث كانت تقام هناك الاحتفالات المقدسة للخصوبة. كان الاضطراب واقعاً بين "ليليث" المسماة "يد إنانا"، والإلهة التي تمثلها، والتي كانت هي نفسها توسم أحياناً بهذا اللقب "البغي المقدسة".
لاسم "ليليث" جذور في الفصيلة السامية والهندو أوروبية. الاسم السومري "ليل Lil" الذي نجده ممثلاً في اسم إله الهواء "أنليل"(2) يدلّ على: "الريح" و"الهواء" و"العاصفة". إنه هذا الريح الحار الذي ـ حسب المعتقد الشعبي ـ يعطي الحرارة للنساء أثناء الولادة، ويقتلهن مع أطفالهن. عُدّت "ليليث" في البداية باعتبارها من أكبر القوى المعادية للطبيعة تتصدر مجموعة مكوّنة من ثلاثة آلهة: أحدهم ذكر والاثنتان أنثيان: "ليلو Lilû"، و"الليليتو La Lilitû"، و"أردات ليلي L'Ardat Lili، واعتبرت هذه الأخيرة زوجة سارق النور أو السارق الأنثوي للنور.
يوجد كذلك تشابه بين كلمة "ليليث" والكلمتين السومريتين التاليتين: ليلتي "الشهوة" ووليلو" الفسق". تستخدم ليليث إغراءها (المرأة الجميلة ذات الشعر الطويل) وشهوانيتها (الأكثر حيوانية) في نهايات تدميرية. على الأرجح وقع هذا أثناء سبي بابل(3) حيث حاول اليهود أن يتعرفوا على هذا الإله الذي يَنْشط خاصة في الليل؛ وعليه حاولوا أن يربطوا بين اسم (ليليث) والكلمة العبرانية ليل (الليل)، ولكن عدّ الربط احتمالاً غير ممكن الوقوع. وهكذا رُسمت صورة لليليث من خلال ملامح طائر الليل، البومة أو طائر الشؤم.
سيمكّن صوت باحثين آخرين من استكمال وصف ليليث من خلال العلاقات الممكنة التي تُقرّب اسمها من الجذر الهندو أوروبي (ل، La) بمعنى (الخلق ـ الغناء) من جهة، ومن الكلمة اليونانية من جهة أخرى. وتتفرع من الجذور (ل، La) الكلمة السنسكريتية (ليك، Lik) أي (لعق)، وكذلك عدد كبير من الكلمات التي لها علاقة باللسان والشفتين: نجد كلمة (lippe) في الألمانية والفرنسية، وكلمة (Labium) اللاتينية؛ تلتهم ليليث الأطفال، وتتجلى شفتاها وفمها دائماً في الأعمال الأدبية التالية.

أنفاسأهمية الترجمة:‏
عبر التاريخ لعبت الترجمة دوراً بالغ الأهمية في نقل المعارف والثقافات بين الشعوب. فاليونان يرسلون الطلاب والدارسين إلى مصر القديمة للتعلم ونقل معارفها في الحساب والفلك والزراعة... إلى الإغريقية، ثم يأتي الرومان فينقلون عن الإغريقية آدابها وفلسفتها، ويأتي العرب فينقلون عن اللاتينية والإغريقية، ويأتي العصر الوسيط فيدفع بالأمم الأوربية الغارقة في عصر الظلمة إلى نقل المعارف عن العرب. وهكذا تترجم كتب ابن سينا وابن رشد وابن الهيثم والكندي والرازي وغيرهم من علماء النبات والفلك والجغرافيا والتاريخ.. ويظل كتاب القانون يدّرس حتى القرن السادس عشر في بعض الجامعات الأوربية. ثم تدور الدائرة ويعود العرب، وقد وجدوا أنفسهم متخلفين عن الركب الحضاري بعد عصر انحطاط طويل، مضطرين للنقل عن أوربا. وهكذا دواليك... إذ تبقى الترجمة اللحمة التي تربط بين خيوط السداة في نسيج الحضارة البشرية، ربما، لولاها، لظلت الأقوام والشعوب متباينة متباعدة لا يربط بينها رابط.‏
هذا الدور الأساسي الذي تقوم به الترجمة نراه واضحاً من خلال النظرية التي تقول: إن للحضارة أطواراً ومراحل، وإن لكل طور ومرحلة شعباً من الشعوب يحمل مشعل الحضارة، تماماً كما في سباق الماراثون، إذ ليس باستطاعة أي شعب أن يحمل هذا المشعل إلى الأبد... بل هو يأخذه من شعب سابق ويسلمه إلى شعب لاحق... يأخذ ويعطي... مستفيداً من مجمل الإنجازات التي توصلت إليها الشعوب الأخرى قبله... ناقلاً ما وصل إليه وما استطاع أن يطوره يإمكاناته الذاتية إلى ما بعده... وعملية النقل هنا تعتمد اعتماداً رئيسياً على الترجمة. فعلوم الكلدان وإنجازاتهم في الحساب والفلك لم تضع هباء، بل انتقلت إلى مصر. وفلسفة الإغريق وحكمتهم وجدت نفسها بحلة جديدة بين أيدي العرب، وهكذا جبر الخوارزمي وكيمياء ابن حيان وبصريات ابن الهيثم... مشعل ينتقل من يد إلى يد.‏
ولعلنا نرى في تاريخنا العربي أوضح الأمثلة على الدور الذي لعبته الترجمة؛ فقد تنبه الخلفاء, خاصة بعد عصر الفتوحات الأولى، إلى أن هناك ثغرات واسعة لا بد من سدها، لا سيما في مجال تنظيم الدولة والقوانين والجباية وشؤون الإدارة والمال... إلخ. لهذا سارع عبد الملك بن مروان فأمر كل ذي معرفة بلغة بيزنطة وفارس واليونان بترجمة كل ما كتب في هذه الميادين، بعدئذ بدأت حركة الترجمة تتسع وتتطور إلى أن بلغت الذروة في العصر الذهبي للحضارة العربية، عصر المأمون، ذلك العصر الذي احتل فيه أعلام الترجمة مكانة رفيعة لدى الخليفة ورجال الدولة والوسط الاجتماعي، وهكذا حفظ لنا التاريخ أسماء لامعة لما نقلته لنا من كبار الأعمال عن الفارسية والهندية، اللاتينية والإغريقية.. كابن المقفع، ثابت بن قرة، يحيى بن البطريق، سهل بن هارون، حنين بن إسحاق، يوحنا بن ماسويه... إلخ.

أنفاسإن القراءة المُتمَعّنة للأحداث الراهنة تقودنا إلى التفكير في الأسباب العميقة التي ولّدتها وغذتها. واحد من بين هذه الأسباب، ذي الثقل المحدِّد، يَنبع من التصوّر الثقافي للآخر: والآخر هو كلّ مَن لا ينتمي إلى المجموعة التي تقف على إرثها التاريخي الخاص. وفي غالب الأحيان يُعمد إلى قراءة الأحداث التاريخية إمّا لتعليل مشروعية التعايش السلمي والحياة السعيدة، أو لتبرير الحرب والاستنزاف الدائم، والتآكل بسبب الظنون والمخاوف المتبادلة.
أبواق الدعاية لهذين التصوّرين، أعني العيش في كنف السلام والتعايش السلمي، أو العكس، أي الأفكار المسبقة والتعصّب، الشيء الذي يؤدي إلى اختلاق تعليلات لعنف جديد، هي وسائل الإعلام. ولكن الظاهر أن وسائل الإعلام مائحة في غالب الأحيان إلى اظهار البعد السلبي المثير من حياة المجموعات. وليس من سبيل الصدفة أنها كثيرا ما تبثّ مشاريع عنف وحرب عوضا عن مشاريع انفتاح كوني، من طرف مجموعات مصغرة مضغوط عليها، لدرجة أنها تلجأ إلى العنف كردّ فعل. لكن إن تصفحنا التراث التاريخي سنعثر على حالات سلام وحرب، وعليه فإن التاريخ يمكن أن يُقرأ كمُعلّم حياة (magistra vitae) أو مُعلّم موت (magistra mortis). إنه أمر مُعزٍّ وباعث للرجاء ملاحظة أن في ذروة الحملة الصليبية والجهاد الأصغر، نعثر على تجارب مشرقة في التسامح والتعايش السلمي.
لقد وقع اختيار الحقبة التاريخية وصنف الوثائق لأسباب هامة وعميقة، ذلك أنه زمن محدد، أصبح إطارا مرجعيا يحمل مخاطر تأويل تاريخي وكليشيهات ثقافية. لكن على نشازتها فإن زمن الحروب الصليبية والجهاد، وُجِد فيه رجال يَتَبنون فكرة السلم. فالوثائق التي تضمّ رسائل الحكّام الذين يقودون العالم آنذاك تبقى حجة شاهدة على ادراكهم فكرة التسامح، حتى من الزاوية الثقافية. هناك مستندات وثائقية ذات أهمية تاريخية محدِّدة وأخرى أقل منها أهمية. ومن بين الوثائق المهمة نجد تلك التي تخص المراسلات بين الحكام، أو بين السلطات السياسية والروحية العليا مثل البابا والامبراطور وأمثالهم في العالم الإسلامي.
لقد اعتمدنا في بحثنا هذا القراءة والتبويب المنظم للأحداث الخاصة بالتسامح والتعايش، الموزعة في  آلاف السّجلات من الوثائق البابوية ومن المراسلات المباشرة لأمراء مسلمين، أو الغير مباشرة والمأخوذة من الأجوبة التي أرسلها البابا.
المؤرخ، كمحقّق ورَاوٍ للأحداث، له ثقافته الخاصة وشخصيته التي لا يمكن حذفهما؛ لكن، من الأكيد، على كل حال، أنه يجب أن يكون على أقصى درجة من النزاهة وصدق الضمير، من حيث اظهاره نزعة سلام بناءة. التاريخ، وقد كان قد نبّه على ذلك شيشرون هو معلم حياة، وهو بمعنى ما نور ساطع للحقيقة، وبالتالي حسب شيشرون، يجب أن يكون "صادقا بسيطا وصالحا".