أنفاس"لا نعرف دولة لا تعطي امتيازات للطبقة السائدة في عهدها" كارل ماركس
 لقد جانب أحد الأصدقاء الصواب عندما ربط اندلاع الأزمة المالية العالمية بانتعاش الخطاب الإيديولوجي والعودة من طرف الكتاب إلى الاهتمام بماركس وبالتحديد إعادة الاعتبار إلى كتابه العمدة: "رأس المال" ونقده للاقتصاد السياسي الليبرالي ولعل القيام بترجمة المصطلحات الأساسية في الماركسية ونص: "في مواجهة الاقتصاد، الكل في المواجهة " لباسكال كومبيمال المنشور في العدد 479 أكتوبر 2008 من المجلة الأدبية الناطقة باللغة الفرنسية والتي خصصت ملفا حول ماركس ومبررات إعادة الإحياء لفكره في اللحظة الراهنة يتنزل في هذا السياق ويعبر عن الحاجة إلى اقتصاد سياسي نقدي يساعدنا على مواجهة العولمة وصنع عولمة بديلة أكثر عدل وإنسانية خاصة إذا ما تعاملنا ماركس ليس كسياسيا بل كفيلسوفا وليس كصاحب مذهب فلسفي دوغمائي بل كواحد من أقطاب الظنة وكاشفي الأقنعة وواحد من مؤسسي فلسفة الرجة التي جعلت من مطلب تحقيق إنسانية الإنسان شغلها الشاغل، وإذا ما عنينا أيضا بالايديولوجيا كنظرية علمية نقدية للواقع تكشف عن التشوهات التي يتعرض لها الوجود الإنساني وليس كمجموعة من الترهات والأضاليل تعمل الطبقة السائدة على نشرها مبينة أنها حقائق ومبادئ صحيحة بغية تحقيق السيطرة على بقية الطبقات والمحافظة على مصالحها ، فماهي المفاهيم الأساسية التي وظفها ماركس لفهم طبيعة الاقتصاد العالمي والتعرف على آليات اشتغاله ومسارات تحوله؟
1-    المفاهيم الأساسية :
"لا ترسم هذه المجموعة من المفاهيم عقيدة منغلقة على نفسها وإنما هي محاولة إصلاحية لما أصاب الوضعية الحديثة من تعقد، ينبغي دائما أن نستفسر عن الاستعمال المشروع الذي يمكن أن تخضع له الماركسية في علاقة نقدية مع الكثير من الأشياء الأخرى من تقاليد مغايرة لها. هذه المفاهيم المصاغة بشكل صوري ترجع عندئذ إلى إعادة تأسيس ما وراء بنيوية للماركسية أنجزها مؤلفيها. بينما لم تكف هذه الأخيرة عن إظهار الانتقادات الموجهة لماركس والنظريات البديلة التي سبقته.

انفاسوهنا سيظهر للمترجم أن ليس هناك من "ترجمة واحدة"، وأن فعل الترجمة هو القيام باختيار بين عدة افتراضات. صحيح أن كل شيء قابل للترجمة والتفسير، لكن يحدث أحيانا ألا يكون مناسبا الحديث عن الترجمة، فعبارة التكييف ستكون المصطلح الأكثر ملائمة. إن الأهم خلال وضع الصورة النهائية للترجمة هو البحث عن أقل ما يمكن من التباعد عن النص الأصلي، ذلك لأن الترجمة هي دوما تقريبية، وتبقى على الدوام عنصر تقدير ذاتي: إن "الـ" ترجمة غير موجودة.

تهتم مؤلفات كثيرة بالمشاكل النظرية التي تثيرها الترجمة، وهذا جانب أساسي لا يخلو من أهمية، لكن ما صار يكتسي أهمية قصوى في السنوات الأخيرة هو المشاكل العملية للترجمة باعتبارها نشاطا ديناميا ومهارات عملية يمكن وصفها والتحكم فيها وتعليمها، ومن هنا الاهتمام بالأسس الديداكتيكية للترجمة في مؤلفات الديداكتيكيين(1) الذين يركزون على السيرورة التي من خلالها ينتقل نص من لغة إلى أخرى، مستحضرين العناصر الثلاثة المكونة لعملية الترجمية (المترجم، النص، المتلقي)، ومثيرين كل المعطيات والصعوبات التي يطرحها كل مكون في علاقته بالمكونات الأخرى، ومشددين على الكيفيات والطرائق الواجب اكتسابها لمواجهة هذه الصعوبات وإزالتها.
في هذا الإطار يندرج مؤلف الباحثين ج.هاردان وس.بيكو (1990)(2)، وهو يتكون من قسم منهجي يقدم النشاط الترجمي في شروطه ومراحله ومحطاته ووسائله ومشاكله، ومن قسم عملي يشتغل على نصوص إنجليزية وفرنسية.
ويسعى هذا المؤلف إلى أن يكون مدخلا إلى ممارسة الترجمة، مدخلا إلى منهج وطرائق المترجم. وهو يأخذ بالمقاربة التطبيقية في هذا المدخل لسببين أساسيين: أولا هناك مؤلفات تدرس المشاكل من زاوية نظرية بطريقة شاملة. ثانيا، لا يكفي الانطلاق من نظرية مهما كانت قوية وشاملة، ذلك لأن الترجمة تشبه أداء مقطع موسيقي، فهي تحتاج إلى الكثير من التقنية وتفرض في أشكالها الأكثر تعقيدا الكثير من الفن والإلهام. ولهذا ينبغي البحث عن تعلم الترجمة بتطبيق المنهجية وبمعاينة وملاحظة ممارسة الترجمة. وهذا ما يفرض القيام بمسح لهذا المجال وتعيين المشاكل التي تعترض المترجمين و"تركيب" ترجمة. Read Moreولا يمكن القيام بكل هذا دون تفكير في اللغة. فمن الضروري اكتساب وعي لغوي يمكن من تجاوز التحويل اللاواعي للوصول إلى المقارنة الواعية المعللة، فالكثيرون يدفعهم المنطق اللغوي اللاواعي إلى إسقاط بنيات لغتهم على لغة أخرى، ولهذا يكون من الضروري القيام بدراسة مقارنة للغتين عند الترجمة. فعندما نقول لغتين، فذلك يعني منطقين ورؤيتين للعالم، ويعني ذلك أيضا أن النحو هو الآلية الحاملة للمعنى، وهذا يدعو إلى القول إنه ليس هناك من ترجمة دون مقاربة واضحة للنحو، ليس فقط باعتباره خزانا للأشكال، بل بالأخص كإوالية ضرورية في بناء المعنى.

أنفاس(الوثيقة الرسمية التي تنظّم علاقة الكنيسة الكاثوليكية باليهود)
تعد هذه الوثيقة المترجمة واحدة من أبرز النصوص المتعلّقة باليهود في التاريخ المعاصر للكنيسة الكاثوليكية. فهي وثيقة لاهوتية مرجعية تعكس مواقف الكنيسة ورؤاها في مستهلّ القرن الواحد والعشرين، ومحورية من حيث إلزامها للكاثوليك واستلهام أبعادها ومضامينها، سواء في الحوارات الجارية مع اليهود، أو ما تعلّق منه بمواقف الكنيسة. آثرنا ترجمتها إلى اللّسان العربي وإطلاع القارئ العربي عليها، لما لها من جدوى في الإلمام بسياسة الكنيسة.
فنظرا للقيمة المرجعية الرسمية لهذه الوثيقة التي أعدتها لجنة العلاقات الدينية مع اليهودية، برئاسة الكردينال إدوارد إدريس كاسيدي في الفاتيكان، فإن الجدل حولها داخل الكنيسة ما انفك، لاسيما لأثر المفاعيل الثقافية والدينية المترتبة عليها في الأحقاب المقبلة.
استهلّت الوثيقة بتوطئة للكردينال كاسيدي، جاءت كالتالي:
عبر عديد المناسبات وفي أثناء مهمتي البابوية، استعدت بشعور يغمره الأسى عذابات الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية. إذ تستمرّ تلك الجريمة، التي صارت تعرف بالمحرقة، وصمة بيّنة في تاريخ القرن العشرين.
ونحن نتأهّب لحلول الألفية الثالثة من العصر المسيحي، تبقى الكنيسة مدركة أن غبطة اليوبيل، هي مسرّة متأسّسة على الصفح عن الخطايا والتصالح مع الربّ ومع القريب. لذلك تدعو الكنيسة أبناءها وبناتها لتطهير قلوبهم من الشوائب، عبر التوبة عن الأخطاء وعن أصناف المكر الذي حصل في الماضي. وتدعوهم إلى الوقوف بخشوع بين يدي الرب، وتفحّص مسؤولياتهم في ما اقترف من شرور في زماننا.
رجائي الصادق أن تعين بحق وثيقة " نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة"، التي أعدتها وأشرفت عليها لجنة العلاقات الدينية مع اليهودية، على تضميد جراح الخلافات والمظالم في الماضي. وتحفّز الذاكرة وتؤهّلها لأداء مهامها في كنف تشييد مستقبل، لا مكان فيه البتة لظلم المحرقة المجحف. لتكن قدرة ربّ العالمين في عون جهود الكاثوليك واليهود، وكلّ الرجال والنساء، من ذوي النوايا الطيبة، للعمل معا من أجل عالم يسوده احترام أصيل لحياة وكرامة كل كائن بشري، لأن الجميع خلقوا على شبه الله وصورته.

أنفاس كانت بدايةُ الثمانينيات علامةً صامتةً على رغبة شخصية في ترجمة «رمية نرد» إلى العربية. علامةٌ ملقاةٌ في صيغة ملاحظة مكتوبة، بيد، مرعُوبة، يدي، في كرّاس صغير. كانت القصيدة تحت بصري. الصفحاتُ والعنوانُ تلمع. وجسدي يستقبلُ هذا الضوءَ الفريد.
 كنتُ أعامل هذه الرغبة بما هي عرَضٌ من أعراض النزوع إلى المستحيل. كنتُ آنذاك أشرع في قراءة القصيدة فإذا بدُوارٍ يصيبني. دوار الجمال. دوار المطلق. دوار ما لا يدرَك إلاّ ذوقاً. وعند قراءة كل صفحة من صفحاتها كانت النشوة تمتزج باللاّطمأنينة. هي قصيدة تجعل من المطلق مُقامَها الذي لا مُقام سواه. لغةً وتفضئةً.
. ١ .
 كانت صورة ملارمي، التي كان نَـدَر Nadar التقطها له سنة 1895، وهو جالس فوق الكرسي، حاملاً ريشة المداد، وفوق كتفيه غطاء صوفي صغير الحجم أهدته إياه صديقته ميري لُوران Méry Laurent، يشعرني بصورة زاهد، وهب حياته للمطلق. هذه قصيدةُ الأسرار. كنتُ أهمس في نفسي فيما أنا كنت أخشى البوحَ، لقريب أو بعيد، برغبتي في ترجمتها إلى العربية. كلام صامت كان بيني وبين القصيدة. بل لمْ أكنْ أجرؤ على التفكير في الترجمة كلما ألقيتُ نظرة على صورة ملارمي. كنتُ أتخيل ليلاته الطويلةَ في تورْنون Tournon أمام مهَاوِي الورقة البيضاء، أترك نفسي تضيع في صمت كنت أظنّه صمتَ بيته في فالْفانValvins . وأتقمّص شدةَ انتظاره سعادةَ أن يرى صدور القصيدة في طبعة وفيّة لما يتصوره لها، بعد أن لم يستطع أن ينشر «إلاّ نصفَها» في مجلة كُوسْمُوبّوليسْ Cosmopolis .
. ٢ .
وأنا، اليومَ، أنظر إلى نفسي كما كانتْ تعيش تلك الرغبةَ بدون كلمات قادرة على الكشف عنها. قرأت القصيدة، عبر سنوات، من غير أن أبثَّ في إنجاز الترجمة. ثمة شيء ما كان ينقص لكيْ تنطلق الكلمات الأولى، كلمات العربية لقصيدة امتلكت ذهن وحواس ملارمي عهداً طويلاً قبل أن ينجح في كتابتها. ولا أدري كيف تحولت السنوات إلى غمامة خفيفة ألْبسُها وتلْبسُني. إحساسٌ كان يصعب أن يكون لي بطريقة مختلفة.

أنفاسارتبطت ممارسة الترجمة، في تاريخها الطويل، بالأحداث الاجتماعية والسياسية الفاصلة وبالتحوّلات العميقة في تاريخ الثقافات والحضارات، وبالصّراع على السلطة والنفوذ، وانصب عمل المترجمين في البداية على نقل النصوص القانونية والدينية، وكان مطلوبا من المترجم أن يُبلّغ ما يحمله من رسائل تبليغا أمينا لا تبديل فيه ولا تحريف، لأن الترجمات الدينية تتمسّك بقدسية الكلمة ولا تسمح بأي حذف أو إضافة. ثم خرجت ممارسة الترجمة لاحقا من المجال الديني إلى المجال الاجتماعي والمعرفي العام، فأصبح المترجم وسيطا بين المؤلّف والمترجم له، أي ذلك القارئ الذي لا يشارك المؤلّف نفس اللغة "وهذه الواسطة تجردت من حقوقها تجرّدا، وقامت بحقوق غيرها قياما" .
وأما طرائق الترجمة، فقد ظل يتجاذبها على مرّ التاريخ قطبان متصارعان: يتعصّب أنصار القطب الأوّل للترجمة الحرفية، أي "الأمينة"، ويرفضون رفضا باتا ما كان يُعرف "بالترجمة الحسناء الخائنة".وهي ترجمة المعنى التي يجعلها الديداوي مطيّة البيان، ورديف الوضوح، وهي في جوهرها "نقل المعنى من لغّة إلى لغة أخرى سواء كان هذا المعنى هو المعنى الذي يرتكز على الدلالة والمدلولات المرتبطة بالواقع والعالم المحيط، أو المعنى السياقي والموقفي الذي يتصل بسياق أو بموقف معين، أو المعنى النصي الذي يتجلى من الجمل المترابطة في تسلسلها". وخلص روبين براور من تحليله للعديد من النصوص المترجمة لقناعة تفيد بأن طرائق الترجمة انعكاس لتصوّرات المرء عن زمانه، وأن الأفكار التي تسود في عصر من العصور تساهم إلى حدّ كبير في تحديد قيمة الترجمة فيه.
ومثلما اختلف الدّارسون حول مناهج الترجمة وطرائقها، اختلفوا أيضا حول الغرض والغاية من الترجمة. ففي الوقت الذي يدعو شلايرماخر إلى النقل الأمين للنص المترجم، وإلى الحفاظ على خصوصياته الأسلوبية والتعبيرية وعلى طابعه الأجنبي من أجل أن تؤدي الترجمة دورها في إنجاح عمليات التثاقف وتشجيع التنوّع، نجد مقابل هذا النموذج الذي يمّحي فيه المترجم، ويتوارى خلف الأعمال الأجنبية، مدرسة أخرى ترى أن الهدف الأساسي من الترجمة هو إقامة علاقة مع الآخر وإنجاح عملية التواصل بين الشعوب والألسنة المختلفة، ومن هذا المنظور، فالترجمة ليست مجرّد تعبير وأداة تبليغ بل هي وسيلة لتقريب المعنى، ليس لمنطوق النص الأصلي، بل لفهم القارئ المستهدف، وهي بهذا المعنى أيضا "عمل على اللغة، وتفكير فيها مما يسمح للثقافات المختلفة أن تتواصل وتتحاور في ما بينها، فهي المثاقفة التي تسمح للنص بأن ُينقل من ثقافة إلى أخرى، وأن يُصاغ في قوالب مختلفة، تمنحه بفعل ذلك دلالات ووظائف جديدة" (الهواري، الوصلة الشبكية نفسها).

أنفاستوطئة :
ما الترجمة؟
سؤال تتضاعف أهميته وتتعدد مستويات طرحه عندما ننتقل من ميدان اللغة الأبجدية على اختلاف ألسنها، إلى الترجمة من وإلى اللغتين: الأبجدية العقلانية، لغة غتبرغ Goteberg من جهة، واللغة السمعية البصرية سينمائية كانت أو تلفزيونية، في ارتباطهما باللغتين البصرية مفردة والسمعية منفردة من جهة ثانية. وإذا كان هذا الموضوع من المواضيع العلمية المعاصرة التي استقطبت اهتمامات الباحثين، وخاصة في علم النفس وعلم الاجتماع و اللسانيات والسيميائيات وعلوم التربية إلخ، فإن ذلك راجع بالأساس إلى تعاظم التأثير الذي لهذه اللغة الجديدة على السير العام للأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات المعاصرة بصفة عامة، وعلى التواصل بين الأفراد والجماعات والمجتمعات في العالم المعاصر.
الترجمة "تفسير الكلام بلسان آخر" [ "المنجد في اللغة"، دار المشرق، الطبعة الثالثة والثلاثون، بيروت لبنان 1986، ص، 60. ]. و هي كذلك: "نقل الكلام من لسان إلى آخر مع استهداف المعادلة بين المقول الأصلي والمقول المحصل عليه." [Dictionnaire HACHETTE 1994. Edition HACHETTE. Paris.  ]. أما القاموس / القرص المضغوط الفرنسي [H.F.H. Hachette multimédia H. livre 1998] فيعرف الترجمة باعتبارها: "التعبير بشكل غير مباشر عن فكرة أو مشاعر بواسطة الفن بصفة خاصة".
وقبل الانتقال لفحص مفهوم التأويل، نتوقف عند دلالة الترجمة في السبرنطيقا CYBERNETIQUE حيث تعني: "نقل ضخامة وفخامة وصفاء إشارة فيزيائية ـ صوتية أو بصرية أو سمعية بصرية ـ إلى مستوى ضخامة وتفخيم وصفاء فيزيائي أهم عند خروجها من جهاز قراءة القرص أو الشريط". هكذا يكون المترجم le traducteur ، هو العنصر المترجم للإشارات المستَقبَلة إلى تفخيم وصفاء ملائم أكثر للجودة المطلوبة عند خروجها من جهاز البث والعرض. [ D.F.H. 1994. P, 1892] 

أنفاسالترجمة في معركة التحدي الحضاري:‏
الترجمة هي اليوم في نقطة المحور من اهتمامات الدول المتقدمة، فالتواصل المعمم والاتصالات المتزايدة والمتسارعة بين شعوب العالم وأممه، أقطاره ودوله، جعلت العالم يتوحد رغم الصراعات والحروب المحلية المستمرة منذ بعيد الحرب العالمية الثانية إلى أيامنا وإلى ما شاء الله، على ما يبدو، وبسبب من هذه الحروب والصراعات ومن الوسائل الأرسخ والأصح بين الشعوب، الترجمة، وتستخدمها الدول المتقدمة لأغراض كثيرة منها ما هو مفيد (سوسيولوجيا الثقافات مثلاً) ومنها ما هو بالغ الإساءة أقصد أحكام سيطرتها على الشعوب الضعيفة. بعكس هذه الأخيرة التي تستخدم الترجمة عن لغات الأمم المتقدمة وثقافاتها هي وجملة وسائل أخرى، عساها تكتشف طريقها الخاص إلى التقدم والنمو.‏
ولقد لاحظت، أثناء وجودي في مديرية التأليف والترجمة بوزارة الثقافة السورية طوال ربع قرن، أن القارئ العربي يؤثر النص المترجم على النص المؤلف، ويؤثر في النصوص المترجمة تلك التي تعالج مشكلات العالم الراهن، السياسية منها والاقتصادية، العلمية والاجتماعية فالمؤسف حقاً هو أن حكومات الدول العربي تتصرف على العموم وكأنها تنظر بإزدراء إلى الترجمة فهي فعالية من الدرجة الثانية بالقياس إلى التأليف، وكذلك إلى المترجم، فعمله يكاد يكون آلياً في نظر بعض المسؤولين، ولكن هل شجعت هذه الحكومات المؤلفين؟...‏
الواقع المأسوي حقاً هو أن الثقافة بكل أنواعها تأتي في الدرجة الأدنى من سلم اهتمامات الحاكم العربي. ولا تخدعنك بلاغة الحاكم العربي المفتعلة عند كلامه عن الثقافة، فهي ضرب من ضروب الهروب في مواجهة مشكلة صارت مع الزمن مستعصية على الحل. وينسون أن الثقافة هي تكوين الإنسان وأنه إذا ضعف الإنسان أو غاب تهافتت الفعاليات الاجتماعية الأخرى سواء منها السياسية والاقتصادية.. وحتى الدفاعية.‏

أنفاسإن الترجمة الصحافية وسيلة اتصال بين الحضارات، تساهم في تفاعلها وفي تعزيز تراكم العطاء الإنساني، لذا يجب الاهتمام بها وفهم جوانبها المختلفة. هذا ما سنحاول سبر أغواره من خلال هذا المقال الذي يطمح إلى ملامسة بعض مبادئ الترجمة في المجالات الصحفية، وذلك من خلال الحديث عن النقط التالية: تصرف الصحفي في الترجمة، تأثير نوعية المتلقي، تأثير إديولوجيا الصحيفة، تأثير الحصة الزمنية المتوفرة، تحريف المعنى والمسألة الأخلاقية في الترجمة الصحفية...
1- حدود تصرف الصحافي في ترجمة النص الأصل : متى يتحتم على المترجم أن يتصرف في الترجمة التي يقدمها؟ كيف يتم هذا التصرف وما هي معاييره وحدوده؟ ما هو الهدف من التصرف في الترجمة؟
إن التصرف في الترجمة ينبع من رغبة ملحة في خلق التواصل بعد التحرر من الارتباط الوثيق ببعض مكونات النص الأصل ومحاولة صياغة نص جديد يأخذ إلى حد بعيد بعين الاعتبار نوعية المتلقي وظروف التلقي الجديدة في اللغة الهدف. ويعدد باستان ثلاثة عناصر تدفع المترجم إلى التصرف في النص الأصل:
- عدم نجاح الترجمة الحرفية حين يتعلق الأمر باللعب بالمفردات أو بالمتلازمات اللفظية.
- اختلاف وضعيتي التلقي في اللغتين عندما يتعلق الأمر بتمرير حقيقة أو واقع غير موجود في اللغة الهدف مثلا.
- الرغبة الواعية في تغيير طبيعة ونوعية الخطاب الأصل، كتلخيص نص أو تبسيط نص مغرق في التخصص لإنتاج نص جديد يسهل فهمه من قبل القارئ العادي.
إلى هذا الحد يبقى التصرف منتميا لما نسميه ترجمة، لأنه لا يسعى إلى التصرف في المعنى بتغييره أو استبداله بمعنى جديد. وبما أن الترجمة الصحافية تسعى في غالب الأحيان إلى نقل أخبار وتقاسم معلومات مع القراء، فلا يجوز أن يقصي النص المترجم النص الأصل بتغييره أو النقص أو الزيادة في معناه. إن التصرف برفض الأصل أو تجاوزه قد يكون مسموحا به في الاقتباس المسرحي أو الترجمة الفلسفية النقدية مثلا، لكن لا يجب قبوله متى تعلق الأمر بالترجمة الصحافية. قد يلجأ الصحافي-المترجم في بعض الأحيان إلى ترجمة تلخيصية تقتضيها المساحة المخصصة لمقاله في جريدة، وهذا شيء مقبول متى تمت المحافظة على المعنى والأفكار الرئيسية دون تحريف أو تشويه.