أنفاس في الاهتمام الفلسفي المتخصص, وفي مرحلة متقدمة نسبيا من ممارسة البحث الدراسي او الاكاديمي, التقليدي يشعر بعض المشتغلين بالضيق من قيود وحدود هذا البحث فتراودهم المغامرة على تخطيه نحو نمط جديد من التأمل ينزع تدريجيا وتلقائيا, انما بقوة اكثر فاكثر وثوقا, الى التسامي التام والجذري على القواعد الاكاديمية ذاتها والميل الى اغواء <<الضياع>> في الهواء الطلق. وهي حالة او مرحلة يشعر فيها المرء بأمان طوعي مع نفسه وحدها دون العالم الخارجي, اذ تبدو اشبه بالوقوف على ضفاف نهر عذب وثر  في آن, يغوى لحظتها المتأمل تلقائيا بإدارة ظهره للموجودات الاخرى, متماهيا مع بهجة فطرية تجعله خلاقا بذاته, ولا أهمية عندئذ لصدقانية هذا الادراك او وهميته.
هذا <<الاغواء>> يقود في الفلسفة الى مرحلة متميزة في الكتابة هي <<المحاولة>>. وهذه كانت بين اغنى وأنشط مجالات الإبداع في فترات ازدهار سابقة لثقافتنا, الا اننا نلاحظ غيابها النسبي في مرحلتها الراهنة. فثمة قطيعة بين تلك الفترات وفترتها المعاصرة تتقلص تدريجيا بلا شك, بيد انها لن تزول مما يعني ان الانطلاق فيها غير ممكن الا على اساس تواصل مع المعطى الماضي (ولنقل ما قبل العثماني مؤقتا), انما على أساس جديد يتصل بالضرورة بالمنجز العالمي والغربي خاصة ويتفاعل معه لأن الفلسفة كونية بالطبع وبالطبيعة.
من هنا تأتي الأهمية الاستثنائية للترجمة الدقيقة لذلك المعطى العالمي الذي نأمل الاستفادة منه واللحاق به وربما تجاوزه. والحال ان الترجمات العربية للنصوص الفلسفية الغربية الكبرى مثلا لا تزال ضعيفة بشكل مثير برغم التلاقيات المتعاظمة بين الثقافات العالمية التي تحققت في العقود العشرة الماضية لأسباب عديدة معروفة في مقدمتها الثورة الكونية في مجال الاتصالات والمواصلات. والاخطر من ذلك ان بعض المفاهيم الفلسفية الجوهرية السائدة تتضاد مع الاصل المترجم, مما يجعل التأسيس عليها خاطئا منذ البدء مع كل ما يترتب على ذلك من أوهام ومغالطات. 
تناقضات الترجمة الفلسفية الى العربية
فعلى سبيل المثال, قادتني نزوة في مرة سابقة الى تأمل مفهوم الذات لدى ديكارت, فوجدت نفسي ازعم ان عبارة <<انا افكر اذن انا موجود>>, هذه الصياغة العربية المعتمدة من قبل الجميع كما يبدو, مضطربة قطعا  وعقيمة, كترجمة لما يعرف بـ <<الكوجيتو>> الديكارتي.
فـ (Sum Cogito Ergo( , لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تعني, بنظرنا المتواضع, مجرد <<انا افكر اذن انا موجود>>. بل تعني, حرفيا, (افكر اذن أنا). او كما نقترح <<افكر اذن ذات  أنا>>.

أنفاسلقد تم إلغاء الصمت من حياتنا بشكل كامل. وتمت عملية الإلغاء هذه بشكل تدريجي، بحيث لم يستطع أحد الانتباه إلى خطورة هذه العملية وما أدت إليه من فقدان وخسارة، إلا في وقت متأخر جداً.‏ وكانت إمكانيات التأمل، القدرة على التمييز، الهدوء وإمكانية الإحساس العميق بالجهات، أول ضحايا الضجيج الذي اقتحم وسيطر على مشهد حياتنا المعاصرة. ولكن من أكثر الخسارات فداحة في هذا المشهد غياب الموسيقى من عالمنا. نعم، غابت الموسيقى، رغم ما قد يظهر في هذا الحكم من تناقض مع واقع حياتنا اليومية والثقافية. كيف يمكن لنا القول إن الموسيقى غابت بينما هي موجودة في كل مكان، متوافرة بكل الأنماط والأشكال الممكنة ومتاحة للجميع بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية! يكفي اليوم أن تدخل إلى موقع ما على الإنترنت لتحصل على أشكال وأنماط موسيقية متنوعة من كل أنحاء العالم وثقافاته لم يكن بإمكانك أن تحلم بالحصول عليها أو الاستماع لها بهذه السهولة من قبل.‏
هل هذا التوافر الكثيف والمتواصل للموسيقى في كل زمان ومكان أمر جيد؟ لم يعد هناك فسحة صامتة واحدة في فضاء حياتنا بلا موسيقى! لقد تحول الفضاء الذي نعيش فيه إلى ما يشبه السجن الصوتي حيث تنتهك الأصوات الموسيقية بشكل عشوائي كل نشاطاتنا وفعالياتنا اليومية. علينا أن نستمع لأشكال موسيقية لم نخترها في كل مكان ومناسبة، في كل محل للتسوق، في المصعد، عند استخدام الهاتف، من كل سيارة عابرة، في كل ما نستخدمه من وسائط النقل،‏
من كل بيت في جوارنا، في أي مطعم أو مقهى، أثناء المشي أو النوم أو العمل وفي كل ما نختار وما لا نختار من لحظات وجودنا الفردي أو الاجتماعي. لقد فقدنا الموسيقى في هذا المناخ لأن وجودها تحول إلى نوع من الانتهاك النفسي والحميمية القسرية المفروضة على الإنسان من قبل المصادر الصوتية المجاورة له بشكل دائم. عندما تكون الموسيقى في كل مكان تصبح غير موجودة في أي مكان، وعندما يصبح كل شيء موسيقى نفقد القدرة على تمييزها وتذوقها. إن الصمت شرط جوهري لتحقق التجربة الموسيقية، ولا يقل أهمية وجوهرية عن أي عنصر من عناصرها الصوتية. إنه ليس مجرد فراغ صوتي حيادي. الصمت في التجربة الموسيقية ليس عدماً صوتياً. إن الصمت يلد ويغذي ويكتسب في النهاية شكل الأصوات الموسيقية، وهو بذلك يرسم تفاصيل هذه الأصوات ومسار وجودها وتطورها في الزمن. ولأن الصمت هنا ليس مطلقاً أو عدمياً، فإن حضوره وتعبيراته تمكننا من تمييز ما هو موسيقي أو غير موسيقي من الأصوات. لهذا فإن فرادة التجربة الموسيقية وروعتها الغامضة تنتقل إلينا صوتياً عبر الصمت الذي يحاول دائماً أن يقول لنا شيئاً ما. إن ما يمكن للصمت أن يقوله لنا في تجربة موسيقية راقية له دلالات عميقة ووظائف تعبيرية يمكن قراءتها وتقصيها، ليس في خصائص وبنية العمل الموسيقي فقط، بل أيضاً في عملية تحقق تجربة التذوق الموسيقي في الزمان والمكان.

أنفاس للعمل الفني الأدبي -من بين جميع تجليات اللغة -صلة امتيازية بالتأويل، ومن ثمة فهو قريب من الفلسفة، ويخيل إلي أن الاستعانة بأدوات مستعارة من الظاهراتية تمكننا من تبيان هذا الأمر.
ولكي يحصل لنا الاقتناع بذلك يجب التسليم بأن التطورات الأخيرة التي شهدتها الظاهراتية هي وحدها التي ضمنت للتأويل مكانة محورية. فهذا هوسريل يرى أن تصور الشيء باعتباره شيئا وتقييمه ومعالجته بالرجوع إلى دلالته كان شكلا راقيا من النشاط الفكري المبني على صرح طبقة ظاهرية مؤسسة للإدراك الحسي.
وعلى هذا النحو فالبعد الهرمينوطيقي، في رأيه، عنصر تال يسبقه حضور ملموس (عيني) لموضوع الإدراك في الإدراك "الخالص". لا ريب في أن هوسريل استند في وصفه الدقيق إلى منهجية هرمنوطيقية مؤكدة، ولم يكرس جهوده إلا لتأويل الظواهر من منظورات رحبة دائما وبدقة أكبر دائما. بيد أن تفكيره لم يكن لصيقا بحميمية العلاقة الجامعة بين مفهوم الظاهرة و"التأويل". وقد بين لنا ما نفعله منذ هايدگر أن الترسانة الظاهراتية عند هوسريل كانت تخفي حكما مسبقا دوغمائيا. وقد كان ماكس شيلر- ذو الذهن الثاقب المستوعب موضوعات الذرائعية الأمريكية وموضوعات نيتشه ونتائج الأبحاث الحديثة في الحساسية سباقا إلى إبراز أن لا وجود للإدراك الخالص. فالإدراك "الخالص" "المطابق مطابقة تامة للإثارة" تجريد ترجمته الإشارة الى المستوى الذي تنمحي عنده المعرفة المعيشة للعالم. أما هايدگر فيعود إليه فضل تبيان أن تجريدنا الامتلاء المحسوس للحياة المعيشة -على الرغم من كونه أحد الافتراضات الأساسية في البحث العلمي- يسنده حكم أنطولوجي مسبق مكن تاريخ الميتافيزيقا من رفع النقاب عنه. وقد كانت الذرائعية الامريكية وسيكولوجيا الأشكال- وإن بطريقة مختلفة- متمسكتين سلفا بحقيقة مفادها أن نشاط الإدراك يقدم نفسه مندمجا في سياق نفعي للحياة، مما يعني أن الظاهرة الأولى هي على الدوام رؤية شيء باعتباره شيئا، لا الإدراك الحسي الذي قد يزعم إدراك الموضوع معطى خالصا. لا وجود لرؤية ليست مسبقا ودائما >تصور شيء باعتباره كذا<. ولكن كان علينا انتظار مجيء هايدگر كي نكتشف أن التراث الميتافيزيقي الإغريقي هو المسؤول عن دوغمائية "الإدراك الخالص"، وهو الذي ساق نظرية المعرفة عندنا، نحو أفق مغلق.
كان لقاء فريدا ذاك الذي مكن هايدگر من حدسه الثوري، أعني أنه كان في الوقت ذاته تلميذا في مدرستي هوسريل وأرسطو. فعلى خلاف الظاهراتيين الآخرين -وعلى وجه الخصوص الكانطية الجديدة التي كانت لها الصولة في ألمانيا أيام شبابي- تمكن هايدگر، بفضل أصوله وتربيته وصلابة وسلامة فكره وأستاذية بعض مدرسيه في كلية العلوم الدينية بفريبورغ، تمكن من تحقيق فهم مطلق الجدة والملموسية لأرسطو. أما أنا فخريج المدرسة الكانطية الجديدة بفاربورغ حيث يزدرى أرسطوا أيما ازدراء.

أنفاس- مدخل:
من الحدود ما وضع كأنما ليخرق. كالفاصل المعروف الذي يفصل، في خوارزمية صوسير، الدال عن المدلول، والذي سيستأثر بمعظم اهتمامنا، هو الذي أصبح، في هذه الأيام، ينطوي عليه من التباسات، ويعرف من خلخلة. وليس مفهوم الفضاء، يقينا، هو آخر مفهوم تنعكس عليه آثار هذا الاضطراب الدائم، الذي يطال المعجم والفكر على حد سواء.
لذلك نرى من اللازم، قبل الشروع في تحليل ملموس لـ"فضاء" أثر أدبي، أن نحدد، بوضوح، مستوى الدال في النص الذي نروم دراسته. ويطيب لنا أن نؤكد أننا نسعى، بغاية نريدها تدميرية، أن نعود بمفهوم "الفضاء" إلى دلالته الأولى: سيكون فضاء النص، عندنا، هو البيت، والمزرعة، والعمق، والدائرية-الموصوفة والمسرودة والمشخصة لفظيا. كما نؤكد، فضلا عن ذلك، أن هذا المستوى من المعنى، المعتبر بمثابة كنه منطقي، ملتحم ودال، يبدو لنا ذا أولوية، ولو في نطاق شكل أدبي بعينه على الأقل.
وهذا أمر لا يبدو أن الجميع قد استوعبه. فنحن نرى أن غالبية الأعمال المكرسة لدراسة "الفضاء الأدبي" يمكن تصنيفها إلى فئتين: تجهد الفئة الأولى في إعطاء مفهوم الفضاء ألف دلالة ودلالة، ما عدا دلالته البدهية. ويغيب عن الفئة الثانية أننا لا ندرك الفضاء إلا من خلال نص، من جمل وكلمات، مع كل ما يكون لهذا الأمر من استتباعات على صعيد بنية هذا الفضاء وفهمه.

وعليه، فإن مقاربة الفضاء الأدبي تشكو من نقص يلزم تداركه. وسوف نسعى إلى تدارك بعض من ذلك النقص، من خلال دراسة ما نسميه فضاء المحكي. وكما لاحظنا توا، فإن هذا الأمر يستدعي تفسيرا تمهيديا: إلى أي عالم ينتمي هذا "المنزل في المزرعة"؟ وكيف نفهم دلالته، من دون أن يغيب عن بالنا أن الأمر لا يتعلق بغير كلمات ثلاث، مكتوبة على صفحة؟ ثم كيف نبرز خصوصية هذه الكلمات داخل الخطاب؛ من حيث هو شكل تشخيصي خاص، بالمقارنة إلى خصوصية الصورة التشكيلية، على سبيل التمثيل؟

1.1 - الخطاب ومرجعه:

يبدو أن خير ما نفتتح به بحثنا هذا هو مؤلف جون فرونسوا ليوطار الخطاب والصورة. فالمؤلف يطمح إلى التدليل على اشتمال الخطاب على العنصر الصوري؛ أي تلك التجربة التي تعيشها الذات وتتعذر عن التعبير. ولقد شرع، على نحو منطقي تماما، في تحديد علاقات الخطاب بما هو بصري.

معنيان ممكنان على الأقل بالنسبة لتعبير فلسفة اللغة. يمكن أن يتعلق الأول بفلسفة حول اللغة، أي بدراسة خارجية، تعتبر اللغة كموضوع معروف مسبقا وتبحث عن علاقاته مع موضوعات أخرى، مختلفة عنه، على الأقل في بداية البحث. سنتساءل على سبيل المثال حول العلاقات بين الفكر واللغة (هل لأحدهما الأسبقية على الآخر؟ كيف يتفاعلان؟) هكذا حاول تيار مثالي، في الفلسفة الفرنسية في بداية القرن العشرين أن يبين أن تبلور المعنى في كلمات مسكوكة هو أحد أسباب الوهم الجوهري للاعتقاد بوجود أشياء معطاة وحالات ثابتة. سؤال آخر كثيرا ما نوقش في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، يتعلق بدور اللغة في تاريخ الإنسانية: حاول اللسانيون المقارنون إثبات تحول اللغة عبر مرور الزمن، وحاول فلاسفة مثل هيجل، أو لغويون هيجليون مثل شليشر Scheleicher تفسير هذا الفعل المزعوم بقولهم إن الإنسان التاريخي ينزع إلى تبني موقف المستعمل إزاء اللغة: تمنح اللغة إمكانية مزدوجة للتأثير على الآخرين، ولتخليد ذكرى هذا الأثر، وهي الإمكانية التي يتأسس عليها التاريخ نفسه. فقط في المرحلة الأولى من تاريخ الإنسانية استطاع الإنسان الاهتمام باللغة في ذاتها وأن ينحو بها نحو كمالها الباطني.
غير أنه يوجد موقف آخر ممكن بالنسبة للفيلسوف المهتم باللغة، وهو إخضاع هذه الأخيرة لدراسة "داخلية" واعتبارها هي نفسها موضوع بحث. وقد انساقت الفلسفة منذ نشأتها إلى هذا النمط من البحث، إلى درجة تتقدم كتفكير. وإذا كانت في الواقع المقاربة الفلسفية لمشكلة ما هي أولا توضيح المفاهيم المضمنة في صياغة المشكل، مفاهيم تمثل عادة من خلال كلمات اللغة اليومية، فإن الفيلسوف يسعى إلى تحليل، يمكن تسميته تحليل لغوي، لمعنى الكلمات. إن بداية حوار لاسيش L'achès بداية دالة. حيث يتناقش المتحاوران لمعرفة هل المبارزة تؤدي إلى الشجاعة أم لا. يتدخل سقراط، فيعطي للمشكلة في الوقت نفسه بعدا فلسفيا كما يحولها إلى قضية لغوية "ما معنى كلمة شجاعة؟". والبحث عن دلالة عامة حيث يمكن أن نستنتج منها كل الاستعمالات الخاصة للكلمة. غير أن البحث اللغوي في حوارات أفلاطون ينتهي دائما إلى الخيبة والإحراج، ولا يصلح سوى لتهيئ الأرضية لفهم مباشر وحدسي للمفهوم (الفهم الذي لا ينتج من جهة أخرى إلا في بعض الحوارات "المكتملة"). لقد تم تطبيق التحليل اللغوي، الذي يحضر في كل فلسفة نظرية، بشكل نسقي –واعتبروا التحليل اللغوي في الغالب الدراسة الفلسفية المشروعة الوحيدة- من قبل أغلب الفلاسفة الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين الذين ينعتون أنفسهم بـ"فلاسفة اللغة" ويسمون دراساتهم بالفلسفة التحليلية. حيث طوروا بعض أفكار المناطقة الوضعيين الجدد، مثل كارناب Carnap واستلهموا أعمال مور More وراسل Russel وفتجنشتاين Wittgenstein مؤكدين أن أكبر جزء من الفلسفة المكتوبة، ليس خطأ، بل عديم المعنى، ولا يستمد عمقه الظاهري إلا من الاستعمال السيء للغة العامة.

أنفاسكيف تصدر الأدباء حقل الفعل السياسي بفرنسا حوالي منتصف القرن الثامن عشر ونتائج ذلك
لقد اختفت عن أنظاري الآن الوقائع القديمة والعامة التي أشعلت فتيل الثورة الكبرى والتي كنت أود وصفها. أنتقل إلى وقائع خاصة وحديثة جدا حددت (للثورة) مكانتها، ميلادها وطبيعتها.
عرفت فرنسا منذ زمن بعيد، قياسا مع باقي الأمم الأوروبية شيوعا كبيرا للأدب. ومع ذلك، فإنه لم يسبق أن أظهر حيوية فكرية مماثلة لتلك التي أبانوا عنها حوالي منتصف القرن الثامن عشر، كما لم يسبق لهم أن تبوأوا المكانة التي وصلوا إليها في ذلك العهد. ويبدو لي أن مجتمعنا لم يسبق أن عاش فيه الأدباء وضعا كهذا، كما لم نجد له مثيلا في أي مكان آخر.
لم ينخرط قط الأدباء يوميا في الشأن العام مثل نظرائهم في إنجلترا. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يضعوا يوما ما مسافة بينهم وبين الشأن العام، فإنهم بالمقابل، لم يمتلكوا أية سلطة تذكر ولم يتقلدوا أية وظيفة عمومية في مجتمع كان يعج بالموظفين. ومع ذلك، لا يمكن لنا الجزم قطعا أن الأدباء بفرنسا على غرار نظرائهم بألمانيا، قد ظلوا دوما بمعزل تام عن السياسة أو أنهم كرسوا حياتهم كلها للفلسفة والأدب.
لقد كانوا منشغلين على الدوام، بالقضايا التي لها صلة بالحكم، بل كان ذلك فعلا من صميم اهتماماتهم. لقد كانت خطاباتهم تثير يوميا مسألة أصول المجتمعات وأشكالها البدائية، الحقوق الأساسية للمواطنين وحقوق السلطة. عالجت خطاباتهم أيضا العلاقات الطبيعية والمصطنعة الت تربط بين أفراد المجتمع البشري وشرعية أو عدم شرعية العرف، علاوة على الوجود المبدئي للقوانين نفسها. أكثر من ذلك، فإن تدخلاتهم لمناقشة أسس دستور وقتهم قد تزايدت باستمرار، فكشفوا بتحليل ونقد عجيب عن بنياته ومنهجه العام. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يجعلوا من هذه القضايا الكبرى موضوعا لدراسة خاصة وعميقة واكتفوا بإثارتها بشكل عابر كما لو كانت مجرد قضايا للهو، فإنهم جميعا قد وجدوا أنفسهم في مواجهتها. لقد عرف هذا النوع من السياسة المجردة وذات النزعة الأدبية انتشارا بصورة غير متساوية في كل الأعمال (الأدبية) لهذا العهد، إذ ليس هناك عمل يخلو منها بهذا القدر أو ذاك بدءا من الدراسة العميقة إلى الأغنية.
أما على صعيد التوجهات السياسية لهؤلاء الكتاب، فقد كانت جد متباينة إلى درجة لا يمكن معها مطلقا الحديث عن وجود نظرية مشتركة لهم حول الحكم. ومع ذلك، فنحن إذا لامسنا أمهات الأفكار ووضعنا جانبا التفاصيل سنكتشف بسهولة أن أصحاب هذه التوجهات المختلفة يتفقون على الأقل حول مفهوم واحد عام جدا وواضح لأنه ظل يمسك بزمام تفكير كل واحد منهم، وربما كان هو المصدر المشترك لكل تلك الأفكار الخاصة التي عبروا عنها. ومهما كانت الاختلافات حول ما بقي من هذه المبارزة، فإنهم ظلوا جميعا متشبثين بالمبدإ التالي:

أنفاستقديم
هناك تصور نظري يقول بالتلازم بين مستويي تجلي الدلالة ووجودها : يتعلق الأمر بالوحدات الخاصة بالتعبير من جهة، وبالوحدات الخاصة بالمضمون من جهة ثانية. فكل تغيير يلحق المستوى الأول سيؤدي حتما إلى إحداث تغيير على المستوى الثاني. إن المادة في الحالتين الأولى والثانية تظل بمنأى عن التغيرات، مادامت الوحدات في المستوى الثاني والأول هي التي >تبلغ< وهي التي " تخلق" التواصل بين المستويات وبين الأفراد. إن هذا الترابط سيكون هو المدخل الرئيسي لتناول السردية باعتبارها أحد أشكال التوسط بين مادة الدلالة وأشكالها. فما دام المستوى السردي لا يشكل سوى عنصر التوسط بين شكلين في وجود الدلالة، فمعنى هذا أن المادة الواحدة قابلة لأن تظهر عبر متواليات تعبيرية متعددة؛ وكل تحقق، أي كل توزيع جديد للمادة المضمونية، سيؤدي إلى الكشف عن أبعاد دلالية جديدة. ونتيجة لما سبق، فإن جوهر المضمون وكذا جوهر التعبير لا يدركان ولا يتم التعرف عليهما إلا من خلال الوحدات التي تخبر عنهما أي من خلال شكليهما.
ونقدم فيما يلي نصا يرصد هذا الترابط عبر تحليل >موضوع سميائي<، يقوم بدراسة الطريقة التي تشتغل بها الدلالة في واقعة حياتية محسوسة تمثل للوجود الإنساني من خلال حديه : الموت/الحياة. إن الأمر يتعلق من جهة بالنظر إلى الموكب الجنائزي باعتباره كلية (أي الإمساك به ضمن المتصل غير الدال)، ثم إخضاعه لتجزيء عبر التوزيع الفضائي (مقدمة الموكب ومؤخرته)، ثم توزيع المشيعين (الأقرباء ثم الأصدقاء ثم من يأتي بعدهم)، ثم اللباس (أشكال اللباس وكذا الألوان)، ويأتي في النهاية >سلوك< أطراف الموكب (سلوك من في المؤخرة ومن في الوسط وسلوك من في المقدمة). إن دلالة مجموع هذه العناصر تتحدد في علاقتها بالميت أي بالنعش الذي يحدد لمجموع العناصر دلالاتها. إن النص الذي نقوم بترجمته مأخوذ من كتاب جوزيف كورتيس Analyse sémiotique du discours, de l'énoncé à l'énonciation الصادر سنة 1991 ، من ص. 29 إلى ص.37

المترجم
النص المترجم
لتوضيح نظام الترابط بين التعبير والمضمون، يبدو لنا من المفيد أن نقدم -بطريقة مقتضبة وواضحة-تحليل موضوع سميائي ملموس يمكن لكل واحد أن يعرفه عبر التجربة ويتعلق الأمر بـ>الموكب الجنائزي< كما كان يجري في فرنسا القروية خلال القرنين 19و20 وقبل أن يعمم استعمال السيارات في الجنازات (خصوصا في المدينة).

أنفاستتحدث البراءة الحديثة عن السلطة كما لو كانت مفردة: فهناك من بيده السلطة، ثم هناك من لا يملكونها. لطالما آمنا بأن السلطة موضوع سياسي صرف، ثم أصبحنا نعتقد أنها موضوع إيديولوجي كذلك، يتسلل خلسة حيث لا عهد لنا به لأول وهلة، داخل المؤسسات وفي التدريس، ولكننا بقينا نعتقد أنها واحدة وحيدة ، وماذا لو كانت السلطة متعددة مثل الشياطين ؟إنها يمكن أن تقول عن نفسها: "اسمي كثرة كثيرة". في كل مكان، وفي جميع الجهات، جهة الرؤساء والأجهزة كبيرها وصغيرها، وصوب الجماعات المقهورة أو القاهرة؛ هناك في كل مكان أصوات "مشروعة" تعطي لنفسها الصلاحية لتسمع خطاب كل سلطة، وأعني خطاب الغطرسة. ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة، في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، ولكن أيضا في أشكال الموضة والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسروية والخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التي تسعى إلى معارضتها :أسمي خطاب السلطة كل خطاب يولد الخطأ عند من يتلقاه، وبالتالي الشعور بالإثم. ينتظر منا البعض، نحن المثقفين، أن نقوم، في كل مناسبة، ضد السلطة بصيغة المفرد، بيد أن معركتنا تدور خارج هذا الميدان؛ إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة: ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل، ممتدة في الزمان التاريخي. وعندما نبعدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هنالك؛ وهي لا تزول البتة. قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة، ومرد هذه المكابدة والظهور في كل مكان هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو اللغة، أو بتعبير أدق: اللسان.

اللغة سلطة تشريعية اللسان قانونها، إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر: ordo تعني في ذات الوقت التوزيع والإرغام. هذا ما أوضحه ياكوبسون . إن كل لهجة تتعين، أكثر ما تتعين، لا بما تخول قوله بل بما ترغم على قوله. وفي اللغة الفرنسية ( وأنا أسوق هنا أمثلة لا تخلو من فظاظة)، أنا مرغم على أن أضع نفسي كفاعل قبل أن أعبر عن الفعل الذي لن يكون إلا صفة تحمل علي؛ وليس ما أقوم به إلا نتيجة تتمخض عما أنا عليه، وعلى نحو مماثل، أنا مرغم دوما على الاختيار بين صيغة التذكير والتأنيث، وليس بإمكاني على الإطلاق أن أحيد عنهما معا أو أجمع بينهما؛ ثم إنني مرغم على تحديد علاقتي بالآخر، إما باستعمال ضمير المخاطب بصيغة المفرد أنت أو بصيغة الجمع أنتم؛ وليس بإمكاني أن أترك المجال لمبادرة العاطفة والمجتمع. وهكذا فإن اللغة، بطبيعة بنيتها، تنطوي على علاقة استلاب قاهرة. ليس النطق ، أو الخطاب بالأحرى، تبليغا كما يقال عادة: إنه إخضاع: فاللغة توجيه وإخضاع معممان.