أنفاس- كل عام وانت بخير عمتي.
- ومن اين يأتي الخير .. الا ترى حالتي كالميت الذي لا يقوى على الحركة.. آخ ..آخ .. ما قيمة هذه الحياة البائسة وحيدة هنا .. لو وقعت ومت فلن يدري بي أحد .. اتمنى الموت على هذه الحياة .. لعلي اجد فيه راحة لم أعرفها في حياتي .. لقد نشأت على الشقاء والعذاب ..
كان قلب خالد يحدثه طوال الطريق أن هذا الحوار سيقع لا محالة، وسيسمع الشكوى التي صارت تؤرقه .. فحال عمته خيرية يرثى لها، وهو لا يستطيع ان يفعل لها شيئا. كانت تنظر وهي تخاطب خالد بعيون فيها الحزن والحسرة الممزوجة ببصيص ضئيل من الامل الى الصورة المعلقة على الحائط.. الله يرحمه عمك جمال .. كان زينة شباب البلد .. كان طيبا ووطنيا ويحبه كل الذين عرفوه.. نظرت الى الصورة .. حدقت فيها .. كانت صورته باهتة الجوانب باللونين الاسود والابيض وقد صارت بفعل الزمن مصفرة ارضيتها ويبدو عليها كأنما اخرجت من تحت اكوام التراب والغبار .. اه كم مرت سنوات عليها وهي معلقة مكانها..ولكن ملامح عينيه ووجهه ما تزال واضحة. صارت صورة جمال جزءا لا يتجزأ من حياة خيرية.. لقد سمَّى ابنها الاوسط عدنان عندما ولد له أول صبي بعد انتظار سنوات على اسمه .. الكل ينادي عليه جمال ويذكره بالراحل الذي لم يعد .. يشعر أنه اكتسب محبة خاصة بين اخوانه بسبب الاسم. الكل يتحدث عنه بافتخار ومرارة.. لقد انتظرت وصفية سنوات لاجله .. كانت ترفض من يتقدم لها .. تقول لهم ان جمال سوف يعود .. كانت تصر على لبس خاتم الخطوبة رغم مرور سنوات على غيابه .. صار الكل يعرف قصتها .. كانت كلما تذكرته، تشرع في البكاء بصوت مكتوم خشية ان تبدو علي وجهها عواطفها واضحة .. كان هذا علامة ضعف غير مقبول وشيئا اجتماعيا غير مألوف ان يصدر من البنت بين الناس!

أنفاساعتاد على المرور من هنا . تحمل حميره رمالا على أظهرها يسوقها نحو أماكن البناء أ و الترميم داخل المدينة العتيقة. ينادونه باسمه.  (Juanito ) هو ذاك الاسباني الأصيل النازح من بلاد الأندلس تجاوز الخمسين من عمره . يشتغل بحميره منذ أ ن وطأ ت قدماه شمال المغرب أيام النزوح الاسباني إلى هناك . الجميع من أهل البلدة يعرفونه. يتعامل معه الكل بحذر زائد حازم في عمله . حميره هي الأخرى لا تكل فكم بيت من بيوت تطوان حملت رمال بنائها . كانت ذا أصل إسباني لونها أشهب ولها علو كعلو البغال. ذات أرجل قوية، صبورة ومدربة تدريبا كان يجعلها تمر وسط الأحياء بازدحاماتها وفوضويتها دون أن تحدث أية خسارة .
كانت سبعة، بعدد أيام الأسبوع وكان لكل واحد منها يوم راحة، خاصا به. فحين يعمل الستة يظل السابع في عطلته الأسبوعية، في زريبة بمكان يسمى ( عقبة الحلوف ) . كان موعدي في جلسة المساء، حين تميل الشمس تاركة ظلها قرب باب دكاننا، فتنشر حرها المسائي على باقي السطوح المجاورة والفجوات المنسية . كنت أخرج كرسيا خشبيا أجعله مقعدا لجلوسي في انتظار قافلة الحمير المحملة بالرمال، وكان لها قائد يتقدمها بناقوس علق في عنقه، فكانت تسير على إيقاع خطواته . وكانت شمس الصيف الحارقة تدفع حشد المارين ليستنجدوا بظل الألواح الخشبية المثبتة فوق أبواب الحوانيت تحميهم من لفحاتها . وكنت أستغل اللحظة فأخرج لجلستي المعتادة .. وكانت عند عصر كل يوم. أستأنس بظل الكروم التي تتدلى بين ألواح متشابكة ومثبتة على الجدران .

أنفاسليس من السهل على أي وجه آدمي ألا يضحك ويكركر من الضحك فور أن يرى قدمي خالد الغريبتين.. مهما كان هذا الوجه جادا أو صارما، حتى لو كان صاحب هذا الوجه موغل في التزمت ومتماد في الوقار.. سيضحك حتى لو رآهما في كل لحظة. اعتاد أهل الحارة على رؤية قدمي خالد الكبيرتين المفلطحتين، دائما مفروشتين على الأرض وتشغلان مساحة واسعة من أي مكان يقف أو يمشي عليه. ولا بد أن يضحك الإنسان للنكات والتعليقات التي تقذفها الأفواه بلذة وتتلقفها الآذان بمتعة.. صبية الحارة يطلقونها والرجال.. أحيانا النساء يطلقنها مستلذات بها. وما أسرع انتشار النكتة كسرعة انتشار أغنية فيديو كليب جديدة..
- قدماك تصلحان لتسوية الشوارع غير المسفلتة.
- أعطني قدميك لأهجم بهما على إسرائيل.
- الشلوت من قدمك يفسخ الإنسان إلى فلقتين.
- كل قدم منها مثل الحوت، لا لا .. مثل سمكة القرش.
 البعض يبالغ في كبرهما بقصد التفكه ويقول أن طولهما يصل إلى ثمانين من السنتيمترات، لكن في الحقيقة بالكاد يصل طول كل قدم إلى أربعين من السنتيمترات.. يبرز على جانب كل قدم درنات شبيهة برؤوس الفئران، ومشط القدم منفوخ مقوّس كالسلحفاة، فيبدوا قدمه كحبة بطاطا مزرّعة بالغة الكبر بما نبت بها من أدران.

أنفاس-1-
    ... و هي تحتضر في سرير النهر ، أدركت " ايـزة " في النهاية أنها تدفن أسرارها للأبد ، و ما سقط سهوا كانت ترشفه و قطرات الندى ، تبتلعه بحسرة ... فتتحول ذاكرة القرية إلى صفحة بيضاء ، لكنها مخدوشة ، و في حاجة إلى إعادة كتابة تاريخها و مجدها الآفل ... رأت طيورا بيضاء محلقة في الأعلى ، و بقربها نبتت عشرات الجثث و البنادق مصوبة طلقتها نحو الغزاة ... شعرت برحابة الأرض و سماحتها و بهطول أمطار بعد طول سنوات عجاف ... رأت أزهارا تشرئب معانقة نور الشمس ، و الحرية ... سمعت زغاريد تعلو مكسرة سبات ليل طويل ... رأت علما ينكس ، و آخر يعلو خفاقا و جنودا يعبرون الجسر الملعون ، خارج القرية دون رجعة ... أغمضت عينيها و رحلت مطمئنة مبتسمة
-2-
 تحت الجسر ، اختفت كل معالم الحياة ، بقايا جذوع أشجار يابسة ، و هو كل  ما استقبله قبيل اجتياز إلى القرية .
في  أعلى التلة كان مسكن مقدم القرية لا يزال منتصبا كبرج مراقبة قروسـطي ، و فجأة فتحت نوافذه ، و بدت منها هامات صغيـرة ، علا صراخها ، و غير بعيد منه ، تعالى نباح كلاب صاخب ، و حدها كعجوز كانت جالسة القرفصاء مسندة ظهرها لسور شبه متداع ، قرب منزل صغير ، حيّت الوافد الجديد ، لكنه تجاهلها ، و هو يتابع سيره متسائلا : << أما تزال لعنة هذه الشمطاء تلاحق القرية ؟ >> فكر في التوجه نحو بيت كان له ذات يوم بها ، فعدل عن الفكرة بسرعة ، متذكرا أن لا شيء كان رحيما به ، و بأسرته لقد قتلوا جميعا و أصبحوا مجرد نكرة في ذاكرة النسيان .

أنفاسهارب انا من الموت وفزع !!!! والجماجم الحزينة نبتت لها أجنحة , والمقابر لاتنهض والليل موحش! والزمن الرديء يرضع من ثدي مخضبة بالدم !!!هو لامراة مجهولة ولدت حديثا...
اغتالوها ذات فجر بارد
زحام....وزحام!والقتلة تصيح: شعراء للبيع! شعراء للبيع!
والمشانق تفتح افواهها!
هارب أنا من الموت!
...والمطر الاسود يسقط حجارة ,ومولولات في شارع الحرية ودرب الحقيقة ترتعشن؟!!!!على يميني رجال يحملون جماجمهم  وبعض أعضائهم ويساري نساء تحملن فروجهن , وأمامي أطفال أشباه اطفال خلطوا مع الاسمنت خلطا, عيونهم تفزعني انها تتحرك تتحرك وتدمع!!!
 يتحول الدمع الى عاصفة وتنهار السماء ,تنفلت العيون فجاة تغادر بؤبؤالعين, وأولي كالمجنون هاربا وأصيح : عيون في الاسمنت
عيون في الاسمنت!  وفجاة يوقفني ظل ,لا ...لا هو جلاد , نعم الجلاد...!!!؟.....الجلاد....؟

أنفاس1.
أجول حائرة ، بشوارع ذاك الزمن البارد الممطر ، وفؤادي الوجل يرتجف ببين أضلعي خوفا كارتجاف من ينتظر حكم الإعدام بصقيع زنزانته...
ألملم أطراف ياقتي ...وأشده على عنقي الهش بأصابع عصبية لاتهدأ...، أشده أكثر ..فأكثر..وأنا أحتضن حقيبة يد قد حشرت بها كل مايجعلني على قيد الحياة.
حشرت بها هوية ...ووطنا بصحراء واشجارا...وهدايا قطفتها من السماء ليلا ونظمتها في شريط على قنديل حبك..لأجلك...
أحقا لن تأتي؟؟؟؟.....أحقا ستغيب كما يغيب الحق بأوطاننا؟؟؟..أحقا ستتركني وحيدة لزمن ثاني قد تبرأ منه نور الصباحات ..واحتله دجى الليالي؟؟؟..
مالذي أخّرك بهذا الشكل؟؟؟.....أهي أمرأة ثانية؟؟؟..أم أنها مسألة ثانية؟؟؟....أم أنه أمر يجب أن أقلق لأجله؟؟؟
هل أنت بخير؟؟؟...هل صحتك بخير؟؟؟...هل لازالت تدخن بشراهة؟؟؟؟..هل؟؟...هل؟؟....
أسئلة قيدتني كما الحبال من كل جانب ، وأرغمتتني على التوقف عن التهام الأمتار بقدميّ اللتين فقدتا شهية المشي.....، فوقفت على الرصيف..كما التمثال و قد اتسعت أحداقي خوفا عليه...كخوف الأم على الولد..

أنفاس"وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
            يظنان كل الظن أن لا تلاقيا"
- ابن زيدون-


هل كان عليّ أن أتسلق أغصان شجرة العائلة لأبحثُ بين الأوراق والفروع من جدي الأول حتى جدي السابع الذي- سامحه الله- أورثني جيناته المختلفة وليست المتخلفة، فأنا حتما لا أمتُ بوصف يتطابق مع أحدٍ من أفراد أسرتي الحالية ـ لا من جهة الأم، ولا من نسل الأب شكلا ومضمونا، ولولا معرفتي وثقتي بأمي لقلت أني ابنة (حرام) في ليلة عابرة..!؟
عرفت أني طفلة  معجزة حين حسم أبي الأمر في جلسة مغلقة جمع فيها أمي، إخوتي العشرة بما فيهم أنا.. وأفتى بصوت صارم وواضح :
  - أختكم.. لا يركبها عفريت ولا يصاحبها جان، ولا (مرفوع عنها) الحجاب.. وليست قديسة أو ولية من أولياء الله الصالحين..
 - لكنها تعرف كل شيء ومناماتها تتحقق سواء كانت خيرا أو شرا..

أنفاسوأنا أتبعها كظلها, كنت أضحك. قلت البارحة في نفسي : إذا أردت أن أعجبها فيجب أن تراني ضاحكا. أضحك, ليس ضحكا تماما لكنه أشبه بذلك؛ ابتسامة عريضة جدا.
في لحظة استدارت إلي. توقفت. توقفت أنا. عقدت ما بين حاجبيها في غضب. لملمت ضحكتي, أقصد ابتسامتي. لم تقل شيئا. بل قالت. لم أسمع. أم أنني لم أرد أن أسمع؟ قالت شيئا ربما يجعل الدمع ينفجر من عيني. لم أسمع شيئا.
استدارت وذهبت. تبعتها. لماذا أكذب؟ لم أتبعها. خفت منها وقفلت راجعا. لم أضحك هذه المرة أو لم أبتسم.
لم أعجبها إذن! أم لم تعجبها ابتسامتي؟ ابتسامتي الضاحكة؟ لماذا يضحك علي "رأسي" عندما يوهمني أنه إذا رأتني كذلك فستعجب بي وتكلمني وأكلمها - لكن فيم سنتكلم وماذا سأقول لها؟- وستضع يدها في يدي حتى يسح منهما العرق وتذهب معي إلى الحديقة وتطلب مني أن أشتري لها شيئا مالحا وساخنا. ونجلس على مقعد حجري تحت شجرة وافرة الظل ونضحك. نضحك بصخب حتى ينزعج الآخرون ويطلبوا منا أن نخفض من صوتينا. فنذعن نحن لذلك أو أذعن أنا وتطلق هي بعض الشتائم –لا أدري إن كانت ستفعل بصوت مرتفع حتى يسمعوها- ويدها لا تزال في يدي تتصببان عرقا, تأكل الأشياء المالحة والساخنة التي اشتريتها لها من بائع ما في الحديقة. هل ستعطيني منها ما "أملح به أسناني"؟ لذلك طلبت من أمي أن تعطيني بعض الدراهم. أعطتني. لم تعطني إلا بعد أن صبت على مسمعي أسفارا من التذمر والشكوى واللعنات على هذا الجيل الذي لا يجيد شيئا غير الأكل والنوم بلا فائدة ترجى منه.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة