الزمان والنظام
عن جاستون باشلار "النظام ليس في الزمان، وإنما الزمان هو تكريس نظام مفيد وفعال نفسيا ولعلنا نستطيع التسليم مع برجسون بأن إختلال النظام في المكان ليس إلا نظاما غير متوقع، وجدلية النظام واللانظام ليست لها قاعدة مكانية " 1 .
على ضوء هذا الإجتزاء، نضع التساؤلات التالية المتعالقة بها وهي:

  • الأسبقية الوجودية الإدراكية هي لمن؟ هل للزمان أم للمكان؟ ، أم لا توجد أسبقية تزامنية بينهما؟، فالمدرك مكانا هو المدرك زمانا في ملازمة تمليها قابلية الادراك العقلي، ولا يمليها تكامل أو إنفصال الزمان عن المكان؟ فحيثما ندرك مكانا ندرك زمانيته الملازمة له وبغير هذا التداخل الادراكي الزمكاني المشترك لا ندرك مكانا ولا زمانا .. . .
  • إذا كان الزمان جوهرا لا إدراكيا للعقل، والمكان بخلافه جوهر إدراكي للعقل، فهل نستطيع إدراك المكان بغير دلالة ملازمة الزمان له؟ وفي إستحالة إمكانيتنا إدراك الزمان بغيردلالة موجود المكان. كما ليس متاحا لنا إدراك مقدار الزمان بغير دلالة حركة اجسام المكان داخله فيه.

يعتبر معظم فلاسفة اليونان القدماء، منهم الرواقيون، يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس ان الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل.
هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده افلاطون وارسطو أذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر - هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين، - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وإدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي غير منظور في حاضرمتحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية - لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان ." 1 " العبارات بين شارحتين هي لكاتب المقال".

خورخي سانتيانا (1863- 1952) فيلسوف امريكي من اصل اسباني وهو احد فلاسفة تيار الواقعية النقدية الامريكية التي ضمت كلا من ريتشارد رورتي، وجورج سيلارز ، وجون سيرل، وكل منهم اختط له منهجا فلسفيا خاصا به.
أرتبط المذهب الطبيعي في الفلسفة الامريكية ب (سانتيانا) الذي ورد على لسانه (هو نمط الفلسفة التي لا تقبل بأية حقيقة مطلقة سوى الطبيعة فقط، وتعتبرالطبيعة مبدأ كل وجود وكل معقولية وكل قيمة ) كما (ويرفض المنهج الطبيعي الثنائيات مثل: عقل – طبيعة/ روح – مادة، معتبرين الثنائيات عقلية وليست فعلية، ذلك أنه (يطبعن) الانسان العقلاني، ويروحن المادة، والعقل لا يناقض الطبيعة، فالعقل موجود في الطبيعة ).

بضوء العبارات السابقة تكون كل ثنائيات الوجود هي وحدة أدراكية واحدة ولا فرق بين أحد قطبيها في نفي الاخر بل في التعايش معه والاقتران المتضاد التخارجي الضروري به، ولا معنى لأحدهما بغياب حضور الآخر، الثنائية بعد أدراك أحد قطبيها يكون حضورالغائب الثاني معياريا تضاديا لفهمنا الاخر، ولا تتّعين الثنائية الا بعد أمكانية تعيّنها وجودا مدركا كموضوع أو على الاقل مقاربة حضورها كحدس قابل التحقق في الادراك...

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟
لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.
وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي(حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا.فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي, ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

حوار فلسفي اجراه الباحث الجزائري مراد غريبي مع الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف حول جدل التاريخ.
الاستاذ مراد غريبي: قرات لك انك لا تؤمن بوجود جدل تاريخي يحكم المادية التاريخية لا ماركسيا ولا هيجليا, كيف توضح لنا هذه الانتقالة الفكرية لديك؟
ا. علي محمد اليوسف : نعم في الفترة الاخيرة كان لي رأيا مفاده كلا المنهجين الجدل المثالي والجدل الماركسي لا يمتلكان التحققات العلمية التجريبية الحادث حصولها على صعيدي المادة والتاريخ واقعيا عبر ازمان وعصور انثروبولوجيا تطور تاريخ الانسان أو التحققات غير الفلسفية المتشككة في عدم حدوث تطور حركة التاريخ بإلزام الضرورة الحتمية كما يزعمون.

والتاريخ في تطوره المتقدم الى امام والمتراجع الى الخلف تحكمه العشوائيات والمصادفات والصراعات التي لا يحتويها قانونا ولا تستستوعبها نظرية تقوم على الزامية الضرورة الافتراضية في وجوب تقدم حركة التاريخ الى امام على الدوام.

فالحتمية الضرورة هي تصورات نظرية فلسفية واحكام تلزم التاريخ بها كقانون طبيعي وهي – اي الحتمية  - هي ليست من حركة التاريخ بشيء كي تكون قانونا مستقلا طبيعيا يعمل بعيدا عن رغائب الانسان.

أن يكون أفلاطون ماديا أكثر من هيجل عقدة فلسفية يتوجب الوقوف عندها طويلا. هيجل صاحب اكتشاف الديالكتيك المثالي على صعيد الفكرالذي أثار حفيظة جميع تلامذته من ماركس، شتراوس، فيورباخ ، شتيرنر، وانجلز، وباور وآخرين معه الذين عرفوا بحلقة الشبان اليساريين المنشقين عن هيجل، الذين أخذوا على هيجل إيغاله تغليب كل ما هو فكري يصنعه الذهن على كل موجود مادي مستقل في وجوده.

صحيح لم يكن الفرق بين المقولة الكلاسيكية المادية والمثالية أيهما أسبق المادة على الفكر أم العكس الفكر على المادة لم تكن متبلورة بهذه الصيغة القاطعة الحادة التي نجدها اليوم بالفلسفة في الادبيات الماركسية منذ الربع الاول من القرن العشرين خاصة بعد نجاح ثورة الاشتراكية الشيوعية في روسيا القيصرية 1917. ويمكن الوقوف عند بعض النقاط الفلسفية التي كان لها ارضية تمهيد للمادية كفلسفة منها:

الادراك واللغة
(من الممكن الاستغناء عن اللغة للوصول الى الانطولوجيا) مقولة سفسطائية
خطأ هذا التعبير الفلسفي السفسطائي يكمن في محاولة استبدال وسيلة اللغة الادراكية التجريدية ب(الادراك ) المباشر الحسي الانطولوجي والاستبطاني المجرد من اللغة وهو محال أن نجد ادراكا مجردا عن لغته فالادراك هو تفكير حسي لغوي وليس مجرد أحساسات لا تمتلك صوريتها اللغوية التجريدية... وهذا الاتجاه الفلسفي بمقدار ما يحمله من أدانة واضحة الا أن فلاسفة الوضعية المنطقية التجريبية حلقتي فينا الوضعية المنطقية واكسفورد التحليلية اللغوية أخذا كليهما بهذا الاحتمال.
ويحمل هذا التعويل الخاطيء مقدما على أن أدراك الاشياء في وجودها الانطولوجي حسيا داخليا يعني أن تلك الادراكات الحسية هي لغة تعبير تواصلي لا تعتمد وسيلية اللغة في أدراكها الاشياء، وهو خطأ لا يمكن تمريره فالإدراك الحسي هو لغة ايضا لا تختلف عن أصل أية لغة تواصل صوتية أو مكتوبة كان تعلمها الشخص الذي يحمل ادراكه، الادراك لغة تصورية تجريدية لا تخرج على أبجدية اللغة التواصلية العادية. بعبارة توضيحية أكثر الادراك ليس بمقدرته اختراع لغة ادراك خاصة به تختلف في بنيتها التركيبية نحويا وبلاغيا وقواعد هي غير نمط وشكل لغة التعبير العادية التي يتحدث بها مجتمع معين أو أمة معينة.. والادراك الخارجي الانطولوجي غالبا ما يكون لغة صورية استبطانية صامتة.

1
البُنيةُ الفلسفية للعلاقات الاجتماعية تُمثِّل مَنظومةً إنسانِيَّةً للخَلاص الوجودي ، وخُطَّةً معرفيةً للإنقاذ الشامل . وهذا يدلُّ على الترابط بين الفِكر الإنساني وكَينونةِ المُجتمع الحاضنة لسلوكِ الأفراد المنطقي ، وتاريخِ الجماعة الواعي . والترابطُ بين الفِكر والكَينونة انعكاسٌ طبيعي للسِّياق الحياتي الذي تنشأ فيه الرموزُ اللغوية والأسئلةُ المصيرية ، ونتيجةٌ حتمية للتأثيرات الشعورية على النُّظُم الثقافية في حياة الأفراد ، الذين يُشكِّلون رؤيتهم المعرفية للذات والموضوع اعتمادًا على زاوية الرؤية للعَالَم بِكُلِّ تحوُّلاته وتناقضاته ومصالحه المُتضاربة . وزاويةُ الرؤية لا تُحَدِّد التَّصَوُّرَ الذهني للأحداث والاتجاهَ المعرفي للوقائع فَحَسْب ، بَل أيضًا تُحدِّد طبيعةَ المُحيط الاجتماعي ، والانقسام الحاصل في أنويته الداخلية ، والتَّشَظِّي الموجود في الحياة اليوميَّة ، وكيفية تَوليد أنساق العقلانية الناقدة ، مِن أجل تأويلِ الظواهر اللغوية ، وتحليلِ النُّظُم الثقافية ، وتفسيرِ مصادر المعرفة ، وَفَحْصِ آلِيَّات التَّفكير ، باعتبار أنَّ النظام الفكري لا يُمكن الحُكْم عليه خارج السِّياق الاجتماعي . والهدفُ من هذا الحراك الاجتماعي هو تحويل الأفكار إلى أفعال ، والأفعال إلى معرفة ، والمعرفة إلى سُلطة ، والسُّلطة إلى مشروع لتحرير الوَعْي مِن الخَوف، ولَيس تَسليط الخَوف على الوَعْي للهيمنة عليه . وهذا مِن شأنه كشف عمليات إنتاج المعنى في اللغة ، وإظهار الأدوات الإبداعية في المُجتمع ، وإزالة الأقنعة عن الكلمات .

من المعلوم أن الفلسفة عرفت في القرن العشرين ظهور العديد من المدارس وميلاد النظريات التالية:
- يبدأ القرن بنشر كتاب سيغموند فرويد (1856-1939) بعنوان "تأويل الأحلام" (1900) والذي فيه فرضية الفكر اللاواعي، أي "اللاوعي". من خلال التحليل النفسي يمكن للفرد الوصول إلى هذا اللاوعي، وتفسير عدد من الظواهر مثل الأحلام، والخطأ، والأفعال الفاشلة. لكن ماذا يكشف هذا البحث؟ في الأساس يكشف عن الدوافع الجنسية للسلوك البشري ("الرغبة"). من خلال فهم هذه الدوافع، التي أصبحت فاقدة للوعي، يكون لدى المرء فرصة لعلاج العصاب. سيحظى فرويد بالعديد من التلاميذ، وكذلك المعارضين مثل أدلر وايريك فروم أو حتى كارل يونغ ، حيث يتحدى الأخير أهمية النشاط الجنسي ويفضل ربط محتوى اللاوعي بالنماذج الرمزية الأصلية" الكونية.

- حاول برجسن (1849-1941) بتجاهله التحليل النفسي، وهو أيضًا عدو كبير للفلسفة المثالية الهيجلية، في ("مقال عن المعطيات الفورية للوعي" ، "الفكر والمتحرك") إعادة تأهيل ظاهرتين وفقًا له تم التقليل من شأنها: الديمومة (النفسية) والحدس كطريقة للمعرفة. أما فلاديمير يانكيليفيتش (توفي عام 1985)، فهوم فيلسوف مختلف في كتابه " لست أدري ماذا " ، وهو أحد المتابعين برجسن وآلان (1868-1951) وهو ديكارتي يمجد الطابع غير المسبوق للفكر والإرادة و الأخلاق.

هيجل والجدل

يصنف دارسو فلسفة هيجل انها قامت على ثلاثة  ركائز هي المنطق, والطبيعة , والروح, معتبرا الطبيعة هي (تخارج) العقل بالمكان, والروح أو التاريخ هو تخارج العقل في الزمان.

السؤال لماذا استخدم هيجل لفظة (تخارج) بدلا من لفظة (جدل)؟ تخارج العقل مع الطبيعة هو تخارج (معرفي) وليس تضادا جدليا, فعلى قدر اعطاء العقل موجودات الطبيعة من ادراك معرفي, تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير العقل معرفيا ايضا. التخارج المعرفي لا يقوم على مجانسة نوعية بين العقل والطبيعة بدلا من جدل غير حاصل على صعيد علاقة العقل بالطبيعة كبنية ادراكية شاملة او كموضوعات وجودية منفصلة بصفات وماهيات مختلفة. التخارج الجدلي بين العقل في ادراك تجريد التعبير اللغوي هو من نوع وعي قصدي معرفي. اما ان العقل يدرك علاقته بالاشياء جدليا فهذا يلزم العقل بتفكيره التجريدي الدخول في جدلية تجمع الفكر بالمادة المدركة في تضاد يجمع نقيضين في مجانسة نوعية واحدة لانتاج مركب ثالث. لا اعتقد جدل الفكر مع الواقع يقوم على تضاد يجمع نقيضين متجانسين, بل يدخلان بعلاقة تخارج معرفية كما سبق وذكرنا.

هيجل علاقة الجدل بين المنطق والعقل

يصنف بعض الفلاسفة وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل, وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة , وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خصيصة بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

جوهر فلسفة هيجل هو(المنطق  موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي, اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له.عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل, رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق الجدلي.

بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. كلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته. كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه؟ الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها.

الحقيقة والمنطق

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.

ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها, وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية, فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة, بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية. الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها, والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

 يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء. لذا مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي, أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كمفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي  :

  • الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي.
  • عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.
  • تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..
  • لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا. بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة. فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية ,كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

منطق الحكم

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري, فالتصورلا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

  • الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.
  • الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع, فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.
  • الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.
  • الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية, فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.
  • الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير, والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.
  • في لغة المناطقة الذي ينكرالاستدلال الكلي بدلالة الجزء, فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

برادلي ومطلق المثالية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

  • يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري, سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته, والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر.1

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي, أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي, بل هي معطى إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته. معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل, فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان : الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

  • في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله : المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء, ولا يوجد ما يعقبها, والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي, يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة. 2

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه, فقط اتساءل كيف يكون المظهر(الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

علي محمد اليوسف /الموصل

الهوامش :1. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص54

2. نفسه ص 255

 

تصدير: اللغة تجريد التعبير اللفظي عن المعنى الادراكي في مرجعية بيولوجيا العقل. فهل اللغة استعداد فطري موروث ؟ ام هي نزوع انساني غريزي مكتسب بالتجربة الحياتية ومؤثرات البيئة والمحيط وقبلهما العائلة لغرض ادامة التواصل الدائم بين  النوع الواحد البشرالذين يربطهم العيش المشترك؟

اللغة البيولوجيا والفطرة

نرى الامر واقعا انثروبولوجيا طبيعيا حينما نعتبر فهمنا اللغة البشرية على انها (موضوع بيولوجي), رغم خاصية اللغة التجريدية الغالبة على البيولوجيا. على الاقل بما تذهب له النظريات العلمية في دراسة وظائف مكونات الدماغ. وليس مباحث الفلسفة على السواء التي ترى موضوع اللغة بالتفسير البيولوجي مصدره الرؤية الذاتية لاختراع تصنيع كل فرد لغته الخاصة به كسلوك مجتمعي في محكومية اشتراطات عديدة منها فطرية واخرى بيئية مكتسبة في تكوين ما يطلق عليه عالم اللغات جومسكي (النحو الكلي) الذي يجمع قواعد اكثر من لغة واحدة.